الغيبة وأخطارها

منذ 2014-04-30

نتناول داءً عضالًا ألم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وهو داء الغيبة أعاذنا الله وإياكم منه. هذا الداء به قطعت أواصر المودة والمحبة بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجلبت الشحناء، وجلبت البغضاء، وذهبت حسنات أناس سدى، أناس اجتهدوا في الصلوات واجتهدوا في الصدقات، واجتهدوا في الحج والاعتمار، وضيعوا الحسنات باغتيابهم للمؤمنين والمؤمنات.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فبين يدي حديثنا في ليليتنا هذه إن شاء الله نذكر بأننا في شهر من الأشهر الحرم التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة من الآية:36]، وفصلها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ​ [البقرة من الآية:217]، فالإثم في الشهر الحرام ليس كالإثم في غيره، والذنب في الشهر الحرام ليس كالذنب في غيره، فجدير بنا أن نمتثل أمر ربنا سبحانه وتعالى، وأن نحذر ظلم أنفسنا أو ظلم غيرنا من عباد الله، قال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة من الآية:36].

ما يجب على من سمع الغيبة:

ما هو اللائق بك إذا وجدت قومًا يغتابون الناس؟

يليق بك ألا تشاركهم في الأكل من هذه الجيفة، فلا تشاركهم ولا تلوث لسانك، وتمرض بطنك بهذا القبيح الخبيث. وعليك أن تقف موقف رجل عاقل تنصرهم ظالمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» قالوا: كيف ننصره ظالمًا يا رسول الله؟! قال: «تمنعه من الظلم فذاك نصرك له»، فقف عند هؤلاء وانههم عن المنكر، وذكِّرهم بالله، قل لهم: لا يليق بكم أيها الفضلاء! أن تخوضوا في الأعراض، لا يليق بكم أيها الفضلاء! أن تلوثوا أفواهكم بالخبيث من القول، أنتم طيبون لستم للاغتياب بأهل، فاتقوا الله في أعراض إخوانكم، وليتذكر كل واحد منا قوله عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».

فلو وجدت قومًا يغتابون الناس فذكِّرهم بالله، تؤجر على هذا التذكير، وترفع درجتك عند الله سبحانه وتعالى.
دعا عتبان بن مالك ذات يوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فقال: يا رسول الله! تعال إلى بيتي صلّ فيه، أَتَخذ من ذلك المكان الذي صليت فيه مصلى، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت عتبان فصلى ثم جلس مع أصحابه، فقد حبسهم عزان على طعام صنعه لهم، فإذا بأصحابه يطعنون في رجل يقال له: مالك بن الدخشن، ويقولون إنه منافق، فما كان من رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام إلا أن قال لهم: «أليس قد قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟» قالوا: بلى يا رسول الله! ولكن نرى وده ومجلسه مع المنافقين، قال عليه الصلاة والسلام: « إن الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله»، فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم دافع عن مالك في بيت عتبان.

وكذلك في غزوة تبوك سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كعب بن مالك: « أين هو؟» فقام رجل يتكلم في كعب بن مالك، قال: يا رسول الله! حبسه برداه، والنظر في عطفيه، أي: عجبه اختياله بثيابه، ونظره في أكتافه وغروره بهذه الثياب وشغله عن الجهاد في سبيل الله، فقام معاذ وقال: لا والله يا رسول الله! ثم قال للرجل: بئس ما قلت، ثم قال: والله يا رسول الله! ما علمنا عليه إلا خيرًا، فدافع عن كعب بن مالك أمام هذا المغتاب.

فإذا جاء رجل يقول: فلان من الناس بخيل، فقل له: يا أخي! اتق الله وهذا لا يجوز وأنا ذهبت إليه وأكرمني، وفلان ذهب إليه وأكرمه، وصنع أعمالًا من المعروف، وإذا قال رجل عن آخر: إنه متكبر، قل له: ليس هكذا يا أخي! أنا رأيته متواضعًا... أنا رأيته يجالس الفقراء... أنا رأيته يحمل متاع الفقراء أحيانًا ويساعدهم... رأيته دعاه فقير من الفقراء إلى بيته فأجاب، فليس هو بمتكبر أبدًا، فدافع عن عرض إخوانك، فمن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة.

فأول واجب عليك أخي المسلم! أن تنهى عن المنكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رد عن عرض أخيه المسلم قيض الله له ملكًا يرد عن وجهه النار يوم القيامة» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهذا جدير بك.

أما إذا ضعفت أمام هؤلاء الجالسين وكان جمهورهم جمهور قبيح مغتاب، فلا ترضهم أبدًا بسخط الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: « من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس». فإن لم تستطع الإنكار فاترك هذا المجلس، ولا تحاول إرضاء الأصحاب بمعصية ربهم سبحانه وتعالى، بل اترك المجلس قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}  [الأنعام:68]، وقال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].

فلا يليق بك أن تشاركهم في هذا النتن الذي يقولون، وأن تلوث لسانك، وأن تلوث فمك، وأن تضيع حسناتك على هؤلاء الذين تقوم باغتيابهم، فحسناتك تلقائيًا تتحول إلى من اغتبته، ولذلك ورد عن ابن سيرين أن رجلًا أتاه وقال: اغتبتني يا ابن سيرين! قال: أأنت أبي حتى أغتابك، قال: كيف تقول هذا الكلام؟ قال: إني لا أرضى أن تذهب حسناتي على أحد إلا أن تذهب حسناتي لأبي، فلم أكن لأضيع حسناتي لك ولغيرك.

فلا تذهب بحسناتك سدىً بعد أن اجتهدت في تحصيلها، بعدما صليت وصمت وزكيت واعتمرت وحججت لا تضيع الحسنات على أقوام هم في بيوتهم آمنين مطمئنين، وأنت تهدي إليهم هذه الحسنات التي تعبت فيها واجتهدت فيها.

جدير بك أن تكون عاقلًا نبيهًا في كيفية اغتنام الحسنات، هذا واجب عليك أمام مجالس الاغتياب، ولا يليق بك أن تغتاب الصغير أيضًا، فهو مسلم عرضه كعرض المسلمين، ولا يجوز أن يغتاب على الرأي الراجح من أقوال العلماء، وكذلك المجنون لا يجوز أن يغتاب فهو مسلم من المسلمين.

اهتمام الكتاب والسنة ببيان عظيم خطر اللسان:

ولهذا جاءت نصوص الكتاب والسنة تحثنا على قلة الكلام وعدم الإكثار منه، قال تعالى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} [النساء من الآية:114] أي: لا خير في أكثر الكلام الذي يتكلم به الناس: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». قال النووي رحمه الله: "فإن استوى عندك الوجهان في الكلام ولم تدرِ أفي الكلام خيرٌ أم لا؟ فأمسك عن الكلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صمت نجا»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»".

ولذلك كانت كلماته عليه الصلاة والسلام قليلة معدودة، قالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم كلامًا لو عده العاد لأحصاه، لم يكن يسرد الحديث سردًا كسردكم".

ولذلك شدد صلى الله عليه وسلم على الاهتمام باللسان الذي هو مصدر الغيبة والنميمة، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعًا -وقد روي موقوفًا عن أبي سعيد رضي الله عنه، ومن العلماء من قال: له حكم الرفع-: « ما من يوم يصبح فيه العباد إلا والأعضاء كلها تكفر اللسان». أي: تخضع وتذل لللسان، وتلح على اللسان، تقول له: اتق الله فينا فإنما نحن بك، أي: نجاتنا بك، فإن أنت استقمت استقمنا، وإن أنت اعوججت اعوججنا.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد»، ثم قال لمعاذ -فيما حسنه بعض العلماء-: «هل أخبرك بملاك ذلك كله؟»، ثم أمسك بلسانه فقال: «أمسك عليك هذا»، قال: يا رسول الله! أوإنا مؤاخذون بما نتكلم؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم».

وقال النبي عليه الصلاة والسلام كذلك: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» أخرجه البخاري في صحيحه.

فرُبَّ كلمة توبق على صاحبها دنياه وأخراه، هذا الرجل الذي قال لصاحبه: والله لا يغفر الله لك، قال الله له: من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان؟ اذهب فقد غفرت له وأحبطت عملك، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «تكلم والله بكلمة أوبقت عليه دنياه، وأوبقت عليه أخراه».

فيا عباد الله! حافظوا على ألسنتكم، فالغيبة خارمة للمروءة، ومردية في النار، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا»، ينجو المسلمون من النار، منهم من أتى بدرجة عليا، إن جئت تشبهها بدرجات الدنيا 90 أو 95%، أو 100%، وكل يأتي طامعًا في الدرجات العلى في الجنان فإذا بأقوام يوقفونه قائلين: قف مكانك! لنا عندك مظالم، اغتبتني يوم كذا وكذا... أكلت مالي يوم كذا وكذا... ضربتني يوم كذا وكذا... طعنت في عرضي يوم كذا وكذا، فهذا ينهش من حسناته، وهذا يأخذ، حتى يصل إلى الدرجات السفلى، أو يوبق كما قال الرسول في حديث المفلس: «أتدرون من المفلس؟ من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وحج وصيام ويأتي شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار».

وقد جاءت النصوص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام تحذر من الإنسان اللسان أيما تحذير، قال عليه الصلاة والسلام: «من يضمن لي ما بين لحييه» -يعني لسانه- «وما بين رجليه» -يعني فرجه- «أضمن له الجنة؟». هكذا يقول نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة؟»، ومن المعلوم أن كل كلمة نتكلم بها تسجل وتحصى، يقول الله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية من الآية:29]. {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة من الآية:6]، {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ . وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [القمر:52-53]، وكما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12]. وكما قال: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].

فجدير بك أن تحفظ لسانك، وأن تمسك عن الشر، وأن تمسك عن الخوض في أعراض المؤمنين والمؤمنات، قال الحسن البصري رحمه الله: "عجبت والله من قوم يحترز أحدهم غاية الاحتراز من بوله أن يرتد على ثوبه، ولا يحترز من اغتياب المسلمين والمسلمات"، وهو كما قال الحسن رحمه الله، فأعراض المسلمين نتن كما قد سمعتم من كتاب ربكم: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات من الآية:12].

المرء مخبوء تحت لسانه:

إذا أردت أن تقيّم شخصًا انظر ما الذي يخرج من فيه، هل خرج منه ثناء على الناس، وستر على المسلمين وستر على المسلمات؟ أم أن الخارج منه طعن في المسلمين وطعن في المسلمات؟ فإذا سمعت الكلم الطيب يخرج من فمه فاعلم أنه على خير، وإن رأيته ثرثارًا طعانًا فاعلم أنه على سوء وشر -والعياذ بالله-.واعلم كذلك أن في إيمانه نظرًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء»، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة». وقال سبحانه لنا بما يفيد هذا الأصل -وهو أن الكلمات شعار لقائلها- فقال: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران من الآية:118] أي: إن كنتم من أهل الفهم فنحن بينا لكم الآيات من الكلمات التي تخرج من أفواه أعدائكم. وقال سبحانه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30].

تستطيع أن تقيم من أمامك بشيء من الهدوء، تنظر في كلماته التي تخرج منه، وتنظر في حركاته وفي مدلولات الكلمات، وتعطيه حكمًا بعد ذلك يناسبه أو يناسبك في التعامل معه كذلك. إذا رأيته ثرثارًا كثير الكلام فاعلم أن هذه الثرثرة تجره ولابد إلى اغتياب المسلمين والمسلمات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون»، والثرثار كما قال الترمذي رحمه الله تعالى: هو كثير الكلام.

الغيبة كبيرة من الكبائر:

وصنف آخرون فقالوا: إن هناك ملابسات تعظم أمر الغيبة وقد تصل بها إلى أكبر الكبائر، فتتوقف هذه الجريمة على قدر المغتاب، وعلى القدر الذي اغتيب به، وعلى المجلس الذي اغتيب فيه، قال الإمام أحمد رحمه الله: "إن لحوم العلماء مسمومة" وقال آخرون: إن اغتياب أهل الفضل والصلاح أشد من اغتياب غيرهم؛ لأن الله قال: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب»؛ ولما مرَّ أبو سفيان بسلمان وصهيب وعمار عام الفتح قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر لهم: أتقولون هذا لسيد قريش؟ ثم انطلق أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر! إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك عز وجل».

وهذه عائشة رضي الله عنها لما قالت يومًا لرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: حسبك من صفية هكذا يا رسول الله! -وأشارت إلى قصرها- قال صلوات الله وسلامه عليه: «لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته».
وصح عن أسامة بن شريك رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل طاف قبل أن يرمي، فقال: لا حرج، فسئل عن رجل نحر قبل أن يرمي، قال: لا حرج، فما سئل في يوم النحر عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: لا حرج لا حرج، إلا على رجل وقع في عرض أخيه المسلم فهذا الذي أصيب بالحرج وأصيب بالهلاك.

فجدير بنا معشر الإخوة أن ننتبه لأنفسنا أمام هذا الداء، فثمّ رجل مع زوجته في فراش الزوجية الذي يفترض فيه أن يحمد الرب سبحانه وتعالى لكونه منّ بهذا الوئام، وبهذا الاجتماع، فتحاول المرأة جاهدة أن ترضي زوجها بذكر عيوب الناس، وبالطعن في الأعراض، هو الآخر يسعى في ذلك، فتتبدل ما بينهما من معيشة إلى نكد وهم وكرب وبلاء. يتساهل زوج من الأزواج فيخرج إلى إخوانه وإلى أشقائه فيخبرهم بحال زوجته في البيت، أو يخبرهم بالخصال التي تكرهها الزوجة، ظنًا منه أنه لا اغتياب بين الزوج وزوجته، وهذا اغتياب يكاد يكون أبشع، وقد يكون أظلم، فيخبر أمه بالذي كان من زوجته، من عدم تنظيف البيت، أو من عدم إدخال الطعام، أو من عدم الإحسان للأولاد، وخفي عليه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، فتلقنه أمه درسًا تقول له: النساء سواها كثير، وتملؤه غيظًا وحقدًا على زوجته، فيرجع إلى البيت وتحدث مشكلة كبرى قد يكسر ما أمامه على إثرها لذنبه الذي صدر منه. وقد يحدث العكس، يذهب الزوج إلى زوجته، فيخبرها بما تكرهه الأم، حينئذٍ تثيره الزوجة على الأم فيحدث له نوع من أنواع العقوق المردي والعياذ بالله.

فهذه أنواع من أنواع الاغتياب يسلكها الناس وهم لا يشعرون، والغيبة كما تكون باللسان تكون بالجوارح كذلك فالمحاكاة على سبيل الإيذاء والازدراء والسخرية تدخل في هذا الباب كذلك، كأن تحكي مشية شخص على سبيل الاستهزاء وعلى سبيل السخرية منه.

وأحيانًا يأتي الشيطان إلى أقوام فيزين لهم الاغتياب تحت ثوب قشيب فيعمد كثير من المتفقهة بزعمهم إلى الاغتياب تحت ستار إحسان الألفاظ، تسأله عن شخص فيقول: الحمد لله الذي هدانا! ويريد بذلك الطعن في أخيه المسلم، أو يقول: الحمد لله على العافية! أو يقول: نسأل الله السلامة! والمستمع يفهم من ذلك النيل الشديد بالمتكلم فيه.

كذلك تأتي امرأة تلبس الاغتياب ثوب الترحم، فتقول -مظهرة الشفقة على أختها المسلمة-: مسكينة فلانة، مسكينة فلانة، مظلومة فلانة، ثم بعد هذه التقدمة والثوب الذي تلبسه للغيبة تقول: صنع بها زوجها كذا وكذا، وقال بها أخوها كذا وكذا، وتذكر كل ما تريد تحت هذا الثوب الذي تصنعت وتسترت به ألا وهو ثوب الترحم على أختها المسلمة. وقد علمت تمام العلم أن أختها المسلمة تكره أن يذكر عنها هذا الذي ذكر تحت أي ثوب كان، وتحت أي شعار كان، فبعضهم يغتاب تحت ثوب الترحم، وتحت ثوب التعجب، عجبت من فلان! ألا تعجب إلى فلان، وتذكر المساوئ، أو تحت ثوب الغضب.

فالله سبحانه يعلم كل ذلك، ويعلم المقاصد ويعلم ما تكن الصدور وما تعلن، ومن ثم يثيبه على ذلك أو يعاقبه، قال الله سبحانه وتعالى في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح من الآية:18] أي: من خير وإيمان، {فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح من الآية:18]، فالله يثيب على ما تكنه القلوب، إن شرًا فشر، وإن خيرًا فخير.

حذر السلف وورعهم من الغيبة:

وهذا الداء البغيض قد رأى فريق من أهل العلم إنه يؤثر على الصيام، فيفطر الصائم، واستدلوا على ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه»، وبقوله عليه الصلاة والسلام: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب» وإن تكلم في إسناده لكن معناه قوي للشاهد الثالث.

فرأى فريق أن الغيبة تؤثر في الصيام، بل بالغ بعضهم وقال: إنها تفطر الصائم، وإن كان الجمهور على خلاف ذلك، لكن هذا يبين مدى خطر الاغتياب. ومنهم من أورد سببًا لورود حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» وإن كان في السبب نظر من جهة الإسناد أن المرأتين كانتا تغتابان الناس، أو أن الرجلين كانا يغتابان الناس، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم».

وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن الغيبة تنقض الوضوء، وقد وردت جملة من الأحاديث في هذا الباب، لكن في أسانيدها مقال، والجمهور على أنها لا تنقض الوضوء، لكن على كل حال هذا يبين خطر هذه الغيبة.

وقال فريق من أهل المعاني: عجبت والله من أمر رجل يغتاب المسلمين ثم يقوم إلى الصلاة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مضمضوا من اللبن فإن له دسمًا» واللبن حلال، فكيف نؤمر بالمضمضة من اللبن الحلال الذي له دسم، ولا نمضمض من النتن المتسرب إلى الأفواه من جراء أكل لحوم العباد.

فجدير أن نتبع هذا القول بأن يقال: إن المضمضة اللائقة بهذا هي الاستغفار والدعاء لهذا الذي قد اغتيب، والثناء على هذا الذي قد اغتيب، فهو دواء لازم وواجب على كل من اغتاب، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تبارك وتعالى.

ثم إن هذا الاغتياب من خوارم المروءة لا شك، وأنت كمسلم عاقل رزين تستطيع أن تقيم الشخص الذي أمامك من الكلمات التي تصدر منه. كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إذا ذكر عنده رجل بثناء حسن سأل: كيف هو إذا ذكر عنده أصحابه هل يطعن فيهم أم يثني عليهم؟ فإن قالوا: دائم الثناء على الناس، قال: إني أرجو له الخير، وإن كان دائم الطعن في الناس، قال: والله إني لا أظن الذي تظنون، أي: لا أظن به هذا الظن الحسن الذي تظنون.
وأحسن من هذا قول الله تبارك وتعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور من الآية:26] فأقوى الأقوال في تأويل هذه الآية أن الكلمات الطيبة تصدر من الأفواه الطيبة، ومن أصحاب القلوب الطيبة، والكلمات الخبيثة تصدر من الخبثاء، فهم لها أهل.

مدى اهتمام الشرع برعاية وصون الأعراض:

ونذكر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شهر من هذه الأشهر الحرم ألا وهو شهر ذي الحجة، وفي أفضل يوم فيه، وهو يوم النحر وفي أفضل بقعة من البقاع وهي مكة، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أتدرون أي يوم هذا؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، -ظنًا منهم أنه يريد أن يسميه بغير اسمه-، فقال: «أليس بيوم النحر؟»، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «أتدرون أي شهر هذا؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم -ظنًا منهم أنه يريد أن يسميه بغير اسمه-، قال: «أليس بذي الحجة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «أتدرون أي بلدة هذه؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أليست البلدة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله! -يعنون البلدة التي قال الله فيها: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَـٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل من الآية:91]-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذه، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه سمع».
فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حرمة الدماء وحرمة الأموال وحرمة الأعراض عظيمة عند الله كحرمة البلد الحرام، مع حرمة يوم النحر، مع حرمة شهر ذي الحجة.

إذًا فلنتناول في ليلتنا هذه شيئًا مما تضمنه هذا الحديث، ومما تضمنته هذه الوصية الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. نتناول داءً عضالًا ألم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ألم بكبيرها وبصغيرها، ألم بذكرانها وإناثها، ألم بعالمها كما ألم بجاهلها، ألم برؤسائها كما ألم بالمرءوسين، ألا وهو داء الغيبة أعاذنا الله وإياكم منه. هذا الداء به قطعت أواصر المودة والمحبة بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجلبت الشحناء، وجلبت البغضاء، وذهبت حسنات أناس سدى، أناس اجتهدوا في الصلوات واجتهدوا في الصدقات، واجتهدوا في الحج والاعتمار، وضيعوا الحسنات باغتيابهم للمؤمنين والمؤمنات.

تعريف الغيبة:

فلنتناول شيئًا مما يتعلق بهذا الداء من أحكام وآداب، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. داء الغيبة متفشٍ ومنتشر في أوساط أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والغيبة عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح مسلم: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: « ذكرك أخاك بما يكره»، قيل: يا رسول الله! أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟! قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته».

أدلة تحريم الغيبة من الكتاب والسنة:

أما النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وردت بتحريمها فهي فوق الحصر وفوق العد، فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات من الآية:12]. وورد حديث -وإن كان في إسناده مقال- في قصة ماعز الأسلمي رضي الله تعالى عنه، ارتكب فاحشة الزنا، فأرقت عليه مضجعه، وأقلقت باله ولم يهدأ له بال، ولم يستقر له قرار، فأزعجته أيما ازعاج! وكيف لا تزعجه هذه الجريمة والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر: «أنه رأى أقوامًا عراة رجالًا ونساءً في متن تنور، يأتيهم لهب من أسفل منهم فيحرق فروجهم فيسمع لهم ضوضاء، فسأل: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني من أمتك يا محمد!».

كيف لا ينزعج؟ والله يقول: {وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان من الآيات:68-70] الآيات.

انزعج ماعز غاية الانزعاج من هذه الكبيرة التي ارتكبها، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: طهرني يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأشاح بوجهه إلى اليمين، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل يمينه، وقال: طهرني يا رسول الله! فأشاح النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه إلى اليسار، فتدارى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآتاه من قبل اليسار، قال: طهرني يا رسول الله! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لعلك قبّلت»، قال: لا يا رسول الله! قال: «لعلك فاخذت»، قال: لا يا رسول الله! ثم قال إنه يعرف الزنا، وإنه قد زنى، فقال عليه الصلاة والسلام: «أبك جنون؟» قال: لا، يا رسول الله! ليس بي جنون، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرُجِم).

إمضاء لأمر الله سبحانه، وإقامة لحد من حدود الله رجم ماعز، فقال رجل من جلساء النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب له: عجبت من هذا الرجل الذي أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول يرده مرة بعد مرة، فلم يرض إلا أن رُجِم كما يُرَجَم الكلب، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت، ثم مرَ بهذين الرجلين على حمار شائل، أي: ميت قد انتفخ، وخرجت منه رائحة في غاية الخبث لا تطاق، فمرَّ النبي صلى الله عليه وسلم مع هذين الرجلين وقال لهما: «انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار»، قالا: نأكل من هذه الجيفة يا رسول الله؟! قال: «والذي نفسي بيده! للذي نلتما من أخيكما أشد نتنًا من هذه الريح، إنه والله الآن ينغمس في أنهار الجنة».

وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه جالسًا يومًا مع بعض أصحابه، فهاجت ريح نتنة، فقال لأصحابه: «أتدرون ما هذه الريح؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «هذه ريح الذين يغتابون الناس، ويقعون في أعراضهم».

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «مررت ليلة عرج بي بأقوام لهم أظفار من نحاس، يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم».وقال صلوات الله وسلامه عليه كذلك: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه الله ولو في قعر بيته».

وقال صلوات الله وسلامه عليه: «إن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم». وقال صلوات الله وسلامه عليه: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه».

هذه بعض النصوص الواردة في ذم الغيبة، وقال عليه الصلاة والسلام، في النميمة عندما مر بقبرين: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير» -أي: ما يعذبان في كبير في أنظاركم- ثم قال: «بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة». وفي كتاب ربنا: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ . هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10-11] {هَمَّازٍ} يعني: يعيب الناس. وقال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة:1] وهو الطعان العياب الذي يطعن في الناس ويعيب في الناس، هذه بعض النصوص ثم كم هائل منها يفيد تحريم هذا الداء المقيت.

وقد نقل فريق من أهل العلم كالحافظ ابن كثير رحمه الله، والحافظ ابن حجر رحمه الله، وكذلك ابن حزم رحمه الله، الإجماع على تحريمها. أما القرطبي رحمه الله فنقل الإجماع على أنها كبيرة، وإن كان في نقله للإجماع نظر إلا أن أكثر أهل العلم على أن الغيبة من الكبائر، ولذلك ذكرها العلماء الذين صنفوا في الكبائر، وذلك للوعيد الشديد الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المغتابين.

كفارة الغيبة:

نختم البحث في مسألة وهي مسألة التحلل من الذي اغتبناه، فهب أن شخصًا اغتاب شخصًا وعلم بعد ذلك أن الغيبة محرمة كما قد سمعتم، فهل يجب أن يتحلل المغتاب ممن اغتابه، أو يكفي أن يستغفر ويدعو الله له، ويثني بخير عليه؟

يرى الأئمة: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة رحمهم الله وقول عن أحمد أنه يجب أن تتحلل من الذي اغتبته وهذا محله -كما حمله العلماء- إذا بلغت الغيبة هذا الشخص الذي اغتيب، وكان من أدلتهم على مسائل التحلل في الأبدان والأعراض، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له عند أخيه مظلمة من عرضه أو من شيء فليتحلل منه قبل ألا يكون دينار ولا درهم»، وبحديث: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا».

فاستدلوا بهذا على أن التحلل لازم، وخاصة إذا كانت الغيبة وصلت إلى الشخص الذي اغتيب. ومن العلماء من قال: إن قياس الأعراض على الأموال والأبدان غير سائغ؛ لأن التحلل من الأموال والأبدان يرجع بفائدة على الذي ضرب، أما التحلل من الأعراض إذا ذهبت إلى شخص وقلت له: أنا اغتبتك فسامحني، فليست كل النفوس تتسع لهذا الكلام، وإنما هناك أناس صدورهم متسعة يفرحون بذلك منك، ويدعون الله لك بالتوفيق وبالمغفرة، وهناك أقوام يدخل لهم الشيطان بضعف في قلوبهم فيسألونك: أمام من اغتبتنا؟ ماذا قلت في حقنا؟ ويفتحون معك مسائل فتشوش أنت عليهم فكرهم، وتزيدهم همًا إلى الهم الذي وقع عليهم بسبب اغتيابك لهم.

ففي هذا المقام ترجع المسألة إلى مسألة المفاسد والمصالح، فحيث رجي من التحلل خير قدمت على التحلل، وحيث لا يرجى من التحلل خير اكتفيت بالثناء الحسن على من اغتبته، والاستغفار له، والتصدق من أجله إن شئت، فكل ذلك عمل صالح يكفر الله به عنك خطاياك، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ} [هود من الآية:114]. فجدير بمن اقترف شيئًا من ذلك منا جميعًا، وكلنا ضعفاء، وكلنا خطاءون كما قال ربنا سبحانه: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء من الآية:28]، جدير بمن صدر منه شيء من ذلك أن ينظر في أمر نفسه قبل أن يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وقبل أن ترد المظالم إلى أهلها، ثم عليه أن يستغفر الله استغفارًا كثيرًا؛ لأن الغيبة تترك أثرًا أيضًا على القلوب فتسودها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «إذا أذنب العبد ذنبًا ينكت على قلبه نكتة سوداء، فإن تاب وأقلع محيت، وإن عاد نكتت نكتة أخرى سوداء حتى تغطي القلب كله» -ثم قال-: «هذا هو الران الذي ذكر الله في كتابه»، وتلا: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].

فأكثروا من الاستغفار فالله غفَّار للذنب والزلات، وصلى الله على نبينا محمد وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

متى تباح الغيبة:

والغيبة كما سلف محرمة أيما تحريم، ولكن كما هو معتاد في أمور المحرمات فإن الله سبحانه وتعالى جعل حالات يكون فيها المسلم مضطرًا ويصيبه الحرج إن لم يغتب، فدفعًا لهذا الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت الرخصة بهذا الأمر، فكما أن لحم الميتة محرم وأكل الخنزير محرم لكن كما قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة من الآية:173] فالمضطر ضرورته تقدر بقدرها، قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام من الآية:119]. وهناك أحوال تلجئني إلى أن أذكر شيئًا في أخي يكرهه، فحينئذٍ إذا جاءت تلك الضرورة فإنها تكون بقدرٍ كما هو الحال مع أكل الميتة، وكما هو الحال مع التلفظ بكلمة الكفر.

فالأصل في الاغتياب أنه محرم إذ أعراض المسلمين محرمة كما سلف، وعندها يرد السؤال: ما هي الأمور التي تباح فيها الغيبة؟
- أول هذه الأمور: التظلم، وهي ذكر مظلمة ظلمني بها هذا الشخص، وقد قال تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ} [النساء من الآية:148] ففي هذه الآية جاءت أقوال العلماء، أحدها: إن من ظلم جاز له أن يجهر بالسوء من القول في حق من ظلمه، وثم قول آخر: إن من ظلم جائز له أن يدعو على من ظلمه، والقول الأول هو اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، أي: إنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم في عرض ظالمه. 

ومن هذا الباب يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم» والمطل من المماطلة، والمراد بالغني الغني الذي عليه دين وحل موعد السداد فيماطل، فمماطلته ظلم وفي حديث أبي داود بسند حسن: «لي الواجد ظلم» واللي هو المماطلة، والواجد أي الغني قال: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته»، أي: يحل لنا أن نتكلم في عرضه وأن نعاقبه، أما العقوبة فبالحد، فهذا الدليل الثاني على جواز الاغتياب لرد المظلمة.

ولكن لهذا ضوابط: أولًا: يقول ربنا: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى من الآية:40] فمثلًا شخص أكل مالك، أو تأخر في سداد التزام لك عليه، فعرضه حلال ولك أن تقول: هو أكل مالي، لكن ليس لك أن تقول: هو يسرق، هو يزني، ابنته صفتها كذا، أخته صفتها كذا، أمه صفتها كذا؛ لأن الله يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى من الآية:40] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما ما لم يعتدِ المظلوم» (المتسابان ما قالا) هذا سب، وهذا رد عليه السباب، إثم ذلك كله على البادي منهما ما لم يعتد المظلوم، فإذا اعتدى المظلوم تحول الحق عليه بعد أن كان له.

فمثلًا: رجل أكل مالك فهو آثم بأكل مالك، فإذا ذهبت أنت تقول للناس: يا ناس! فلان أكل مالي، فلك ذلك، مع أن العفو أفضل؛ لأن الله قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى من الآية:40]، وقال: {ذَٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج من الآية:60] ثم أرشد إلى العفو بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج من الآية:60] لكن على كلٍ يجوز لك أن تنتصر بقدر المظلمة، فإذا صدر منك هذا واستطلت في عرضه قائلًا: هو يمشي مع النساء... زوجته تمشي مع الرجال... ابنته صفتها كذا وكذا، حينئذٍ سيأخذ هو من حسناتك وقد تفوق هذه الحسنات الدين الذي لك عنده، ويضيع حقك تمامًا أمام الله سبحانه وتعالى بسبك وطعنك فيه، فإنك حينئذٍ قد تكون قاذفًا إذا أنت قلت فيه ما يدل على القذف.

ومن الأدلة على جواز غيبة الظالم بذكر مظلمته، ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود بسند حسن، أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان له جار يؤذيه، فذهب وشكاه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مرة بعد مرة والرجل لا ينتهي عن الظلم والأذى، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج متاعه إلى الطريق، فأخرج متاعه إلى الطريق، فمر به الناس وقالوا: ما هذا المتاع؟ قال: جاري يؤذيني، فكل من يمر يسب في هذا الجار، فلما بلغ الجار هذا الصنيع وهذا السباب ذهب إلى المظلوم وقال له: ارجع إلى بيتك فلن ينالك مني أذى بعد اليوم، فهذا من باب التظلم.

- كذلك تجوز الغيبة في الاستفتاء، فقد جاء أن هند بنت عتبة شكت أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فهل عليّ جناح أن آخذ من ماله بغير إذنه -وهو لا يعلم- قال: «خذي ما يكفيك وولدكِ بالمعروف»، فوصفته بالشح وهو يكره ذلك، لكن كان المقام مقام فتيا فحينئذٍ لم يعنفها الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا وجه ويكون بقدر كما سبق.

وإن كان من أهل العلم من يقول: هذا جائز بلا شك لتجويز الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الأولى أن تعرّض، تقول المرأة: ما رأيك في رجل شحيح لا يعطي زوجته ما يكفيها وولدها ولا تسمي، حتى تبتعد عن الغيبة، فالأفضل ألا تسمي ولا تذكر أحدًا باسمه، مادام الغرض سيتحقق والفتيا ستنال.

ومن هذا الباب -باب الاستفتاء- كذلك مجيء امرأة رفاعة القرضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولها: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير وإنه والله يا رسول الله! ما معه إلا مثل هدبة الثوب، وأشارت إلى طرف ثوبها -ولا شك أن زوجها يكره ذلك- قال عليه الصلاة والسلام: «لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا، حتى يذيق عسيلتكِ وتذوقي عسيلته».

ومما تجوز فيه الغيبة أيضًا عند الاستشارة كما جاءت فاطمة بنت قيس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قائلة: يا رسول الله! إن معاوية وأبا جهم فقال عليه الصلاة والسلام: «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه لكن أسامة» أي: أشير عليك بأسامة بن زيد.

- كذلك باب التعريف والبيان والتحذير، إذا كان رجلًا مشهورًا بالشر والفساد، مشهورًا بالاتجار بالمخدرات أو بالخيانة في النساء، أو بسرقة الأموال والسلب والنهب، جائز لك أن تحذر الناس منه، بل لزامًا عليك آنذاك أن تحذر الناس منه.

أقبل رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بجوار عائشة رضي الله عنها، فقال لها: بئس أخو العشيرة! فلما أقبل عليه ألان له النبي القول، قالت: قلت فيه ما قلت يا رسول الله! ثم ألنت له القول، قال: «يا عائشة! إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه»، فهذا في باب المداراة.

وقال عليه الصلاة والسلام كذلك: «ما أظن فلانًا وفلانًا يعلمان من ديننا شيئًا»، أو إذا كانت هناك مصلحة تعود على المسلمين بالنفع العام، كما فعل زيد بن أرقم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال عبد الله بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذهب زيد بن أرقم وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الخبر الذي كان.

- ومن ذلك الجرح والتعديل لمن يتكلمون بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فرُب رجل يكذب على رسول الله وهو لا يشعر، ونُصِحَ فلم ينتصح، فجدير بك أن تبين أمره، وهذا المسلك سلكه علماء الجرح والتعديل الأوائل كالإمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري وغير هؤلاء الأفاضل. أما الشيعة فقلّ فقههم في هذا الباب وطفق قائلهم يطعن في ابن معين؛ لأنه طعن في رجال كثيرين من رجال الشيعة: ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والرقيب شهيد فإن يك حقًا فهي غيبة وإن يكن زورًا فالوعيد شديد وهذا من جهل هذا القائل فإن ابن معين كان ينافح عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويبين حال الكذابين الذين افتروا الكذب على النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فهذه مواطن تشرع فيها الغيبة بالضوابط الشرعية التي سمعتموها، وقد صاغها بعض العلماء في أبيات شعر، وزاد بعضهم في هذه الأقسام التي ذكرت، وقلل بعضهم فيها، وأدمج بعضهم بعضها في بعض، والأمر في هذا كله قريب. ثم في ختام هذا الدرس هناك أمور ينبغي أن تفعلها أنت حتى لا توقع الناس في اغتيابك، منها المداراة كما بين النبي عليه الصلاة والسلام، فمداراة الناس مطلوبة، وكذلك إكرام الناس مطلوب، وكذلك اتقاء مواطن الشبهات، فلا تقف في موقف شبهة ومن ثمّ يطعن فيك الناس وأنت لا تشعر.

أمور تقيك من الغيبة:

مِنْ الذي يجنبك الغيبة الذميمة والمقيتة والبغيضة:

- إكثارك من ذكر الله، فهي وصية جامعة أرسلها سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء للأخوة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام آخى بينهما بسببها، قال سلمان لأبي الدرداء بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل: "أما بعد، فإني أوصيك بالإكثار من ذكر الله فإنه دواء، وبالإقلال من ذكر الناس فإنه داء، والسلام عليكم ورحمة الله...". كانت هذه رسالة موجزة وبليغة من سلمان، فقللها بعد ذلك ابن عون فقال: "ذكر الله دواء وذكر الناس داء"، وهذا يصدقه قول ربنا سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد:28].

لن تندم أبدًا يومًا من حياتك لكونك قلت: سبحان الله، لن تندم أبدًا يومًا من حياتك لكونك قلت: الحمد لله، ولكن قد تندم أيما ندم إذا ذكرت فلانًا من الناس بشر، لكن لن تندم لا في دنيا ولا في آخرة على كونك ذكرت سبحانه وتعالى. فعليك بالإكثار من ذكر الله فهو يشغلك عن ذكر الناس فضلًا عن ترطيب اللسان، فضلًا عن قمع الشيطان، فضلًا عن إرضاء الرحمن والارتفاع في الدرجات العلى، والترقي في النعيم المقيم.

فهذا من أنجع الأسباب للوقاية من الغيبة، فينبغي أن تتقي مجالس السيئين الشريرين الذين هم كما وصفهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كأنهم نافخو كير، بل والله هم أشد من نافخ الكير، قال عليه الصلاة والسلام: «ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة»، هذا الصاحب السيئ ما إن تغادر مجلسه حتى يغتابك أنت ويصورك بتصويرات مشينة مهينة أمام زملائك الذين كنت معهم.

فعليك بمجالسة أهل الفضل وأهل الصلاح؛ لأنهم في غيابك يدعون الله لك بالتوفيق. هذه بعض البواعث التي قد تبعث على الغيبة.

- ومن البواعث التي قد تبعث على الغيبة دفع الشائعات، فمثلًا: يبلغ عن شخص أنه قال في عرضك كذا وكذا، تقول: لا ما حصل مني كذا، بل هو الذي صدر منه كذا وكذا وكذا، وتقع في اغتيابه نتيجة شائعة جاءت إليك من مغرض من المغرضين. فيجب أن تنتبه لمثل هذه الشائعات وأن تتقي هذه الأدواء، وأن تسأل الله سبحانه وتعالى أن يهديك لأفضل الأخلاق والأعمال، وتستعيذ بالله من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء.

بواعث الغيبة:

هناك بواعث تبعث على الاغتياب جدير بنا أن نتقيها حتى لا نقع في هذه الغيبة المذمومة المحرمة، ومن هذه البواعث:

- قلة العلم بالله وبحدود الله؛ لذلك نجد الذين لا يعرفون حدود الله، ولا يوقرون أمره، ولا يعرفون حقوق أهل الإسلام هم الذين يغتابون، هم الذين، وهم الذين.... فلذلك العلم بحدود الله من أفضل الوسائل لكف الشخص عن الاغتياب.

- كذلك: قلة الورع، فمن قل ورعه طعن في الأعراض، أما من زاد ورعه فكما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في شأن زينب بنت جحش رضي الله عنها، قالت في شأن زينب مع حديث الإفك: "لما استشارها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: «يا زينب! ما تقولين في عائشة؟»، قالت: أحمي سمعي وبصري يا رسول الله! أهلك وما علمت عليها إلا خيرًا، قالت عائشة: فعصمها الله بالورع". فالورع يعصم الشخص من الوقوع في الأعراض، أما قليل الورع -عياذًا بالله- فيخوض يمنة ويسرة في أعراض المسلمين والمسلمات.

- ثم كذلك الدافع إلى هذا الداء البغيض: الحسد الذي يجب أن نتخلص منه، فالحسد يحمل على الغيبة، ويحمل على النميمة، كما قال الشاعر:

حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيهُ *** فَالقَومُ أَعداءٌ لَهُ وَخُصومُ
كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها *** حَسداً وَبَغياً إِنَّهُ لَدَميمُ

فالحسد يجعلك دائمًا تنتقد الناس، وتنتقص الناس، فجدير بك أن تسأل ربك سبحانه وتعالى أن يخلصك من هذا الداء.
- كذلك من البواعث على الغيبة المذمومة المقيتة هو: ترك الانشغال بعيوب النفس والنظر في عيوب الناس، كما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: «يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه»، «يبصر أحدكم القذاة -الشيء اليسير- في عين أخيه وينسى الجذع في عينه». فإذا انشغلت بنفسك وجدت فيها متسعًا للخوض فيها ومعها لإصلاحها، وابتعدت عن عيوب الناس، إذا انشغلت بنفسك لإصلاحها وجدت متسعًا للبعد عن الغيبة وللبعد عن النميمة.

وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الذي دار بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، فأجاب بآية كريمة لعلنا نتعلم منها قال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]. لن يسألك ربك سبحانه فيقول لك: من الذي كان على الصواب يا عبدي! علي أو معاوية؟ لن يسألك ربك عن هذا، إنما يسألك الله سبحانه كما قال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] هذا الذي سيسألك ربك سبحانه وتعالى عنه.

فلا تكن إذًا من الذين عميت عليهم الأنباء يومئذٍ فهم لا يتساءلون، سيسألك ربك عن نبيك محمد ماذا أجبته؟ كما قال عليه الصلاة والسلام: «إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟». فأنت مسئول بالدرجة الأولى عن نبيك وعمّا جاء به، فهل اتبعت هذا الرسول الكريم؟ هل امتثلت أمره؟ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء من الآية:64].

فاشتغل بعيوب نفسك، واسأل نفسك ما الذي امتثلت من أمر الله وما الذي ضيعته من أمر الله سبحانه؟ هل أنت ممن ستأتي يوم القيامة قائلًا: {يَا حَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر من الآية:56] فيا حسرتا، تعالي وحلي على هذا الشخص الذي فرط في جنب الله.

عظم إثم غيبة الأموات:

أما الأموات فغيبتهم أشد من ثلاثة وجوه أو أربعة:

- أولها: أنهم مسلمون وإخوة لنا، لأن أخوة الإيمان لا تنقطع بالموت فإن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر من الآية:10]، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام:«وددت أن أرى إخوة لنا»، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: «أنتم أصحابي، إخواني الذين يأتون من بعدي» أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فأخوة الإيمان لا تنقطع بالموت، فللميت حرمة، وحرمته ميتًا كحرمته حيًا، وكسر عظمه ميتًا ككسر عظمه حيًا، هذا أول شيء.

- الشيء الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا»، فرُبَ ميت تقوم بسبه وقد حط رحله في الجنة، قد رضي الله عنه وتجاوز عن سيئاته، وعفى له عما كان من سوء صنيعه واستقر في الجنة، وأنت فيما أنت فيه من هم وبلاء ونكد وشقاء.

- ثالثًا: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء».فلهذه القرائن المجتمعة: لا يسب الأموات، ولا يخاض في أعراضهم.

  • 54
  • 1
  • 75,502

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً