اللهم توفني مظلومًا لا ظالمًا!
العفو شيمة عظيمة، والعفو اسم من أسماء الله الحسنى، كما الغفور والرحيم، ولكن كما أن لله صفات رحمة لمن يستحقها؛ فإن لله صفات عقوبة وجبروت لمن لم يعامل عباده بالرحمة، وإننا كما نؤمن ونتعبد بالأولى؛ نؤمن كذلك بالثانية وبقدرة الله فيها.
دعاء بدأ ينتشر بين الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ككثير من الأشياء التي نأخذها بالتسليم دون غربلة يعزز الإحساس بالخيبة ويعمق الشعور بإحساس الضحية ويقعد عن العمل رضًى بالأمر الواقع!
"يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم" ثقافة خنوع واستسلام تناقلناها جيلًا بعد جيل، براحة الضعفاء والقاعدين، لا تسليم التوكل والعمل.
والسؤال: هل هذا ما يريده الله لنا وما يريده الإسلام منا: أن نموت مظلومين؟!! أن نموت أذلاء وخانعين ننتظر فقط الوعد الإلهي الأخروي بالنصر على من ظلمنا؟! ألم ينزل هذا الدين ليعزنا في أنفسنا ويرفعنا في واقعنا ويجعلنا سادة؟ فكيف ارتضينا لأنفسنا بحالة الظلم وما يلازمها من سُبات عقلي وقعود بدني وأسر نفسي في انتظار معجزة تهبط علينا من السماء لتنشلنا من واقعنا الأليم على المستوى الشخصي أو الجمعي!!
لقد تسربت إلى عقولنا في سنوات الخيبة التي ما زلنا نعايش بعض آثارها الكثير من المفاهيم والممارسات المغلوطة والملتبسة، فأصبحنا نخلط بين الصفح والضعف وقلة الحيلة، ونتذرع أن الإسلام أمر بالغفران وأعلى مكانة العفو وسلامة الصدر، وننسى أن هذه المقالات جميعًا لها مقامات وسياقات وحوادث نزول ومواطن تطبيق، وأن وضع الندى في موضع السيف مُضرّ، كما وضع السيف في موضع الندى، وأن العفو الحقيقي ما كان عن مقدرة ورغبة من المظلوم واعتذار وَرَدّ حقوق من الظالم، بحيث لا يبقى في القلب بقية ألم، ولا مسحة حزن، وتعود السلامة والاستقرار إلى قلب المظلوم، وعندها فقط يعفو الله وتكتمل معادلة الصفح، أما العفو حتى في الحقوق الشخصية، صغيرها وكبيرها، دون رد المظالم والاستسماج من المظلوم لا أصل له في الدين، وهو يشجع الظالم، ويُجرِّئه على مزيد من الظلم، فالظالم الذي يأمن العقوبة، ولو كانت بالدعاء عليه فقط، تُمْلِي له نفسه مع غياب الدين والضمير والأخلاق بالمزيد!!
بل إن علماء النفس أثبتوا في تحليلهم لنفسيات بعض الطغاة السياسيين أن الظلم والبطش يتدرج في حياتهم، فمع أول ضربة يحس الظالم بالتفوق والقوة والنشوة؛ لتحكُّمه في رقاب الناس وحيواتهم، فتزيد النرجسية والسادية، ويزيد الطغيان كلما أمن العقاب، فيصبح قتل النفوس واستباحة الأعراض وتدمير الممتلكات أهون من رمشة العين، بل ضرورة للبقاء، وما بلغ مثل هؤلاء هذه المنازل إلا بتراكم سجل الظلم في حياتهم من الصغائر إلى الكبائر.
إن الظلم الكبير الذي نعايشه هو تجمع المظالم الصغيرة، وكل فرعون له نسخ مصغرة في الشكل والفعل، ولا أعتقد أن الله يريدنا أن نصفح عن الذين تعمدوا الظلم عن سابق إرصاد وترصُّد، إنما العفو المندوب المحمود عن الذين يخطئون بغير قصد كيوم صَبَّت جارية ميمون بن مهران المرقة عليه خطئًا، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي استعمل قول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} قال لها: قد فعلت، فقالت: اعمل بما بعده: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فقال: قد عفوت عنكِ، فقالت الجارية: {وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، قال ميمون: قد أحسنت إليكِ، فأنت حرة لوجه الله تعالى.
لقد جعل الله لعباده فسحة بين العفو والانتصار للنفس حتى في صغير المظالم، فجعل من صفات عباده المؤمنين الأساسية {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى:39]، وفي تفسير الآية في (الظلال) قال قطب: "صفة الانتصار من البغي صفة ثابتة وأن الأمر الأول بالكف والصبر كان أمرًا استثنائيًّا لظروف معينة"، وهذه ليست فقط صفات جمعية، وإنما فردية أيضًا، فكيف للأمة أن تنتصر بمجموعها إذا سكت الأفراد عن حقوقهم الشخصية، وأطلقوا العفو، على الطالع والنازل، وكأنه استحقاق مطلق، وتشجيع للظالم على الظلم أكثر منه تربيةً للنفس وانتصارًا لفضيلة العفو!!!
لقد اشترط الحسن البصري القدرة عند العفو، فقال: "إذا قدرت على عدوك؛ فاجعل العفو عنه شكرًا للقدرة عليه"، وغير ذلك يُعَد ضعفًا وتفريطًا.
لم يمنع التوكل على الله في آيات صفات المؤمنين السابقة في سورة الشورى، والتسليم بقضائه: أن تنتصر لنفسك من الظالم، بل إن الله جعل لنا عند انقطاع الأسباب المادية بابًا لا يُسَد ووسيلة لا تنقطع، وهو باب الدعاء، و عظّم قدر دعاء المظلوم حتى جعله سهامًا تخترق السماء، يرفعها الله فوق الغمام متعهدًا بعزته وجلاله أن ينصره ولو بعد حين، بل إن الاحتساب وتوكيل أمر الظالم إلى الله عند انقطاع أسباب الانتصار المادي ومع وجودها واجبة {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]، وكما جاء في تفسير معنى الاحتساب: أنك ترفع ملف قضيتك من بين أيدي الظَّلَمة أو قضاة الأرض إلى قاضي الأرض والسماء؛ ليحكم لك وعلى الظالمين.
إن الله شدد في مظالم البشر، فعفى عن الخطأ بحقه سبحانه بمجرد التوبة، ولم يعفُ، وهو العفو الغفور، عن المظالم بحق البشر إلا برغبتهم، فهو سبحانه الخلاق العليم، يعلم شدة الكسر في النفس الإنسانية ونار اللوعة وحطام المشاعر وذلة قلة الحيلة، ولذا مكَّن عباده من الانتصار لأنفسهم، وجعل القرار بأيديهم في الغفران أو اللاغفران.
إن الله ضمن الحقوق لعباده، وجعل بين الناس وبعضهم سياج أمان وحرمة من الظلم، وبدأ بنفسه مثالًا لعباده، فقال: «الوقت، وكانت الناس تعفو في الصغائر والكبائر، فعفا الصحابة عن قاتل أبيهم في عهد عمر، حتى لا يقال: ذهب العفو من الناس؛ لأن هذا المجتمع كان أفراده يرون الكلمة، حتى الكلمة، مصيبة قد تُودِي بالمرء في جهنم الدنيا والآخرة، فوضع أبو ذر خده على التراب ورفض أن يرفعها حتى يطأها بلالٌ بقدمه لمجرد أنه قال له: يا بن السوداء!
» (رواه مسلم [2577])، و كانت حوادث الظلم في المجتمعات الإسلامية الأولى قليلة؛ لذا كان العفو الأقرب إلى صفة المجتمع، وتربيتهم العامة في ذلكأما الآن فمرحلة الظلم اللفظي والخوض والاتهام؛ أصبحت لا تحرك في النفس شيئًا، وتجاوزناها في ثقافة الظلم السائدة إلى الانتهاكات المادية بكل أشكالها.
عندما أصبح الظلم صفة المجتمع لم يرضَ سعيد بن جبير أن يعفو عن الحجاج، بل ردَّ عليه كل إساءة وجَّهها له، ووقف له بالمرصاد، وهو في أغلاله، يقاد للقتل، ودعا عليه بالهلاك، لا بالهداية والغفران، فحقَّق الله له وعده، وقضى الحجاج -ابن جلا وطلاع الثنايا وقطاف الرؤوس- بدعوة سعيد بعد أيام معدوات مِن قَتْله له، لم يدعُ سعيد للحجاج أن يبصِّره الله بالحق، بل دعا عليه بالثبور دعاءً واضحًا لا لبس فيه؛ انتصارًا لظلامته الشخصية ومظالم المسلمين جميعًا.
وقد يقول قائلٌ: لقد عفا سيد الخَلْق في فتح مكة بعد سنوات الألم والعنت ووضع الدماء والمظالم كلها. فنرد: أن هذا العفو جاء في سياق أعظم فتوحات الإسلام، جاء بعد مقدرةٍ وتمكين، وكان لابد منه لتشرق صورة الإسلام والمسلمين على مر العصور بفتوحات السلام، التي لا تريق دماء ولا تستبيح محرمًا، أما في موقف آخر فقد عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عن دم عمه حمزة بإسلام وحشي، ولكنه طلب أن لا يراه، وهذه فسحة النفس البشرية التي لا يملك المرء قلبه فيها، وإنما قلبه بين يدي الله حبًّا وبغضًا، إقبالًا وإدبارًا، عفوًا أو تظلمًا.
المشكلة أن المجتمع الذي لم يَعُد ينتصر للمظلوم الآنَ أصبح يضيق عليه أيضًا منافذ الانتصار الشخصي والنفسي، حتى أصبح المظلوم يحس بالخطأ والذنب إذا لم يعفُ، وينسى العطية الربانية بالاحتفاظ بمشاعره وحقه في عدم الصفح، فالله سبحانه وتعالى علم أن بعضًا من عباده المظلومين سيظل الغل في صدورهم، والغل ليس شعورًا هينًا ولا مجرد غضبة سريعة يعالجها المرء بالاستعاذة، ومع ذلك لم يَلُمْهم سبحانه، بل أقر أنهم من أهل الجنة، ولكنهم لا يدخلونها حتى ينزع الله الغل من صدورهم، ويجبر كسرهم، ويرد حقوقهم، ويطيب خاطرهم، فالجنة طيبة لا تقبل إلا طيبًا، إنه اليوم الذي ينتصر الله للدواب من بعضها، فكيف للعباد فيما بينهم؟! ويا ويل مَن أخَّر رد المظالم إلى ذلك اليوم، يوم لا يكون بيده حيلة، ولا وسيلة، وكل الأمر إلى الله العدل المقسط، وهل أجمل وأكثر جبرًا من أن يمسح الله على جرحك كما مسح على جرح سيدنا محمد يوم ظلمه أهل الأرض، فرفعه فوق أهل السماوات والأرض؛ ليرضيه عنده؟
العفو شيمة عظيمة، والعفو اسم من أسماء الله الحسنى، كما الغفور والرحيم، ولكن كما أن لله صفات رحمة لمن يستحقها؛ فإن لله صفات عقوبة وجبروت لمن لم يعامل عباده بالرحمة، وإننا كما نؤمن ونتعبد بالأولى؛ نؤمن كذلك بالثانية وبقدرة الله فيها.
الحمد لله أن الله أعطانا الخيار، ولم يأمرنا أمرَ قطعٍ لا خيار فيه بالعفو، وإنْ كان حبَّبه إلينا، وجعل أجره عظيمًا؛ لتبقى نفس المؤمن رائقة شفافة لا يلوثها ران الغل والغضب.
ولكن لا تلوموا المظلوم أيضًا؛ فإنَّ للظلم غصة تفسد كل جميل، وتكسر كل نبيل، وتسود كل أبيض، وأستعير من قول الشاعر بتصرف:
لا تعذل المظلوم في أوجاعه *** حتى يكون حشاك في أحشائه
إذا ضربوك على خدك الأيمن؛ لا تُدِر لهم الخدَّ الأيسر؛ فقد يصبح وجهك بلا معالم من كثرة الضربات.
ديمة طهبوب.
- التصنيف: