الوقف ومقاصد الشريعة
مقاصد التشريع العامَّة هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختصُّ ملاحظتها بالكون في نوع خاصٍّ من أحكام الشريعة؛ فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامَّة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها..
لم يستخدم علماؤنا القدامى مصطلح المقاصد، وإنما عبَّروا عنه بالمصلحة، ويُعَدُّ الغزالي [1] أوَّل مَنْ تَكَلَّم عن الضرورات الخمس، فقال: "المصلحة: المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع من الخَلْقِ خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم؛ فكل ما يتضمَّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يُفَوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة" [2].
ويُعْتَبَر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور [3] أوَّل من عرَّف المقاصد تعريفًا مستقلاًّ؛ حيث قال: "مقاصد التشريع العامَّة هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختصُّ ملاحظتها بالكون في نوع خاصٍّ من أحكام الشريعة؛ فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامَّة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخلُ في هذا -أيضًا- معانٍ من الحِكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواعٍ كثيرةٍ منها" [4]، وتعود أهميَّة مقاصد الشريعة الإسلاميَّة إلى كونها لم تَذَرْ صغيرة ولا كبيرة في حياة الإنسان إلاَّ وتضمَّنتها في أحكامها وجودًا وعدمًا؛ فالمقاصد تُراعي ما لا تَقُومُ حياة الإنسان إلاَّ به، فتُوجِبه عليه، وتُحَرِّم عليه كل ما يُؤَدِّي إلى ضرره وإيذائه، كما تُراعي ما يُيَسِّر حياة الإنسان ويجعلها مقبولة، فتُلزمه به أو تندبه إليه، كما تُبيح له ما من شأنه تجميل الحياة وتزيينها.
فالمقاصد ميزان دقيق يستطيع العلماءُ به الوصولَ إلى الأحكام الشرعيَّة للمستجدَّات الحياتيَّة للإنسان؛ وذلك من خلال تنزيل أحكام الضرورات والحاجيات والتحسينات، وبمراقبة ميزان المصالح والمفاسد، ومن ثَمَّ فإننا نجد الشريعة الإسلاميَّة قد سايرت مُتَطَلَّبَات العصور المختلفة، فجُعلت الشريعة الإسلاميَّة قاعدة ينطلق منها المؤمن في إصلاح حياته وشأنه؛ لأنها لم تَخْرُج من هوًى نفسيٍّ، وإنما جاءت من هدي الشرع الحنيف؛ وإنها مهما استُبدلت بمجموعة القوانين الوضعيَّة فلن يجد الإنسان بديلاً عنها في سدِّ ضروراته وحاجياته وتحسيناته [5].
ولقد أكَّد كثير من العلماء على أن الوقف ليس من التَّعَبُّدِيَّات التي لا يُعقل معناها، بل هو معقول المعنى، وهو ممَّا أسماه العلماء بالمصلحي؛ فهو نوع من الصدقات والهبات والصلات، وقد أكَّد القَرَافِيّ [6] ذلك بقوله: "ولا يُصَحِّح الشرع من الصدقات إلاَّ المشتمل على المصالح الخالصة والراجحة" [7]. ومن ثَمَّ فالعلاقة وثيقة الصلة بين الأوقاف ومقاصد التشريع الحكيم؛ لذلك فإن الوقف الخيري الذي يُراد به التصدُّق ابتغاءً لمرضاة الله تعالى فهو وإن كان من باب التعبُّد، لكنه معقول المعنى، وتَظْهَرُ منه المصالح المُعْتَبَرَة واضحةً جليَّةً للعاجل والآجل؛ مِنْ دَفْعِ الحوائج، وعلاج المرضى، وتحقيق التكافل الاجتماعي.
فالوقف يجمع بين الهبة والصدقة؛ فقد يكون هبةً وَصِلَةَ رحم؛ بحسب نيَّة الواقف والعَلاقة بالموقوف عليهم، وقد يكون صدقة لوجهه تعالى مجرَّدة عن كل غرض، وهو في حالتيه يخدم المستقبل، ويدَّخر للأجيال المقبلة، وقد ترتَّبت عليه مصالحُ واضحة للعيان؛ فبالنسبة للأفراد الذين قد تسطو عليهم عادية الزمان، وتقسو عليهم صروف الدهر، فيعجزون عن العمل، أو تنضب عليهم الموارد فيجدون في الوقف غيثًا مدرارًا، ومَعِينًا فيَّاضًا يُحْيِي مواتهم، ويَنْقَع غُلَّتهم [8]، ويُبْرِئ عِلَّتهم.
أمَّا بالنسبة للأُمَّة فإنها تجد في الوقف مرفقًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا لمساعدة الفقراء والمُعْوِزِين، ومعالجة المرضى في المستشفيات الخيريَّة، وتسهيل التنقُّل بالقناطر، وحفر الآبار، واتِّخاذ الصهاريج، وقد نجد مؤسَّسة دينيَّة وثقافيَّة تُشَيِّد بيوتَ الله للمُصَلِّينَ، وتَرْفَع صروحَ المدارس والجامعات للعلماء والطلاَّب والدارسين، الذين يأتيهم رِزْقُهم بلا خوف أو وَجَلٍ أو أذى، فيهتمُّون بالدرس والعلم والبحث ونشر المعرفة [9].
فالوقف قادر على أن يدخل في مجالات الحياة كافَّة، فيُلَبِّي مطالبها على أكمل وجه وأتمِّ صورة، فلا يحتاج الفقراء إلى غيرهم في سدِّ رَمَقِهم، ولا ينكمش المجاهدون في ثغورهم عن الجهاد بسبب احتياجهم؛ لأن الوقف مدد كافٍ لعددهم وعُدَّتِهم؛ فيُسهم مساهمة فاعلة في بناء الرباطات والمراكز في مناطق التقاتل والتَّمَاسِ مع العدوِّ، وتقديم الدعم للمجاهدين فيما وُقِفَ في سبيل الله تعالى، فيُصرف منه أرزاقهم، ويُشترى به الكُرَاع [10] والسلاح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، حجة الإسلام (450 - 505هـ/ 1058-1111م): مولده ووفاته بخراسان، له نحو مائتي مصنف، أشهرها: إحياء علوم الدين (انظر الزركلي: الأعلام:7/22).
[2] أبو حامد الغزالي: (المستصفى:1/417).
[3] محمد الطاهر بن عاشور (1296-1393هـ/ 1879-1973م): رئيس المفتين المالكيين بتونس، وشيخ جامع الزيتونة وفروعه، من أشهر مؤلفاته: (مقاصد الشريعة الإسلامية، والتحرير والتنوير في تفسير القرآن) (انظر: الزركلي: الأعلام:6/174).
[4] ابن عاشور: (مقاصد الشريعة الإسلامية ص251).
[5] انظر: أحمد الريسوني: (نظرية المقاصد ص204)، وطه عبد الرحمن: (تجديد المنهج في تقويم التراث ص122).
[6] أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس شهاب الدين القرافي: فقيه انتهت إليه رئاسة المالكية في عصره، توفي سنة 684هـ، من مؤلفاته: (أنوار البروق في أنواء الفروق، والذخيرة) (انظر الزركلي: الأعلام 1/94).
[7] القرافي: (الذخيرة:6/302).
[8] نَقَعَ غُلَّتَهم: أَي أَرْوى عَطَشَهم، (انظر ابن منظور، لسان العرب، مادة نقع:8/359).
[9] انظر: عبد الله بن بيه: بحث بعنوان: (رعاية المصلحة في الوقف) ص5.
[10] الكُرَاعُ: قيل: هو اسم يجمع الخيل والسلاح، (انظر ابن منظور، لسان العرب، مادة كرع:8/306).
- التصنيف:
- المصدر: