شقاء البشرية اليوم بسبب تحريف العقيدة
هنالك نقاط يجب أن لا تغيب عن بالنا كلما تحدثنا عن هذا الدين أو تكلمنا عن هذه العقيدة وهي...
الصراع بين العقيدة المحرفة والحقائق العلمية:
هنالك نقاط يجب أن لا تغيب عن بالنا كلما تحدثنا عن هذا الدين أو تكلمنا عن هذه العقيدة وهي:
1) ربانية هذه العقيدة، وهي المنهاج الأخير للحياة البشرية إلى يوم الدين.
2) إن هذه العقيدة التي يقام عليها صرح الشريعة هي فقط التي تكفل سعادة الإنسان في الدين.
3) وهي -وحدها- التي تجمع بين الروح والجسد في نظام الإنسان، والأرض والسماء في نظام الكون، وبين العبادة والعمل في نظام الدين، كما قال الأستاذ سيد قطب في العدالة الاجتماعية.
4) أن الأعمال كلها والتصرفات جميعها مبنية على العقيدة وهي انعكاسات لها.
5) كل عمل لا يرتبط بالعقيدة فلا وزن له؛ {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ} [إبراهيم:18].
هذه الأمور الخمسة لا بد أن تكون المنارة السامقة لكل من أراد النجاة من الشقاء، ولمن أراد الطمأنينة والسلامة والسعادة.
ومن أجل أهمية العقيدة: فلقد أفرد لها رب العزة مساحة واسعة من كتابه، وأعطاها فترة طويلة حتى تستقر في الأعماق وتعيش مع النفوس، فالفترة المكية كلها تقريبًا لا تكاد تخرج بنصوصها عن هذه القضية الكبرى، ولا تناقش إلا هذا الموضوع، وذلك لأن بناء النفوس بالعقيدة عملية بطيئة شاقة، قد يحتاج هذا العمل مدة توازي نمو الجسم نفسه، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ} [الإسراء:106].
فالفرق مقصود والمكث مقصود، وكذلك فإن استقرار العقيدة في الأفئدة يتوقف عليه تنفيذ جميع التشريعات، ومن هنا تأخر نزول التشريع إلى المدينة حتى تستقر العقيدة في نفوس الصحب الكرام الذين جعلهم الله ستارًا لقدره، ونصر هذا الدين على أيديهم.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحاط المسلمين)[10]. تحت عنوان: (انحلت العقدة الكبرى) -وأنتهزها فرصة لأنوه بقيمة هذا الكتاب فلو قرأه كل واحد من المسلمين، وحبذا لو احتوته كل مكتبة- يقول: "انحلت العقدة الكبرى، عقدة الشرك والكفر، فانحلت العقد كلها، وجاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاده الأول، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي، وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى، فكان النصر حليفه في كل معركة.. نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة، وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة، "كلمة واحدة اجتثت عادة متأصلة في القوم ورثوها كابرًا عن كابر (فهل أنتم منتهون؟) قالوا: انتهينا، انتهينا، بينما حاولت أمريكا"[11]. أن تحرم الخمر، واستعملت جميع الوسائل المدنية الحاضرة كالمجلات والجرائد والمحاضرات والصور والسينما لبيان مضارها، وأنفقت ما يزيد على ستين مليون دولارًا ضدها، وطبعت حوالي عشرة بلايين صفحة، وتحملت لتنفيذ القانون حوالي (250) مليون جنيهًا، وأعدمت ثلاثمائة نفس، وسجنت ما يزيد على نصف مليون، وصادرت من الممتلكات بحوالي أربعمائة مليون وأربعة بلايين جنيه، ومع هذا لم يزد الشعب الأمريكي إلا معاقرة للخمرة، مما اضطر الحكومة إلى إباحته سنة (1033م)".
والسبب بسيط: إن التنفيذ للأوامر يكون ناتجًا عن الاعتقاد.
وكذلك فإن العقيدة تمثل الجذور لشجرة هذا الدين، وما لم تكن الجذور ضاربة في أعماق الأرض، فإنها لن تحمل فروع هذه الشجرة الضخمة الباسقة، فالعمل الصالح لا بد له من إيمان متمكن في جوانب النفس وأغوارها وأعماق الفؤاد ومسارب الضمير.
وكذلك فالعقيدة تمثيل الأساس للبناء، والعمارة الضخمة لا بد لها من أساس مكين وقاعدة صلبة حتى يستقر فوقها البناء.
وهنا يبرز عامل آخر انبثق عن هذه الحقيقة، وهى آنه لا بد من بناء الأساس قبل الشروع برفع البناء وإلا فسينهار البناء كله، لا بد من البداية مع أي نفس ندعوها إلى هذا الدين أو نريد تربيتها على أساس الإسلام من الإيمان أولًا وقبل كل شيء، خاصة في هذا العصر الذي بهت فيه مفهوم العقيدة في نفوس أبناء هذا الجيل المنتسب إلى الإسلام، لا بد من انتهاج نفس الطريق الذي انتهجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تثبيت العقيدة في النفس ثم مطالبتها بعدها بالفروع، لا بد أن نعرف الناس بربهم وعظمته وهيمنته على الكون، فهو مالك الملك، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو الذى إليه يرجع الأمر كله، وهو الخالق الرازق.. لا بد من هذه البداية، أما أن نبدأ نطالبهم بتطبيق فروع الشريعة وهم لم يعرفوا صاحب الخلق والأمر، فهذا عبث ومحاولة لاستنبات البذور في الهواء.
ومن أجل أهمية العقيدة وحساسية موضوعها وجوهريتها: فقد كانت معظم نصوص العقيدة في القرآن بكلمة (قُل) التلقينية، {قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136].
وكذلك فإن علماء الأصول اشترطوا لبناء العقيدة نصوصًا قطعية الثبوت وقطعية الدلالة[12].
والآن لا بد أن أشير إلى نقطة هامة وهي: (التفريق بين التصور الإعتقادي والفلسفة):
إن التصور الإعتقادي تصور يستقر في القلب، ويرتضيه العقل، ويتفاعل مع المشاعر، وينعكس على التصرفات في واقع الحياة، والعقيدة -غالبًا- هي من أكبر العوامل التى لها تأثير في سير التاريخ وتغيير واقع الناس وحياتهم، وليس غريبًا عليك التغيير الكبير الذى حدث في الحياة منذ نزول العقيدة الإسلامية، وأما الفلسفة[13]؛ فإنها ترف عقلي لا يتجاوز الأخيلة وغالبًا يعيش في أذهان الفلاسفة، ولم تدفع الفلسفة بالبشرية خطوة واحدة إلى الأمام، فمعظمها نظريات تعيش في عقول الفلاسفة الذين يفكرون من أبراجهم العاجية، دون أن يكون لها حرارة التفاعل مع القلوب، أو الحياة مع المشاعر والنفوس أو انعكاس السلوك في الحياة.
وهنا أريد أن أنبه إلى قضية مهمة، أصبحت وكأنها حقيقة مسلمة في أذهان الذين يدرسون ما يسمى بالفلسفة الإسلامية.
إنه ليس من السهل أن تنقل العقيدة الربانية بوسائل بشرية وتفكيرات إنسانية، كما أنه لا يمكنك أن تنقل اللبن الطاهر بكأس أثرها خمرة، ولذا فليس من السهل أن تنقل التصور الإسلامي الرباني الصافي بقوالب فلسفية، لأنها تطفئ نوره وإشعاعه وتقتله، وتصبح العقيدة جافة بعد نداوتها، سلبية بعد إيجابيتها، معقدة بعد سهولتها؛ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر:22].
ولقد حاول بعض الجهابذة من العلماء الأفاضل نقل العقيدة عن طريق علم الكلام والمنطق -بعد أن افتتنوا بها- وذلك كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي المتوفى سنة (505 هـ) وإمام الحرمين الجويني، وفخر الدين الرازي سنة (606 هـ).
إلا أن التجربة كانت لديهم مرة، وكانت حصيلتها أن كادت تنزلق نفوسهم، وتضطرب تصوراتهم، مما اضطر الثلاثة أن يرجعوا عن الكلام أخيرًا.
فقد كتب الغزالي رسالته التي أسماها (إلجام العوام عن علم الكلام) وقال: "فلم يكن الكلام في حقي كافيًا ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيًا"، وقال: "الحق أن علم الكلام حرام إلا لشخصين"[14]. وأما الجويني فكان يعض أصابع الندم في أواخر سنين حياته لما فرط فيه في البحث عن الكلام، وكان يقول[15]: "عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، فالويل لابن الجويني".
ويقول الرازي[16]:
"نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا".
ويقول الشهرستاني: سنة (548 هـ) (صاحب كتاب الملل والنحل):
"لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعًا كف حائر على ذقن أو قارعًا سن نادم"[17]
نعم لقد تراجع الأعلام الثلاثة عن علم الكلام، ولكن متى؟ بعد أن أغرقوا العقيدة بالمنطق والكلام اليوناني المشوب بالأساطير الوثنية، وكيف يمكن لعقيدة التوحيد الخالصة التي نزلت من رب العالمين أن تنقل بالتفكير الإغريقي الملوث بالوثنية؟ إنه محال..
وكذلك فإن هؤلاء الأئمة كانوا عباقرة في علم الأصول، فحاولوا أن ينقلوا الأصول بواسطة علم الكلام والمنطق، فعقدوا الأصول، وأصبح علم الأصول جافًا بعد أن كان سهلًا مبسطًا، وإن كنت في ريب مما أقول فاقرأ رسالة الإمام الشافعي وانظر يسرها وبساطتها، وقارن -إن شئت- بينها وبين كتاب مثل جمع الجوامع للسبكي، والتحرير للكمال بن الهمام، وانظر الفرق الشاسع والبون الواسع.
وأعجب أن يبقى المنطق وعلم الكلام يدرسان إلى يومنا هذا، بحجة أن هذين ضروريان للعقيدة والأصول.
إن العقيدة الربانية التي تكفل القرآن ببيانها وإظهارها بيسر وبساطة لا يجوز أن تنقل بوسائل من تفكير بشري، يقول الشافعي: "لأن يبتلى العبد بكل شيء نهي عنه -غير الكفر- أيسر من أن يبتلى بعلم الكلام"[18].
وقال الإمام أحمد: "لا يفلح صاحب كلام أبدًا، علماء الكلام زنادقة"[19].
قال الإمام مالك: "لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء"، قال بعض أصحابه: أراد أهل الكلام[20].
ضرورة صفاء العقيدة مهمة ونقائها من آراء البشر:
وهذه نقطة مهمة جدًا بل أساسية في العقيدة التي نزلت من عند الله، إذا اختلطت بآراء البشر فإنها لا تبقى ربانية، ولا تبقى هي التي تقود إلى السعادة في الدارين، ولعلك بحاجة إلى زيادة تفسير؛ فتعال معي يا أخي نسأل التاريخ ونجول عصوره.
لقد حدثنا القرآن -الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- أن الرسل أجمعين جاءوا بعقيدة التوحيد الخالصة، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
هذه شهادة القرآن الصادقة.
والآن لنفتح معًا صفحات أخرى لنرى كيف بدل اليهود والنصارى هذه العقيدة.
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّـهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّـهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّـهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30].
ولو فتحت الكتاب المقدس لوجدته حافلًا بهذه اللوثات الوثنية، ففي الإصحاح الثالث: (فنادى الرب الإله آدم، وقال له أين أنت؟)، سبحانك يا رب وتعاليت عما يقولون علوًا كبيرًا.
إنه لا يعرف أين آدم، فمن هذا الإله؟! أوليس يعلم السر وأخفى كما حدثنا القرآن؟
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [المجادلة:7].
ألم يسمعوا قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:13-14].
ماذا حصل من جراء التحريف والتغيير في الكتب السماوية وفي العقيدة الربانية؟
لقد حصل الشقاء الذي نعانيه وتعانيه البشرية كلها اليوم، لقد أدخل رجال الدين اليهودي والنصراني كلامًا من عند أنفسهم، وهذا ما صرح به القرآن؛ {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ اللَّـهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79].
وكان مما أدخلوه عقيدة التثليث، وكذلك معلومات بشرية تعتمد على التجارب البشرية في الجغرافيا والفلك وغيرها، وكتبوا كتبًا في الجغرافيا سموها (الجغرافيا النصرانية)[21]. وكفَّروا كل من يخالفها، وأخذت الكنيسة تبحث عن علماء الفلك والجغرافيا الذين أعلنوا اكتشافاتهم العلمية، فأنشأت الكنيسة محاكم التفتيش، فاختبأ العلماء -الذين هم ملحدون في نظر الكنيسة- في الغابات والمغاور، وعاقبت من النصارى الذين يحملون هذه الآراء الجغرافية والفلكية المخالفة لنظر الكنيسة حوالي ثلاثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفًا أحياء، كان منهم العالم الطبيعي (برونو) سنة (1600)، وكذلك العالم الطبيعي الشهير جاليلو سنة (1642)، لأنه يعتقد بدوران الأرض، وعذبت كوبر نيكوس.
حتى قال أحد العلماء النصارى: "لا يمكن لرجل أن يكون مسيحيًا ويموت حتف أنفه"[22]، أي يموت موتًا طبيعيًا، بل لا بد أن يقتل أو يحرق.
ماذا كانت النتيجة؟ العداء بين العلم والدين.
بدأ العلماء يفكرون كيف يخلصون من سلطان الكنيسة وسطوتها واستطالتها؟
"لا بد من إسقاط إله الكنيسة حتى تسقط الكنيسة، لأن الكنيسة تستطيل باسم الله". وقد سبق الإنكار محاولة للإصلاح بمحاربة بعض تعاليم الكنيسة، كالتي قام بها لوثر المتوفى سنة (1546)، كلفن المتوفى سنة (1564)، وأخذوا يحاربون تعاليم البابا التي كانوا يسمونها تعاليم الشيطان، مثل عقيدة التثليث، وكذلك بيع صكوك الغفران، والاعتراف بالخطيئة، وقامت حرب ضروس بين هذين وبين البابا.
وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر بدأ العصر الذي سموه (عصر التنوير أو عصر سيادة العقل) وظهر فيه نيشته: الذي أعلن سيطرة العقل على الدين سنة (1714م)، وظهر (هيجل): الذي حاول أن يؤيد الدين بتخبط، إذ أن الله عند هيجل عقل -سبحانه وتعالى عما يشركون-.
وزاد الصراع بين الدين والعلم ببزوغ فجر القرن التاسع عشر الذي سمي بعصر (الوضعية) أو عصر سيادة الحس، الذي يعتبر الواقع أو الطبيعة هو مصدر المعرفة، وسادت الطبيعة على الدين والعقل، وأن عقل الانسان هو وليد الطبيعة، وطريق الانسان يبتدئ بالفردية وينتهي بالجماعة التي يجب أن يذوب فيها الفرد، والطبيعة هي التي تنفش الحقيقة في العقل.
وأشهر أبطال هذا العصر (أوجست كونت)[23]. ولكن لا ندرى كيف تنقش الحقيقة في العقل، وهل الحقيقة التي تنقشها الطبيعة في عقل البقرة والقرد كالتي تنقشها في عقل كونت وغيره؟
وقد ظهر في هذا العصر (دارون) الذي وضع كتابه أصل الأنواع سنة (1859م)، وكتابه الآخر أصل الانسان سنة (1817م)، وزاد النزاع واحتدم الخصام بين دارون وبين الكنيسة التي كفرته، ووقف الناس بادئ ذي بدء مع الكنيسة، ولكن الموقف أخذ يتحول تدريجيًا لصالح دارون، وقد وجد الناس أن هذه فرصة سانحة للتخلص من الغول البشع الذي يضطهد الناس باسم الدين[24].
وأنكر دارون تدخل الله في عملية النشوء والارتقاء، وقال: "إن تفسير النشوء والارتقاء بتدخل الله هو بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت".
ثم جاء (ماركس) ليعلن الإلحاد من خلال أبحاثه في الاقتصاد، فهو يرى أن الدين والقيم الروحية والأخلاقية والسلوك هو عبارة عن انعكاس عن المادة، وتاريخ العالم هو تاريخ البحث عن الطعام، وحدد في (المنيفستو) البيان الشيوعي المطالب الرئيسية للإنسان: "المأكل والمسكن والإشباع الجنسي"[25]، والدين عنده هو أفيون الشعوب.
ثم جاء (فرويد) ليعلن صرخته في عالم الجنس.. وقال بأن الغرائز هي التي تحكم الإنسان، وأن الروح لا وجود لها على الإطلاق، والحياة كلها جنس، حتى الدين والأخلاق فإنها انبثاق جنسي، فالطفل يحب أمه جنسيًا، ثم يجد الأب حائلًا دونها فينشأ عنده (عقدة أوديب)، والطفلة تعشق أباها جنسيًا، ولكن أمها تحول بينها وبين أبيها، فينشأ لديها (عقدة ألكترا)!!
ومن المعلوم أن الصهيونية العالمية كانت وراء هؤلاء.
تقول بروتوكولات حكماء صهيون [26]: "لقد رتبنا نجاح دارون وماركس ونيتشه بالترويج لآرائهم، وإن الأثر الهدام للأخلاق الذي تنشئه علومهم في الفكر غير اليهودي واضح لنا بكل تأكيد).
وبعد هذه المعارك المتواصلة بين الكنيسة وبين هؤلاء انزوى رجال الكنيسة بين جدرانها الأربعة، ورجعت كسيفة حزينة، وسقط إله الكنيسة في نفوس الناس، هذا الذي كانت تخضع الناس باسمه، والسبب في هذا بسيط جدًا: إن دين الله السماوي وعقيدته الصافية لم تدخل المعركة، إنما دخل المعركة آراء البشر الفجة المرتجلة، وأخذت تقاوم حقائق علمية وإحصائيات دقيقة تدعمها التجارب والبراهين.
يقول الأستاذ محمد البهي [27]: "ومن هذا يتضح أن صراع العقل مع الدين هو صراع الفكر الإنساني مع مسيحية الكنيسة، وإن دوافع هذا الصراع هي الظروف التي أقامتها الكنيسة في الحياة الأوروبية".
والآن ما هو موقف الكنيسة؟ لقد عادت تجري وراء الناس وتلهث على أثرهم، ترجوهم أن يحضوا ساعة أو أقل في الأسبوع مع الإعلانات والمغريات، ودونك إحدى الإعلانات[28]. المعلقة بباب إحدى الكليات لإقامة حفلة كنسية. يوم الأحد أول أكتوبر سنة (1950م) في الساعة السادسة مساء: عشاء خفيف، ألعاب سحرية، الغاز، مسابقات، تسلية، رقص! أسمعت؟ عادت ترجو الناس أن يجتمعوا داخل الكنيسة ولو على الرقص والتسلية!!
ولكن رغم أن الكنيسة هزمت إلا أن العداء بقي قائمًا بين العلم والدين، وبقي هذا العداء الذي أتعب البشرية وأشقاها، ولا زلنا نعاني آثاره، وندفع ضريبته من راحتنا وأبنائنا وأجيالنا، لا زلنا ندفع الثمن بما نعيشه من حيرة واضطرب ونكد وشقاء.
____________________________
[10] ماذا خسر العالم بانحاط المسلمين، ص: [88].
[11] أنظر في ظلال القرآن، الطبعة الرابعة، ج:[5] ص:[27] أخذًا من كتاب تنقيحات للأستاذ أبو الأعلى مودودي.
[12] قال ابن عبد البر من المالكية عن خبر الآحاد: "والذي عليه أكثر أهل الحذق منهم أنه يوجب العمل دون العلم -أي اليقين والقطع- وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد الله به وقطع، وقال قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر: أنه يوجب العلم والعمل جميعًا. منهم أبو الحسين الكرابيسي. ثم قال ابن عبد البر: أنه يوجب العمل دون العلم" انظر المسودة في أصول الفقه لآل تيمية صفحة [542].
[13] قال السيوطي: "أنه يحرم إلاشتغال بالفلسفة كالمنطق لإجماع السلف وأكثر المفسرين المعتبرين من الخلف، وممن صرح بذلك -التحريم- ابن الصلاح والنووي وخلق لا يحصون، وقد جمعت في تحريمه كتابًا، وقد رجع الغزالي إلى تحريمه". انظر شرح الفقه الأكبر: [4].
[14] فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة للغزالي، ص: [90] عيسى الحلبي.
[15] تلبيس إبليس لابن الجوزي: [93].
[16] شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري، ص: [7].
[17] انظر شرح الفقه الأكبر، ص: [7].
[18] انظر أعلام الموقعين لابن القيم: [4/842] وتلبيس إبليس: [19]
[19] تلبيس إبليس: [19].
[20] انظر شرح الفقه الأكبر: [6].
[21] انظر كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي: [571].
[22] انظر هذا كله في (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) للندوي، ص: [571]، وارجع إلى (التطور والثبات في حياة البشرية) لمحمد قطب، ص: [61].
[23] الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: [972] وكذلك ص: [813].
[24] التطور والثبات في حياة البشرية ص: [61].
[25] الفكر الإسلامي الحديث لمحمد البهي: [623]، فما بعدها.
[26] البروتوكول الثاني. انظر بروتوكولات حكماء صهيون (الخطر اليهودي) ترجمة التونسي، صفحة: [231].
[27] انظر الفكر الإسلامي الحديث لمحمد البهي فصل الدين مخدر، صفحة: [592]، فما بعدها.
[28] الإسلام ومشكلات الحضارة لسيد قطب، صفحة: [18].
- التصنيف: