صفاء الأنبجانية

منذ 2014-05-07

كثير من الناس إذا سمع السكينة والخشوع في الصلاة لا يقع في خاطره إلا تخيل الخشوع في القيام والتقيد بعدم الحركة... ويغفل عن لحظات من أكثر هيئات الخشوع بهاء وجلالًا... وهي التي تنفح هالة الإيمان حول المصلي... وفيها من ذوق الأدب أمام الله ما تتطامن له القلوب... وهي (لحظات الانتقالات بين الأركان) رفعًا وخفضًا بتمهّل وتؤدة ووقار... فما أكثر ما ترى مصليًا يهجم مبعثرة أطرافه إلى السجود... كأنما يرتمي منهكًا... ويتقافز قائمًا كأنما هو محلول من عقال... ويركع كجارح يخطف طعامه مستوفزًا عجلان ...

الحمد لله وبعد،،

طوال هذه السنوات المادية المكفهرة التي دهستنا ما تزحزح عن مخيلتي إلى هذه اللحظة صورة (الشايب) أبي عايض رحمه الله وهو يجر خطاه المثقلة بأعباء الكهولة... كأنما يجر عربة الزمن وراءه... ويشدني حين أكون وراءه... أقهر خطوات الصبي لكي يتقدمني... ويتلألأ على كتف فروته الصفراء المتهدلة رذاذ الليالي الشاتية... ليشهد صلاة الفجر مع الجماعة في مسجد الحي... يختلج رنين المطر فوق المظلات الحديدية التي قوّست ظهورها على جانبي الطريق... بصوت تسابيحه المتهدجة...

في مثل هذه البيئة التي تولي (صلاة الجماعة) أهمية قصوى ترعرعت... وذلك كان نمط الحضانة الدينية التي رضع فيها وعي الصبي معنى الأولويات... وحبت فيها طفولة التعرُّفات أولى خطواتها المتعثرة...

لم أكن أعدم في كل لحظات اليوم من يقرص أذني، بمناسبة وبلا مناسبة، تأكيدًا على صلاة الجماعة... حتى انطبع في ذهني ما يشبه الترادف اللغوي بين الصلاة وصلاة الجماعة... بحيث يثير ذكر أحدهما في الذهن صورة الآخر... ففي كل الأحوال تعني مفردة (الصلاة) صورة المصطفين في المسجد فقط...

وحين حصلت أول فرصة تلاقي وتعرف بكتب الفقه -أو بشكل أدق شروحات كتب أحاديث الأحكام- ورأيت براهين وجوب صلاة الجماعة أدركت كم كانت العناية الإلهية تحوط جيلًا نشأ على الأكمل...

كل هذا لم يثر تساؤلًا... لأن التساؤلات لا تنشأ في الفراغ... وليست التساؤلات أثيرًا معلقًا في الهواء... وإنما ينثال طحين التساؤلات حين ندير رحى المقارنات والتقابلات...

في تلك الأيام كان يصلي معنا في المسجد جاليات آسيوية متنوعة... لم يكن غالبهم بنفس حفاوة أهل الحي بصلاة الجماعة... لكنهم كانوا يختلفون عنا بقسمات أخرى أضرمت تساؤلاتي...

بكل صدق ومباشرة: لقد كانوا أكثر منا سكونًا في صلاتهم وأكثر إجلالًا لهيئات الصلاة...

وما أكثر ما فكّرت في هذه المقارنة ...

وفي تلك الأيام... في أجواء الأميّة الفقهية... نشط العلماء والدعاء في إثارة الاهتمام بموضوع (أهمية طلب العلم الشرعي)... وتنافس فتيان كان همهم ركز الطوب مرمى كرة في الشوارع الفسيحة إلى ابتدار السواري يدونون الفوائد تحت الأشياخ... وما أزال أتذكر والدي وأعمامي وهم في مجلس المنزل وكنت صغيرًا أدير القهوة بينهم ويقرع سمعي تعجبهم من الشباب الجدد اللذين نزلوا من المدرجات بينما صعدت ثيابهم إلى أنصاف الساقين...

 

في مسجد آخر قريب كان أحد علماء الحديث يشرح سنن الترمذي... وكان إذا سئل فاندلق يتلاطم بالأسانيد ودقائق العلل تطامنت أمامه مفارق الأقران حتى يظن الظان أنها مسألة هو حديث عهد بحفظها... وما كان شيخنا حديث عهد بها ولكنها كمائن النفوس تتطلب المغامز لتضمد جراحها النرجسية وتقلص الفارق بينها وبين تميز الآخرين... فاستحوذ علي هذا الشيخ وغشيت جلالته بصري... وخرجت من مكتبة المؤيد مقتنيًا سنن الترمذي بتحقيق أحمد شاكر باتجاه مسجده... وانخرطت في طقوس هذا الدرس... تتجاوب جنبات المسجد بذكر بندار وقتيبة بن سعيد ومحمود بن غيلان وأحمد بن منيع ونحوهم من أشياخ الترمذي الذين أكثر عنهم في جامعه...

ولأسماء رجال الحديث إذا استرسلت كُناهم وألقابهم مفصولة بحدثنا وأخبرنا حلاوة في الأسماع يعرفها أهل الشأن... والشيخ يقول عبارته التي ألفناها "هذا الرجل مَرَّ معنا مرارًا وتكرارًا"... وحديث فلان ينقسم إلى ثلاثة أقسام... ولشيخنا ولعٌ بالتقاسيم في أحوال الرواة... وهكذا حتى نصل للجملة الختامية في كل درس "لعلنا نتوقف عند هنا".

وقبل بداية كل درس كان الشيخ يصلي النافلة البعدية ركعتين في مؤخرة المسجد... فكنت أدع كل ما بيدي ويشخص بصري أتأمل صلاته... وقد شهدت شيئًا ما عهدته من قبل... في سكون يديه وهما يرتفعان للتكبير... وسكونه في انتقالات الصلاة... وإطالته الركوع الذي يقصره الناس...

كنت أنظر له وليس بين لحيته المطأطئة ويده المقبوضة على صدره إلا صوت تراتيل قرآن يهمس به... ومن أعجب مشاهد المصلين الخاشعين ما يغزو النفوس من الشعور بالهالة الإيمانية التي تطوقهم... حتى يعتري الخجل من بجانبهم من الحديث ورفع الصوت... كأنما ينشر الخشوع في المكان رسالة استنصات...

تضخمت المقارنات في داخلي... وعاد السؤال مجددًا... هل ما أرى من حولي في مجتمعي القريب هو الوضع الطبيعي؟ هل كثرة الحركة في الصلاة والانتقالات بلا سكينة التي اعتدت رؤيتها في كثير من المصلين من حولي حتى انطبعت بها لا شعوريًا هي الصورة المألوفة؟ هل نحن في الطريق الخاطئ ونحن لم نستشعر أصلًا أن ثمة قصور؟

بعض المصلين يسحب شماغه إلى اليمين ليعتدل المرزام، ثم يشعر أنه غير متوازن فيسحبه لليسار مرةً أخرى... ومصلٍّ آخر يزيح كمّه عن ساعته اليدوية في معصمه ويعيد ضبط عقاربها على ساعة الحائط التي أمامه ويراوح النظر بين الساعتين حتى تتطابق العقارب... وآخر إذا سجد تلعب أصابعه على الموكيت يرسم دوائر ويمحوها... ومصلٍ بجانبك يتحول إلى حديقة غنّاء تصفر عصافير فمه يصون بلسانه بقايا الطعام ويستمتع بالأصوات التي يسحبها بين فجوات أسنانه...

أما الانتقالات بين أركان الصلاة فكثير من الناس يهجم بحركات شعثاء... لا يداري النزول والقيام بسكينة وإخبات...

هذه المظاهر مجرد أمثلة من جملة مظاهر كثيرة صرت أدقق فيها قبل أن لم أكن كذلك... بل لقد كنت أراها مظاهر طبيعية وليست موضع تدقيق واستشكال أصلًا... بل وبكل شفافية مع القارئ لقد اكتسبت -للأسف- كثيرًا من هذه التصرفات وانطبعت في سلوكي، ثم جاهدت نفسي لاحقًا على قطع كثيرٍ منها، ومازلت أكابد كشط نتوءات العادات... وعجزت عن قطعها البتّة...

ومع هذه الرياح العلمية التي هبّت علينا صعد نجم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بصورة مجتمعية غير مسبوقة... حتى صار فتيان الدعوة تلهج ألسنتهم بقولهم اختار ابن تيمية كذا، وقال ابن القيم في الجواب الكافي كذا، ولعل ذلك بعضًا مما صدّق الله به حدس الشيخ شهاب الدين ابن مُرِّي... فقد كان رحمه الله متأثرًا ببعض خلل المتصوفة... ثم انفتح له باب الحق بعد اقترابه من ابن تيمية... فشغف بشيخ الإسلام...

وصار ابن مُرِّي في مدينة القاهرة يصدع بالحق في مسائل الاستغاثة والتوسل والزيارة... فابتلي كشيخه وسُجِن وجُلِد ثم نُفِي من مصر إلى الشام... ولما مات شيخه ابن تيمية معتقلًا في القلعة أرسل التلميذ الموجوع بفقد شيخه يوصي بقية إخوانه وزملائه بالاهتمام بكتب شيخهم ابن تيمية ونسخها وأطلق قَسَمَه التاريخي وقال: "فلا تيأسوا من قبول القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا...، ووالله إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه، رجالًا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم" (ابن مري، قطعة من مكتوب ابن مري، تحقيق الشيباني، 1409هـ، ص [18]).

ومن رأى تسلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب بذخيرة ابن تيمية في حرب الشركيات والبدع حتى صنع مفصلًا تاريخيًا في مسيرة الأمة، ثم إيقاظ الله لابن قاسم سائحًا في الأرض يلملم فتاوى الشيخ من قماطر المكتبات، متزامنًا مع انبعاث اليقظة العلمية السلفية الحديثة، ثم تزاحم الرسائل الأكاديمية والبحوث العلمية تستقي من علم الشيخ، من رأى ذلك كله عظمت ثقته بأن الله أكرم ابن مُرِّي وأوقع له مآل قسمه.

والمراد أن من عادة المحب للعلم أن تتوق نفسه لمعرفة ترجمة وسيرة الرموز المركزيين في أي بيئة معرفية... ولذلك تتبعت كل ما وقع بيدي من تراجم لشيخ الإسلام ابن تيمية، التراجم المفردة والضمنية، وما وجدت إلى هذه الساعة أعذب من ترجمة البزار لشيخه ابن تيمية... ففيها وقائع وشهادات حية رواها البزار كأنك تجلس مع الشيخ... وكم طالعت هذه الترجمة في السنة عدة مرات... وما رويت منها بعد...

في أحد تلك المشاهد كان الشيخ البزار يصوّر صلاة ابن تيمية... وحين تحدّث عن طريقة تكبيره رسمها بعبارة تنقطع لها الأنفاس... يقول البزار عن شيخه ابن تيمية: "وكان إذا أحرم بالصلاة يكاد يخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام، فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميد يمنة ويسرة" (الأعلام العلية، تحقيق المنجد، ص [37]).

لا أستطيع أن أتذكر كم مرةً وقفت أمام هذا النص وأخذت أتخيل هذه (التكبيرة) التي تنحني لها قلوب المؤمنين مما فيها من الخشوع والسكينة... ولا أحصي كم مرةً طلبت التعليق في مجلس من المجالس وأخذت أحكي مشاعري وأنا أقرأ هذا النص للبزار عن (تكبيرة) ابن تيمية...

وعاد هذا المشهد من صلاة ابن تيمية يقلب في ذهني دفتر الذكريات ويفتح صفحة تلك الإشكالية التي كنت أفكر فيها... وهي التساؤل عن مدى صحة ما أراه في نفسي وفي كثير من المصلين من حولي من اعتياد كثرة الحركة في الصلاة، والوقوف المتصدع فيه، والانتقالات المشتتة بين الأركان...

وكان للذهبي تراجم كثيرة لابن تيمية متناثرة في كتبه، ولكن كتب الذهبي ترجمة موسّعة لابن تيمية، لم نكن نجدها بين أيدينا في كتبه، وإنما نرى المؤرخين في عصر الذهبي وبعده ينقلون عنها، ثم طُبعت هذه الرسالة عام 1425هـ، ووجدت فيها نصًا للذهبي يتحدث فيه عن ابن تيمية إذا صلى بالناس إمامًا، يقول فيها الذهبي: "ويصلي بالناس صلاة لا يكون أطول من ركوعها وسجودها" (الذهبي، ترجمة ابن تيمية، تحقيق عكاشة، دار الفاروق، ص [244]).

وأما ابن القيم فأظن أجمع من كتب عن تفاصيل طلبه للعلم القاضي صلاح الدين الصفدي، ولكن قرينه الحافظ ابن كثير له في وصف أحوال ابن القيم عبارات مبهرة، فبالله عليك تذكر ذلك العصر وما فيه من العلماء والعبّاد والمتنسكين والمجاهدين، ثم طالع قول ابن كثير عن ابن القيم: "وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ولا أعرف من أهل العلم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدًا، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع، ولا ينزع عن ذلك، رحمه الله" (البداية والنهاية، دار هجر، ص [18/523]).

حين قرأت هذا النص لأول مرة رحت أقارنه جذلًا بكلام ابن القيم نفسه وهو يشرح أحاسيس المصلي الخاشع في رسالته المشهورة "الصلاة وحكم تاركها"، كان ابن القيم يسترسل في تصوير كيف يعيش المصلي كل هيئة وذكر من أذكار الصلاة لحظة لحظة، حيث يقول ابن القيم:

"فإنه إذا انتصب قائمًا بين يدي الرب شاهد بقلبه قيوميته, وإذا قال "الله أكبر" شاهد كبرياءه، وإذا قال (سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) شاهد بقلبه ربًا منزهًا عن كل عيب، محمودًا بكل حمد، وإذا قال (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فقد آوى إلى ركنه الشديد واعتصم بحوله وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه، فإذا قال {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وقف هنيهة يسيرة ينتظر جواب ربه له بقوله "حمدني عبدي"، فإذا قال..." (ابن القيم، الصلاة وحكم تاركها، تحقيق المنشاوي، ص [111]).

وهكذا استمر ابن القيم في استعراض كل هيئات من الصلاة، وكل ذكر من أذكارها، منذ القيام وتكبيرة الإحرام إلى التسليم، يشرح كيف يعيش المصلي معناه بقلبه وروحه، واستغرق هذا زهاء عشر صفحات، ثم ختم ذلك بقوله:
"فالصلاة وضعت على هذا النحو، وهذا الترتيب، لا يمكن أن يحصل ما ذكرناه من مقاصدها التي هي جزء يسير من قدرها وحقيقتها، إلا مع الإكمال والإتمام والتمهل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله" (المصدر السابق).

وأنا أقرأ هذا الموضع الذي هو من عيون نصوص ابن القيم، رأيت فعلًا كيف تتحول هيئات الصلاة من حركة جسدية إلى هالة عبودية... وكيف تتحول أذكار الصلاة من ألفاظ لغوية إلى معانٍ تنتشل المصلي للملكوت الأعلى...

ولكن لماذا كنت أقرأ كلام ابن كثير عن وصف صلاة ابن القيم حين قال عنه "له طريقة في الصلاة يطيلها جدًا، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع، ولا ينزع عن ذلك" ثم أقارن ذلك بوصف ابن القيم لكيف يعيش المصلي الصلاة؟

هل كنت تلك الأيام في غرارة الشباب أتوهم اكتشاف سر ما استغربه ابن كثير وعُذال ابن القيم؟ وأن هذا الرجل الذي لاموه في طول صلاته ما علموا أنه شرح في موضع آخر كيف يحيا المصلي الصلاة؟

أم كنت يا ترى أوقف نفسي على الفارق بيننا وبين أئمة العلم والإيمان... هذا ابن القيم الذي كرّس عشر صفحات لشرح كيف يعيش المصلي هيئات وأذكار الصلاة... كرَّس مقابلها ستين سنة من عمره يشرح عمليًا كيف يصلي المصلي ...

إيهٍ يا ابن القيم... أنت تعظنا بربع العشر من عملك... ونحن نعظ الناس بقروض وديون... فرصيد عملنا دون نفقات مواعظنا بكثير... ولذلك يبارك الله في الزكاة... ولا يصلي رسول الله على المدين...

هذه المقارنات، وخصوصًا وصف البزار لصلاة ابن تيمية، ووصف ابن كثير لصلاة ابن القيم، قادتني للاهتمام بالموضوع وتتبعه في مظانّه من كتب السلوك وكتب التراجم، فلفت انتباهي أن أهل العلم إذا طرقوا هذا الموضوع اهتمّوا بذكر صلاة (ابن الزبير)، ولم أكن في البداية مستوعبًا خلفيات هذه العناية، فينقلون من أخبار صلاة ابن الزبير مشاهدات علماء جيله له، ومن نماذج ذلك:

قال التابعي الجليل المحدِّث زاهد البصرة أبو محمد ثابت البناني (ت123هـ) "كنت أمر بابن الزبير، وهو يصلي خلف المقام، كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك" (البغوي، معجم الصحابة، تحقيق الجكني، ص [3/517]).

وقال التابعي الجليل إمام التفسير مجاهد بن جبر "كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عودٌ، من الخشوع" (مصنف ابن أبي شيبة، تحقيق عوامة، [73222]).

وفي رصدٍ آخر له يقول مجاهد نفسه يصف شدة سكون ابن الزبير في الصلاة "كان ابن الزبير أحسن الناس صلاة، كأنه خرقة" (أخبار مكة للفاكهي، تحقيق الدهيش [2/318]).

وقال التابعي الجليل مفتي المناسك عطاء ابن أبي رباح "كان ابن الزبير إذا صلى كأنه كعب راتب" (مصنف عبد الرزاق، [3304])، أي منتصب ثابت.

وأبو مهَل عروة بن قشير، من صغار التابعين وثّقه أبو زرعة وغيره، كان يصلي خلف ابن الزبير مأمومًا، ويرصد صلاته، فيقول: "كان ابن الزبير يؤمنا عند المقام، فإذا فرغ من المكتوبة صلى تحت الميزاب، قائمًا ما يحرك منه شيء" (طبقات ابن سعد، نشرة الخانجي: [6/482]).

وحين حاصر الحجاج بن يوسف مكة ونصب المنجنيق على جبل أبي قبيس عام (72هـ) وأخذ يرمي ابن الزبير وكتيبته بالحجارة والنفاطات، فكسر وأحرق، ومع ذلك كله فقد كان ابن الزبير يصف قدميه خلف المقام يصلي، فإذا دخل في صلاته ذهل عما حوله، وقد كان هذا مشهدًا لفت التابعين الآخذين عن ابن الزبير، ومن ذلك ما ذكره التابعي الجهبذ العابد الذي كان يسمى سيد القراء وهو محمد بن المنكدر، حيث يقول: "لو رأيت ابن الزبير وهو يصلي لقلت غصن شجرة يصفقها الريح، وإن المنجنيق ليقع ههنا وههنا ما يبالي" (الحلية لأبي نعيم، تحقيق جاهين: [1/406]).

هذه بعض الأخبار التي تناقلها علماء السلوك ومدونوا التراجم عن صلاة ابن الزبير، ودهشة أئمة التابعين منها، وبكل صراحة فإنني حين قرأت هذه الأخبار لأول مرة ورأيت عناية أهل العلم بذكر صلاة ابن الزبير واستثنائية سكونه وإخباته فيها تعاملت مع الأمر على بداهته الأولية الظاهرة، فكنت أظن هذه الأخبار مجرد مشاهدات مسجلة عن شخصية ابن الزبير استدعاها الانبهار بصلاته، كآحاد الآخبار وأعيان الوقائع، ولم ينكشف لي أي خيوط اتصال تربط هذه الأخبار باعتبار أشمل...

ثم اتضح لي أن أئمة التابعين وأتباعهم في ذاك العصر المشرق كانوا يرون صلاة ابن الزبير جوهرة في قلادة أشمل... وأنهم ينقلونها لا باعتبارها قصة منفردة، بل باعتبارها مشهدًا متصلًا بحلقات قبله وبعده...

صحيح أنه اشتهر أن الأسانيد رواحل تحمل الأحاديث والأقوال الشريفة... ولكن ليس هذا كل شيء... فالمشهد العملي نفسه يقتبسه لاحق عن سابق... ويُنقل المشهد العملي نفسه بكل صمته وهالته بالأسانيد أيضًا... كم كنت مأخوذًا بالعجب حين اكتشفت أن صلاة ابن الزبير هي أحد اللحظات في مسلسل الإخبات والخشوع... وقد جلّى أهل العلم ذلك، فقد قال الإمام أحمد في مسنده: "حدثنا عبد الرزاق قال: أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من ابن الزبير، وأخذها ابن الزبير من أبي بكر، وأخذها أبو بكر من النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الرزاق: ما رأيت أحدًا أحسن صلاة من ابن جريج" (مسند أحمد: [73]).

لا أدري أي جماليات هذا الإسناد تستحق أن يُستفتح بها؟!
وكم بقيت أفكر كيف يا ترى تجسّد هذا الإسناد في الواقع؟

إنهم لا يروون عن بعضهم حديثًا قوليًا... ولا يحكون عن بعضهم صفة فعلية معينة... إنه سلوك يستنشقه التلميذ من محراب معلمه بصمت... ويورثه لتلميذه بنظير هذا الصمت... لم ينطق راوٍ عمن فوقه بكلمة... ولكنه يتزكى بمن فوقه... ليزكّي من دونه... فتبدأ مصابيح الإخبات من رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، مرورًا بأبي بكر الذي يتذكر القارئ حديث البخاري عنه حين ضايقته قريش فهمّ بالهجرة للحبشة، فلقيه ابن الدغنة أحد سادات العرب، فقال:
"أين تريدُ يا أبا بكرٍ؟ فقال أبو بكرٍ: أخرجني قومي، فأنا أريدُ أن أسيحَ في الأرضِ فأعبدُ ربي. قال ابنُ الدَّغِنَةِ: إنَّ مثلكَ لا يَخْرُجُ ولا يُخْرَجُ، وأنا لك جارٌ، فارجع فاعبدْ ربكَ ببلادكَ، فأنفذَتْ قريشٌ جوارَ ابنِ الدَّغِنَةِ، وآمنوا أبا بكرٍ، وقالوا لابنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أبا بكرٍ فليعبدْ ربهُ في دارِهِ، فليُصَلِّ، وليقرأ ما شاء، ولا يُؤذينا بذلك، ولا يَستعلنُ بهِ، فإنَّا قد خشينا أن يفتنَ أبناءنا ونساءنا. فطفقَ أبو بكرٍ يعبدُ ربهُ في دارِهِ، ولا يستعلنُ بالصلاةِ، ولا القراءةِ في غيرِ دارِهِ، ثم بدا لأبي بكرٍ، فابتنى مسجدًا بفناءِ دارِهِ وبرَزَ، فكان يُصلِّي فيهِ، ويقرأُ القرآنَ، فيتقَصَّفُ عليهِ نساءُ المشركينَ وأبناؤهم، يَعجبونَ ويَنظرونَ إليهِ، وكان أبو بكرٍ رجلًا بَكَّاءً، لا يملكُ دمعَهُ حين يقرأُ القرآنَ" (البخاري: [2298]).

فصلاة أبي بكر... مجرد مشهده وهو يصلي ويرتل آيات القرآن بفناء داره شكّل ظاهرة تأثير دعوية قلبت عوائل قريش رأسًا على عقب... حتى صاروا يتسللون يشاهدونه مبهورين...

وفي صحيح البخاري إشارة إلى شدة إقبال أبي بكر على صلاته وسكونه فيها "وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته" (البخاري: [684]).

والذي تلقى روحانية الصلاة وسكينتها من أبي بكر هو ابن الزبير الذي مرت أخباره، وأشاروا في نصوصهم لذلك كما في خبر مجاهد السابق "كان ابن الزبير رضي الله عنه إذا قام في الصلاة كأنه عود، وحدث أن أبا بكر كان كذلك، قال: وكان يقال ذاك الخشوع في الصلاة" (الكبرى للبيهقي: [3522]).

وقال ابن حجر في الفتح "سنده صحيح"، فهذا يكشف أن هذا السكون الشديد في الصلاة حتى كأنه وتد أو عود، أنه تلقّاه ابن الزبير من أبي بكر...

وأما عطاء ابن أبي رباح الذي أخذ هذه الحياة السلوكية في الصلاة من ابن الزبير، وابن جريج الذي أخذها من عطاء، فلهما سويًا أخبار تدل على عجائب صلاتيهما وكيف تأثر التلميذ منهما بشيخه، إذ يقول ابن جريج: "كان عطاء بعد ما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من سورة البقرة وهو قائم، لا يزول منه شيء ولا يتحرك" (الحلية لأبي نعيم، تحقيق جاهين: [3/80]).

يا خيبة أيامي... ويا حسرةً تقضمني الآن وأنا أقرأ هذا الخبر... هذا الرجل بعدما كبر سنه ورقّ عظمه يصلي بالمائتين من سورة البقرة في ركعة واحدة... والمائتين من سورة البقرة تبلغ ثلاثين وجهًا من القرآن... أيْ جزء ونصف بالضبط في ركعة... وهو ساكن مخبت لا يتحرك... وهذا بعدما طعن في السن! فكيف كان عطاء يا ترى يصلي أيام فتوته وشبابه؟!

ولفت انتباهي في هذا الخبر تنبيه ابن جريج على سكون عطاء في صلاته "وهو قائم، لا يزول منه شيء، ولا يتحرك" وهذه الحال هي المروية عن شيخه ابن الزبير عن أبي بكر.
وهكذا كانت صلاة ابن جريج نفسه، فانتقل هذا الخشوع والإطراق إليه، وقد وصفه تلميذه الإمام الحافظ عبد الرزاق فقال: "ما رأيت أحسن صلاة من ابن جريج، كان يصلي ونحن خارجون، فيُرى كأنه اسطوانة، وما يلتفت يمينًا ولا شمالًا" (شعب الإيمان للبيهقي: [2884]).

يا الله... إنه ذات التشبيه الذي يصوّر السكون والإخبات في صلاة شيوخه في سلسلة الخشوع...

وقد أثّر فيّ كثيرًا تعليق قصير جدًا كأنما هو دمعة لا عبارة... سحّها ابن جريج رحمه الله لما تعجّب بعضهم من صلاته فالتفت بتعقيب قصير كأنما نكأ فيه جرح الذكريات عن شيخه عطاء بن أبي رباح... النموذج الذي تلقى عنه الصلاة... حيث يقول ابن عيينة: "قلت لابن جريج: ما رأيت مصليًا مثلك، فقال: لو رأيت عطاء؟!" (الحلية لأبي نعيم، تحقيق جاهين: [3/81]).

لا أدري لماذا شعرت أنني فهمت من كلمة ابن جريج "لو رأيت عطاء؟!" أبعد مما يجب أن تعنيه... حين كنت أقرأ هذه العبارة لم أستطع أن أدفع عن نفسي إحساسًا غامرًا أن ابن جريج كان يزفر وهو يقولها... "لو رأيت عطاء"...

ومصدر هذا الشعور الذي كان يغلب علي وأنا أقرأ عبارة الإمام ابن جريج إنما هو نمط العلاقة بينهما، فإن ابن جريج تأخر طلبه العلم كما ذُكِر في ترجمته (العبر للذهبي: [1/163]).

وذكروا أن سبب ذلك هو ما قاله عن نفسه "كنت أتتبع الاشعار الغريبة والأنساب، فقيل لي: لو لزمت عطاء؟ فلزمته ثماني عشرة سنة، أو تسع عشرة سنة إلا أشهرًا" (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: [5/356]).

وبسبب هذا الانكباب على شيخه عطاء ابن أبي رباح، قال ابن المديني "ما كان في الأرض أحد أعلم بعطاء من ابن جريج"، فهذه العلاقة العلمية العبادية التي جاءت بعد ظمأ يستحيل أن تكون علاقة فاترة الوجدان... ولذلك كنت أشعر أن ابن عيينة لما قال لابن جريج "ما رأيت مصليًا مثلك"، فرد ابن جريج بتعقيبه القصير "لو رأيت عطاء؟!" كنت أشعر أن جواب ابن جريج هذا يخفق بحنين الذكرى لشيخه وعبادته وذكرى حسن صلاته وطولها وسكونها وتؤدته فيها...

هذا الإسناد السلوكي الذي يتناقل سكون الصلاة منذ ابن جريج إلى أبي بكر متلقى عن رسول الله صلى عليه وسلم... وشواهد السكون والخشوع والإطراق في صلاة رسول الله صلى عليه وسلم كثيرة جدًا... بل كل صفات صلاته لوحة باتجاه الخشوع والإخبات لله... وسنتناول هاهنا أحد هذه المشاهد من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم... وهو مشهد (الأنبجانية)...

فقد كان من رجالات قريش (أبو جهم بن حذيفة) وهو من بني عدي، شيخ نسّابة معمر، وقد تأخر إسلامه إلى يوم الفتح، وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم (خميصة)، والخميصة كساء من لبس الأشراف في أرض العرب، ويكون فيها أعلام، وهي الخطوط التي تكون في طرفي اللباس، وتكون غالبًا بلون مغاير، فهي زي راقٍ يناسب أن يكون هدية...

فلما لبس النبي صلى الله عليه وسلم خميصة أبي جهم... وكبّر للصلاة نظر في الأعلام التي على طرفي الكساء، فلما سلّم صلى الله عليه وسلم، جاء متضايقًا لأهله وطلب منهم أن يعيدوا (الخميصة) إلى أبي جهم، وأن يطلبوا من أبي جهم كساءً آخر تطييبًا لقلب أبي جهم حتى لا يقع في قلبه شيء من رد هديته، والكساء الآخر هو (الأنبجانية) وهو كساء ليس فيه أعلام وهو أقل من الخميصة ثمنًا وقيمة عند العرب... كما روى هذه القصة البخاري عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: «اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي». وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة، فأخاف أن تفتنني» (البخاري: [373]، مسلم: [556]).

وفي رواية في مسند الإمام أحمد أنهم راجعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الطلب لعله يعدل عنه (فقالوا: يا رسول الله، إن الخميصة هي خير من الأنبجانية، قال: فقال: «إني كنت أنظر إلى علمها في الصلاة» (مسند أحمد: [24190]).

فانظر كمال اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصفاء باله وفراغ ذهنه أثناء الصلاة... حتى أنه نظر مجرد (نظرة) إلى خطوط الزينة في ثوبه مستحسنًا لها فأخرج الكساء عن ملكه... ورده لصاحبه... فماذا يقول أقوام لم يعرض لقلوبهم نظرة في لباس... بل منذ تكبيرة الإحرام تنطلق قلوبهم في رحلة سياحية في أودية الدنيا كلها...

وهذه القصة عن خميصة أبي جهم وأعلامها تشبه القصة الأخرى في البخاري نفسه، عن قرام عائشة، والقرام هو ضرب من النسيج فيه نقوش ويتخذ ستارة في البيوت، وفي البخاري عن أنس: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي» [البخاري:374].

حياتهم كلها... من الأزياء... وأثاث المنزل... يتحكم فيها مطلب الخشوع ...

حين كنت أطالع سلسلة الخشوع والإخبات والسكون هذه من ابن جريج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انساق التفكير إلى حساب المسافة بين صلاتنا وصلاتهم... لطالما رأيت في نفسي وفي كثير من إخواني من حولي حركات في الصلاة تناسب تمطي المرء على أريكة استرخاء لا حال قيامٍ بين يدي من له مقاليد السموات والأرض...

كم فينا من مصلٍ يتسلى بقنص شوارد شاربه بأسنانه ثم يسلّها منها... وشابٌ يشمخ رأسه ثم يهزه لتتطاير خصلات لمّته إلى الوراء... وآخر يفحص زوائد الأظفار في الصلاة فإما كسر الزائد بإصبعه أو لقمه أسنانه لتقرض ما زاد... وفينا من يطوف بيده على كرشه كالمتفقد لتحولات حجمها واستدارتها ويوهم نفسه أنها صغُرت...

بل إذا شئت أن تتأكد أننا ننشغل في صلاتنا أكثر مما ننشغل في مجالسنا فتأمل كيف تجد المرء يجلس في عمل أو مناسبة ثم إذا صلى تفطن لبقعة خفية في ثوبه لم يتفطن لها أثناء جلوسه في تلك المناسبة... عيوننا الغافلة في الصلاة ليست في موضع السجود بل هي تطوف في ملابسنا وما حولنا تبحث عن لهو...

وكم فينا من ينظر لساعة الحائط في المسجد مرارًا ثم يعيد حساب الوقت المتبقي بين انقضاء الصلاة ووصوله لمشواره الذي يخطط له... كل هذا الانشغال والحركة بين يدي من ذلّت لكبريائه السموات والأرض... بل كم فينا من يحسب المتبقي من الراتب بالقياس إلى المتبقي من نهاية الشهر بشيء من القلق وهو بين يدي الرزاق سبحانه الذي هو أغنى وأقنى...

وكم فينا من يبدأ التكبير وقد فسر كمه عن ذراعه من آثار الوضوء... ثم يستكمل ترتيب كمه أثناء الصلاة لا قبلها... وفينا من يشعر أنه بحاجة كل هنيهة أن يجول بيده على جنبيه يتحسس محفظته ومفاتيحه وأغراضه الشخصية التي يرجح بها جيبه...

بل فينا من يستخرج جواله من جيبه كالمظهر إصماته وهو يسترق النظر هل من رسائل جديدة؟ أو ليختلس اسم المتصل عسى أن لا يكون من يترقب اتصاله... يظهر لمن بجانبه الخشوع ويغفل عن نظر الله... ألا نخشى أن يدخل هذا تحت قول الله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء من الآية:108]، وقول الله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} [التوبة من الآية:13]، وقول الله: {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} [الحشر من الآية:13]...

كنت أقارن هذه المشاهد الاجتماعية التي أراها في نفسي وفي كثير من إخواني من حولي بما طالعته في سلسلة الخشوع منذ ابن جريج وانتهاء برسول الله صلى الله عليه وسلم... تمر أمام ناظري تلك الأوصاف: كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك ...كأنه عود... كأنه خرقة... كأنه اسطوانة... وأشعر بالخجل يكسر عيني... بل كنت أقول في نفسي لو رآنا هؤلاء فكيف سيصفون صلاتنا؟ ما التشبيه الذي سيطرأ على أذهانهم ليشبهونا به؟

وإذا تحدّث أهل العلم عن السكون والتمهل والتؤدة في الصلاة يذكرون قول الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2]، وقول الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ونحوها من النصوص...

ولكن ما معنى (الخشوع) في هذه الآيات؟ الحقيقة أنك تجد كثيرًا من أهل العلم في كتب التفسير والسلوك حين يقصدون لتفسير كلمة "الخشوع" في مثل هذه الآيات القرآنية يذهبون للغة العرب يفتّشون فيها عن معنى "الخشوع"، وهذا إجراء علمي معتبر وتقليد مألوف.

ولكن للبحر أبي العباس ابن تيمية طريقة أخرى تفرّد بكمية وكثافة حضورها في تفسيره لألفاظ النصوص، يمكن تسميتها (مبدأ الاكتفاء النصي الذاتي)... وخلاصة هذا المبدأ أن ابن تيمية يرى أن معرفة معنى الألفاظ في النصوص الشرعية لا يفتقر إلى الرجوع لغريب اللغة والشعر ومعاجم متن اللغة ونحوها، بل النصوص والآثار نفسها تتضمن تفسيرها بنفسها، ويحتج بأن النص الإلهي يبيّن ذاته بذاته، والمبدأ المعرفي الذي بنى عليه ذلك هو كما يكرر: "أن النبي بلغ ألفاظ القرآن ومعانيه، لا ألفاظه فقط" (الفتاوى: [13/402]).

ويجادل ابن تيمية في الثبوت والدلالة كليهما، فيقول في الثبوت "اللغة المستفادة من الشعر والغريب الذي يعلمه الآحاد دون ما يستفاد من نقل أهل الحديث..." (جواب الاعتراضات المصرية، نشرة المجمع: [10]).

ويقول في الدلالة "ثم لو ثبت النقل عن العربي الشاعر أو الناثر، وعلم أنه أراد معنى بذلك اللفظ، لكان ذلك لغة له قد أرادها باللفظ، فلم يكن إثبات اللغة بمجرد هذا الاستعمال أولى من إثباتها بالاستعمال المنقول في الحديث والآثار" (المصدر السابق).

بل إنه صعد بهذا المبدأ درجة أعلى وقال "لا حاجة بنا مع بيان الرسول لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن...، والعلم بمعاني القرآن ليس موقوفًا على شيء من ذلك؛ بل الصحابة بلغوا معاني القرآن كما بلغوا لفظه" (الفتاوى: [7/124]).

وقد ناقش ابن تيمية في هذا المبدأ بعض علماء اللغة الذين عاصروه ومنهم العملاق أبو حيان الأندلسي في خطبة تفسيره (البحر المحيط: [1/104])، وللمسألة ذيول وقيود ونكات شيّقة ليس هذا الموضع المناسب لعرضها.

على أية حال... طبقًا لهذا المبدأ، أعني تفسير النص بالنص، أو التفسير الذاتي للنصوص، أو مبدأ الاكتفاء النصي الذاتي: كيف فسّر ابن تيمية معنى (الخشوع) الوارد في الآيات السابقة؟

أي أنه إذا كنا لن نذهب أولًا للنصوص العربية القديمة المنقولة من شعر ونثر نبحث فيها عن معنى (الخشوع) وإنما سنبحث في النصوص الشرعية ذاتها عن معنى (الخشوع)، فما هو معنى (الخشوع) إذن؟ وكيف نصل لهذا التفسير؟

طبّق ابن تيمية مبدأه هاهنا بطريقة استنباطية مركبة من عنصرين، عنصر (الوجوه والنظائر) المعروفة، أي تتبع موارد اللفظ في النص نفسه اشتراكًا وتواطؤًا، وعنصر (التعريف بالمقابلة)، فلما جاء لقول الله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] قارنها بالآية الأخرى التي قال الله فيها: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت من الآية:39].

لكن يا ترى أين وجه الدلالة في الآية الأخرى على معنى (الخشوع)؟ ما علاقة (خشوع الأرض) المذكور في الآية الأخرى بـ(خشوع الصلاة) المذكور في الآية الأولى محل التفسير؟

حسنًا... تأمل كيف استنبط ابن تيمية من الآية الأخرى معنى (الخشوع)، يقول أبو العباس عليه شآبيب الرحمة في رسالته المشهورة القواعد النوارنية: "فالخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعًا...، وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت من الآية:39]، فأخبر أنها بعد الخشوع (تهتز) والاهتزاز حركة، وأنها (تربو) والربو الارتفاع، فعُلِم أن الخشوع فيه: سكون وانخفاض". (ص:[74]).

فابن تيمية هاهنا يقول دام أن الآية ذكرت خشوع الأرض، ثم ذكرت الآية الحال التي تخالف هذا الخشوع وهما الوصفان: الاهتزاز والربو، والاهتزاز هو الحركة، والربو هو الارتفاع، أدركنا أن الخشوع سيكون بضد ذلك، فيكون الخشوع يتضمن الوصفين المضادين وهما: السكون وعدم الحركة، والانخفاض وعدم الرفع.

وواصل ابن تيمية وذكر خمسة نصوص أخرى استنبط منها أيضًا معنى (الخشوع)، دون الافتقار لمعاجم اللغة على طريقته المعروفة في التفسير.

لكني أريد أن أسألك: بالله عليك ألم تجد حلاوة في حلقك وأنت تقرأ استنباطه معنى آية خشوع الصلاة من آية خشوع الأرض؟

وأحب التنويه أن منبع التفرد التيمي هاهنا ليس في أصل اعتبار مبدأ التفسير النصي الذاتي وإنما في مزيد الحفاوة به وتفعيله في التطبيقات العقدية والفروعية والإلحاح المستمر على استحضاره، وهذا مستوى معرفي مقرر، وهو أن الأئمة قد يشتركون في أصل العمل بقاعدة شرعية ويتفاوتون في مستوى حضورها، ككثافة حضور الذرائع في فقه مالك وكثافة حضور قول الصحابي في مدرسة الحديث وكثافة حضور القياس في مدرسة العراق ونحو ذلك، وإن كان أصل هذه كلها حاضرة عند مخالفهم.

حسنًا... هذه هي الحال التي يريدها الله منا في الصلاة: أن نكون في سكون فلا تطوف أطرافنا وتتحرك ونعبث، وأن نخفض رؤوسنا ونطرق متذللين لمن نقف بين يديه... وهذان الوصفان هما من أجل معاني الخشوع الذي عظّمه القرآن وربط الفلاح به... والحقيقة أن هذين الوصفين (السكون) و(الإطراق) كليهما جاء النص عليهما في الصلاة في الصحيحين...

فأما السكون ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسكنوا في الصلاة» (مسلم: [430]).

وأما الإطراق والتذلل بخفض الرأس وإنزال العينين في الصلاة ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟!» فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: «لينتهُن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» (البخاري: [750]).

وكثير من الناس إذا سمع السكينة والخشوع في الصلاة لا يقع في خاطره إلا تخيل الخشوع في القيام والتقيد بعدم الحركة... ويغفل عن لحظات من أكثر هيئات الخشوع بهاء وجلالًا... وهي التي تنفح هالة الإيمان حول المصلي... وفيها من ذوق الأدب أمام الله ما تتطامن له القلوب... وهي (لحظات الانتقالات بين الأركان) رفعًا وخفضًا بتمهّل وتؤدة ووقار... فما أكثر ما ترى مصليًا يهجم مبعثرة أطرافه إلى السجود... كأنما يرتمي منهكًا... ويتقافز قائمًا كأنما هو محلول من عقال... ويركع كجارح يخطف طعامه مستوفزًا عجلان...

ومما يغفل عنه كثير من المصلين من هيئات الخشوع والسكينة لحظات (رفع اليدين بالتكبير وإنزالهما)... فتراه يستعجل ولا يتئد في رفع يديه بالتكبير وخفضهما... ويلقيهما شعثًا مجنحات بنزق... ولا يتحرى بهما بلوغ أذنيه أو منكبيه... ولا يعود بهما برفق إلى صدره... والذي عظّم الصلاة أن لسكينة التكبير فخامة تلتقط الأنفاس... ولعلك تتذكر كيف وصف البزار صلاة ابن تيمية حين قال "وكان إذا أحرم بالصلاة تكاد تنخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام"...

وهذه الحالة المتسرعة المنصلتة في انتقالات الصلاة ورفع اليدين بالتكبير شبّهها النبي صلى الله عليه وسلم تشبيهًا تخجل منه صلواتنا التي يسابق المرء فيها نفسه... بل الحقيقة أنه تشبيه مروّع مخيف... لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها أحد مكونات (صلاة المنافق)...

كم هي نتيجة مخيّبة أن يكتشف المرء نفسه يصلي منذ سنين صلاة تشبه صلاة المنافق؟! وهي (صلاة النقر)... ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا» (مسلم: [622]).

هل تصدّق أنني من شدة الحرج اكتشفت أنني أغالط نفسي بلا شعور... وأقول في داخلي لعل النبي صلى الله عليه وسلم علّق وصف النفاق هنا على تأخير الصلاة لآخر وقتها... كنت كأنني استعجل وأنا أقرأ قوله: «فنقرها أربعًا»... كأنني أتهرب من مواجهة الحقيقة... ثم وجدت ابن تيمية يقرصني ويقول "فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن صلاة المنافق تشتمل على: التأخير عن الوقت الذي يؤمر بفعلها فيه، وعلى النقر الذي لا يذكر الله فيه إلا قليلًا" (الفتاوى: [15/235]).

وأنا أقرأ هذا الحديث وشرحه لابن تيمية تذكرت صلواتي... فتذكرت فورًا عبارة الفضيل بن عياض وهو يتضرع لله ويبكي ويقول مناجيًا ربه: "واسوأتاه والله منك وإن عفوت" (شعب الإيمان للبيهقي: [3897]).

إي والله يا أبا علي... واخجلتاه من ربنا وإن عفا عنا... وأي عمود للإسلام سنقدم به عليه؟!... وماذا يغني الرواق والأطناب إذا كان (العمود) منخورًا من الداخل...

وقد قمت مرةً وجردت أحاديث الصلاة في صحيحي البخاري ومسلم، وكنت أتأمل المعاني المسلكية وراء هذه الأحكام الفروعية، وهي تبلغ زهاء ثمانمائة حديث، وكم أبهرتني النتيجة إذ وجدت أن كثيرًا من هذه الأحكام الفروعية التي تضمنتها الأحاديث النبوية تسير بك رويدًا حتى توقفك عند عتبات الخشوع وإطراقة السكينة...

وسأستعرض بعض النماذج:

فأول أمر هو في طريقة إنشاء وتصميم المسجد الذي سيصلى فيه من الأساس... فبرغم أن التزيين والتجميل فرع عن الاهتمام والتعظيم في الأصل... إلا أن الشارع نهى عن زخرفة المساجد لأنها تشغل المصلين والخشوع أهم وأولى... وقد بوب البخاري في صحيحه فقال: "باب بنيان المسجد: وأمر عمر ببناء المسجد وقال: وإياك أن تحمّر أو تصفّر فتفتن الناس، وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى"... ثم روى حديث ابن عمر (ح: [446]) الذي يدل على تواضع بناء مسجد رسول الله وهدوء مكوناته الإنشائية بما يبعث الوئام والسكينة للمصلي...

ويكفي في هذا كله حديثي إرجاع خميصة أبي جهم وإماطة قرام عائشة... وهما مجرد أقمشة... فكيف بأنواع الطلاء والزخارف والنقوش الصارخة التي ابتليت بها مساجد المسلمين اليوم... كأنما تتحدى المصلي بالتفنن في إغرائه وإرغامه على الإذعان لزينتها... هل باني المسجد يريد أن يوصل رسالة للمصلين أنه بنى المسجد من ملاءة لا من كفاف... أم هو يتقرب لله على سنة نبيه؟

ثم إذا قام المسجد على الوصف النبوي المتواضع... وصدح المؤذن وهم المصلي بالذهاب، ولكن سفرة الطعام قد انبعثت رائحتها الزكية فانشغل القلب المتضور فقد أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجلس ويكمل طعامه حتى يفرغ باله ثم يقوم للصلاة منصبًا تفكيره على صلاته بخشوع... ففي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قُرِّب العشاء، وحضرت الصلاة، فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم» (البخاري: [672]، مسلم [557]).

وفي صحيح مسلم: «إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء، ولا يعجلن حتى يفرغ منه» (مسلم: [559]).

وهكذا في كل المشغلات وجّهنا النبي صلى الله عليه وسلم للتخلص منها قبل أن نمضي للصلاة حتى لا يخدش مقصود الصلاة الأعظم وهو الخشوع... ومن ذلك ما في صحيح مسلم «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان» (مسلم: [560]).

فإذا تخلص المؤمن من هذه المشغلات التي تقطع صفاء تفكيره في الصلاة وهم بالمضي للمسجد المتواضع الهادئ فقد نبّهه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نمط المشي وطريقة مد الخطى كل ذلك تحصيلًا للسكون حتى في طريق المشي للصلاة ذاتها! ففي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة» (البخاري: [908]، مسلم: [602])...

بل نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاحتشام بعباءة الوقار أثناء المشي للصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار» (البخاري: [636]، مسلم: [602])...

والحقيقة أن التحليل الذهني الصرف قد يرى أن الاستعجال في المشي للصلاة يظهر منه معنى المسارعة للخيرات... ولكني النبي صلى الله عليه وسلم نبّه لخلاف ذلك... فالاستعجال في المشي للصلاة تثور معه الأصوات وتتشوش معه السكينة... سواء سكينة الماشي للصلاة أو سكينة المأمومين بسبب ضجيج الأصوات خلفهم... ولذلك ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع جلبة، فقال: «ما شأنكم؟»، قالوا استعجلنا إلى الصلاة، قال: «فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة» (مسلم: [603])...

فإذا كان كل هذا الاهتمام بالسكينة في (المشي) للصلاة فكيف في (الصلاة) ذاتها؟!

وحين يتقدم المؤمن للمسجد قبل الإقامة فيتنفل ويدعو ويتلو شيئًا من القرآن... ثم يدوي صوت المؤذن بالإقامة... فإن بعض الناس يختلج بحركات مفاجئة بلا تؤدة... وقد نبّهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في هذا الموضع وهو مجرد قيام من الصف للصلاة أن نقوم بسكينة... ففي البخاري «إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني وعليكم بالسكينة» (البخاري: [638])...

ثم قبل أن يكبر المصلي إمامًا أو منفردًا فقد ندبه النبي صلى الله عليه وسلم لوضع سترة تحجز نظر المصلي لتحفظ عليه خشوعه وترد بصره لئلا يتفلت في الوسط المحيط... فإن النفوس إذا لم توضع لها حدود استرسلت وصارت كل خطوة من التفسح البصري ترقق ما بعدها... وحاجة النفوس للحدود عام في الطعام والسماع والكلام والنظر ونحوها من موارد الحس...

وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجدار والراحلة ومؤخرة الرحل والحربة والعنزة وكل ذلك في الصحيحين، ولذلك صار الصحابة شديدي الحرص على السترة... وفي البخاري عن أنس بن مالك قال: "لقد رأيت كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب" (البخاري: [503]، مسلم: [837]).

وغلّظ النبي صلى الله عليه وسلم تغليظًا شديدًا في المرور بين المصلي وسترته لأن المارّ يثير طين الدنيا بعد أن صفى ماء المناجاة... ولذلك ففي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيرًا له، من أن يمر بين يديه» (البخاري: [510]، مسلم: [507])...

بل أمر النبي بما هو فوق ذلك كله كما في الصحيحين أنه قال: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفع في نحره فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان» (البخاري: [509]، مسلم: [505])...

فتمعن بالله عليك في عظمة أحكام (سترة المصلي) وما جاء فيها من الأحاديث في الصحيحين... ثم استحضر أن كل هذه الأحكام النبوية رعاية لجناب (الخشوع)... وحفظًا لمقام السكينة والإخبات في الصلاة... وردًا لتفلت البصر...

فإذا انتهى المؤمنون من بناء مسجدهم الهادئ في تصميمه... وفرغوا من المشغلات من الطعام وحاجات الخلاء... ومشوا للصلاة بسكينة... وسمعوا الإقامة فقاموا للصف بسكينة أيضًا... ثم كبروا بين يدي الله... فإن بقاء يدي المصلي بعد التكبير مرسلتين حرّتين تهيجهما للحركة والتجول بين أعضاء الجسم... فشرع النبي تقييدهما ببعضهما على الصدر... ووظيفة هذا تحصيل الخشوع واعتقال بواعث العبث... كما في حديث وائل بن حجر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم وضع يده اليمنى على اليسرى" (مسلم: [401])...

وهذا الفهم لحكمة (وضع اليدين على الصدر) شائع بين العلماء، قال النووي: "قال العلماء والحكمة في وضع إحداهما على الأخرى أنه أقرب إلى الخشوع ومنعهما من العبث" (شرح النووي على مسلم، دار القلم: [4/358])...

ثم تمعّن أيضًا كيف نهى عن ضم الثياب والشعر في الصلاة لما في تركهما من كمال الأدب والإخبات بسجود الشعر، وفي كفهما انشغال، ففي الصحيحين «ولا أكف ثوبًا ولا شعرًا» (البخاري: [816]، مسلم: [490])...

ولذلك شبّه النبي صلى الله عليه وسلم من يصلي معقوص الشعر بأنه مثل مكتوف اليدين، أي أنه لا تمس يده الأرض، كما في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل هذا، مثل الذي يصلي وهو مكتوف» (مسلم: [492])، وقد قال ابن تيمية: "والمعقوص لا يسجد شعره" (الفتاوى: [22/450])، وهو مأثور عن ابن مسعود، والمعقوص والمكتوف كلاهما مشدودان للخلف.

ثم تدبّر كيف نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسوية محل السجود إلا بأقل حركة، ففي الصحيحين عن معيقيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد: «إن كنت لا بد فاعلًا فواحدة» (البخاري: [1207]، مسلم: [546]).

ثم تبصّر في سنة الإبراد المذكورة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة» (البخاري: [536]، مسلم: [615])...

كل ذلك دفعًا لتأذي الجسد بآثار حرارة الطقس، ليكون أجمع للقلب فلا يتشتت، فانظر كيف أثّر طلب (الخشوع) في تغيير وقت الفضيلة في الصلاة!

وبرغم أن الأصل أن يكون السجود على الأرض، ولا يسجد المصلي على حائل متصل به، لكن مع الحر شرع الشارع السجود على (الثوب) ففي الصحيحين عن أنس: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه، فسجد عليه" (البخاري: [1208]، مسلم: [620]).

وقال ابن حجر منبّها على خلفيات هذا الحكم: "وفيه مراعاة الخشوع في الصلاة لأن الظاهر أن صنيعهم ذلك لإزالة التشويش العارض من حرارة الأرض" (فتح الباري، دار الريان: [1/588])...

ولأن جوهر (الخشوع) الذي تدور حوله أحكام الصلاة هو أن يعقل الإنسان صلاته ومعانيها ومعاني أذكارها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل للناعس اذهب وجدد بالماء نشاطك، بل قال له: «اذهب ونم»! فنهى الناعس عن مواصلة الصلاة لفوات المقصود الأصل وهو عقل المعاني، ففي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم، حتى يعلم ما يقرأ» (البخاري: [213])...

ولأن المساجد قد تغشاها النساء أحيانًا للصلاة فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لهن أحكامًا تنتهي كالعادة بالمطلوب الأجل وهو منع كل ما يشوش (الخشوع)... فندب لمباعدة المسافة بين مواضع صلاة كل جنس منهما... فجعل الصف الأول للنساء شر الصفوف! بينما الصف الأول للرجال خير الصفوف... فصارت فضيلة الصف لها نوع ارتباط بكمية المسافة بين الجنسين في المسجد... كما قال: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» (مسلم: [440])...

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تخطو للمسجد وقد تبللت بعطوراتها فقال:«إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا» (صحيح مسلم: [443])... بل أمرها بتجنب العطر ليلتها تلك فقال: «إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة» (المصدر السابق)... فإن فعلت وتعطّرت منعها النبي من شهود الصلاة: «أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» (المصدر السابق).

فإذا تأملت مباعدة صفوف الجنسين ومنع النساء العطور في المسجد لم يخطئ شعورك بكمال اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ جناب الخشوع من أن يتشوش بتنمّل الدواعي الغريزية...

أرأيت... كادت كل دروب أحاديث الصلاة أن تنتهي بنا إلى بيت الخشوع...

ومازال في مفكرتي تأملات أخرى دونتها أثناء تأملي لأحاديث الصلاة في صحيحي البخاري ومسلم... ولكني أشعر أنه من غير المناسب مواصلة العرض... فالمقصود ذكر بعض النماذج التمثيلية الدالّة... وليس المراد الاستقصاء والاستيعاب...

فبالله عليك أي دلالة على منزلة الخشوع والسكون والإطراق والتؤدة والتمهل في الصلاة أعظم من هذه الدلالات... ليست القضية آية أو حديث يأمر بالخشوع... بل هناك (منظومة أحكام) كلها تأخذ بيدك إلى أن تتنفس أثير الخشوع...

والمعنى الشرعي الذي تتواطأ عليه نصوص كثيرة أجل وأعظم منزلة من المعنى الشرعي الذي يأتي بتقريره نص أو نصان حتى لو كانا صريحين مباشرين... ولذلك كان التواتر المعنوي أعظم دلالة من التواتر اللفظي وإن توهم أكثر الناس خلاف ذلك... لأن التواتر اللفظي المجرد قوته في الثبوت فقط، وأما التواتر المعنوي فقوته في الثبوت والدلالة كليهما، فليس المعنى الذي كرره الشارع بصيغ متنوعة كالمعنى الذي ذكره مرةً أو مرتين، ففيه قدر زائد على مجرد اليقين الثبوتي وهو (تعدد التأكيد) من الشارع...

فإذا كان الشارع يسترسل بإصدار الأحكام الفروعية طلبًا لتحصيل الخشوع... ثم مازال الخشوع ليس له حضور في اهتماماتنا يوازي اهتمام رسول الله... فأين سنذهب بوجوهنا من الله غدًا؟

وما أكثر ما تساءلت كيف يقع المرء في صلاته في أحبولة الاستلهاء والتخيلات والهواجس وهو مؤمن بأن هذه كلها من مؤامرات الشيطان التي كشفها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم... فهذه الذكريات والسرحان وحديث النفس الذي يهجم على المرء بمجرد تكبيرة الإحرام نحن نعرف مصدره جيدًا... ومع ذلك مازلنا ضحيته...

فأما مصدره فقد نبّهنا النبي صلى الله عليه وسلم ما الذي يحدث بعد انتهاء التثويب أي إقامة الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: «حتى إذا قُضِي التثويب، أقبل الشيطان حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا... لما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى» (البخاري: [608]، مسلم: [389]).
وفي رواية «فهنّاه ومنّاه، وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر» (مسلم: [389])...

فبالله عليك... هل يختلف المشهد في صلاتنا عما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فتأمل قوله: «اذكر كذا... اذكر كذا...» وكيف تتزاحم فعلًا أحاديث النفس في الصلاة ترتطم موضوعاتها ببعضها وتفتح الملفات واحدًا تلو الآخر، ويسلمك السابق للاحق، حتى تصبح حركتك في الصلاة انتقالات آلية لا يعقل المصلي معناها...

وتأمل قوله: «لِما لم يكن يذكر من قبل» ألست تجد هذا فعلًا؟! فإذا كبّرت للصلاة أثيرت أمامك الموضوعات المنسية؟!

وتأمّل قوله: «فهنّاه ومنّاه» أي هيّج عليه المطامع والأماني... وكم أجرى المصلي من توقّعات مالية!

هذا هو المشهد الذي كشفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم... وهذه هي السيناريوهات بعينها التي يستعملها الشيطان فور تكبيرة الإحرام... كيف نعرف موضع الفخ جيدًا ثم نسمي بالله ونضع ساقنا فيه كل مرة؟!

وكم تساءلت ما أكثر أن تندلق (أذكار الصلاة) على ألسنتنا لا نعقل من معانيها شيئًا... أصبحنا في صلاتنا كأننا أجهزة آلية تنطق نصوصًا مخزّنة مسبقًا... وهل تعقل الآلة من ذاكرتها شيئًا؟!... فيفوت علينا من عيش أجر الألفاظ الصلوية في الآخرة بقدر ما فات من عيش معانيها في الدنيا... تأمل بعض فضائل الألفاظ الصلوية:

الله جل جلاله يجيب عبده إذا قرأ الفاتحة فيقول له: حمدني عبدي... أثنى علي عبدي... مجدني عبدي... إلخ (مسلم: [395])...

ثم إذا أمّن الإمام أكرمنا الله بهذا الفضل «إذا أمن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» (البخاري: (780])...

ثم إذا جاء موضع التحميد بعد الركوع فتح الله لنا هذا الطريق للثواب كما في البخاري: كنا يومًا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: «سمع الله لمن حمده»، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف النبي قال: «من المتكلم؟!»، قال الرجل: أنا، قال النبي: «رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول» (البخاري: [799]، مسلم: [600])...

فإذا بلغ المصلّي موضع (التحيات) أرشده النبي لقول «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» وذكر النبي صلى الله عليه وسلم من فضلها «فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض» (صحيح البخاري: [831]، صحيح مسلم: [402])...

هذه بعض فضائل الألفاظ الصلوية... فانظر إلى عظمة هذه الألفاظ... ولنبكِ على ما فاتنا من أجورها بقدر ما فات من تدبرها وعقل معناها أثناء الصلاة...

ويظهر لي أن جذر الخشوع مرتبط بقضية اعتقادية... وهي درجة العبد من منزلة الإحسان... التي هي فوق الإسلام والإيمان... والإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه"... وهذا الاعتقاد واستحضاره درجات متفاوتة لا ينضبط طرفاها... فكلما صعد العبد في مرقاة الإحسان أومضت في قلبه نوافذ الخشوع... ولذلك قال النووي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه»:
"لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى؛ لم يترك شيئًا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به...، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعًا من تلبسه بشيء من النقائص، احترامًا لهم واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعًا عليه في سره وعلانيته؟!" (شرح النووي على مسلم، دار القلم: [1/272])...

ولفت انتباهي في كتب علم السلوك أن العلماء حين يحاولون إحياء الخشوع في نفس القارئ وتذكيره بمنزلته أنهم يستخدمون المقارنة بين (الوقوف أمام ملوك الأرض والوقوف أمام ملك الملوك سبحانه)... ثم يأخذون في العتاب والتوبيخ: كيف يسكن المرء ويتأدب ويستجمع تفكيره أمام ملوك الأرض ويعبث غافلًا أمام ملك الملوك سبحانه وتعالى... وسأعرض نموذجًا لهذه المقارنة المقصودة...


فمثلًا يقول أبو حامد الغزالي: "فإن أضعافه مشاهد في همم أهل الدنيا، وخوف ملوك الدنيا مع عجزهم وضعفهم وخساسة الحظوظ الحاصلة منهم، حتى يدخل الواحد على ملك أو وزير، ويحدثه بمهمته، ثم يخرج، ولو سئل عمن حواليه، أو عن ثوب الملك لكان لا يقدر على الإخبار عنه لاشتغال همه به عن ثوبه وعن الحاضرين حواليه، فحظ كل واحد من صلاته بقدر خوفه وخشوعه وتعظيمه" (إحياء علوم الدين، دار الخير: [1/217])...


ويكرر أبو حامد هذه المقارنة في موضع آخر فيقول" "وكل من يطمئن بين يدي غير الله عز وجل خاشعا وتضطرب أطرافه بين يدي الله عابثا فذلك لقصور معرفته عن جلال الله" (السابق: [1/224])...

ويستعمل ابن القيم ذات هذا الأسلوب في المقارنة بين الوقوفين لكن بصيغة أخرى فيقول:
"ومَثَل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه؛ مثل رجلٍ قد استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينًا وشمالًا، وقد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه به، لأن قلبه ليس حاضرًا معه، فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟ أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتًا مبعدًا قد سقط من عينيه؟! فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله في صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحيا من ربه أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه" (الوابل الصيب، نشرة المجمع: [44])...


وهذا الأسلوب شائع في كتب علم السلوك الإسلامي... وكنت سابقًا أظنه من ابتكار عمالقة هذا الفن لتقريب المعنى الإيماني للخشوع... ثم تعجبت حين اتضح لي أن هذا الأسلوب استعمله قبل هؤلاء كلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قرّب المعنى للصحابة بالمقارنة في الأدب في القيام بين يدي المخلوق والقيام بين يدي الخالق كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه، أيحب أحدكم أن يُستقبَل فيُتنخَّع في وجهه؟!» (مسلم: [550])...

ولهذا نظائر كثيرة في السنة في غير موضوع الأدب في الصلاة، ومنها مقارنة النبي صلى الله عليه وسلم بين حرص الناس على الأجر الدنيوي وحرصهم على الأجر الأخروي! كما قال صلى الله عليه وسلم في المتخلفين عن صلاة الجماعة: «ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها، يعني صلاة العشاء» (مسلم: [651]).

وقال عن التلاوة في الصلاة: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟» قلنا: نعم، قال: «فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفات عظام سمان» (مسلم: [802])...

ونظائر هذا كثير... والمراد أن تلك المقارنات القياسية البديعة المشار لها التي يصوغها أمثال أبي حامد الغزالي وأبو الفرج ابن الجوزي وابن القيم وأضرابهم أن أصلها مستقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم... لكن استفاض أهل العلم في التنويع عليها وتطبيقها في مشاهد جديدة...

ضع في ذهنك مجددًا الحديث السابق في صحيح مسلم: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه، أيحب أحدكم أن يُستقبَل فيُتنخَّع في وجهه؟!»... ثم تلثّم وخذ جولة في سوء الأدب الذي يقع فيه بعض المصلين بين يدي الله... فكم فينا من يقوم بسلوكيات يتمزق خجلًا لو رآه يصنعها ذوو الجاه من الخلق... وهو يفعلها بين يدي رب الخلق سبحانه... فكم فينا من يعارك أنفه ينظفه في الصلاة... وبعضهم يكثر من حك ما يستحيا من حكّه... وآخر يرفع سرواله في الصلاة بطريقة غير مؤدبة يرسل مطاطه يستحلي فرقعة صوته... وسلوكيات كثيرة يجمعها (قلة التهذيب)... تزكم الأنوف... ويخجل المرء أن يفعلها أمام المعظّمين من الخلق... وهو يفعلها أمام العظيم سبحانه...

اللهم اغفر لي تقصيري في صلاتي... واغفر لإخواني المسلمين ممن قصّر في صلاته... وارزقنا قلبًا خاشعًا يا رب العالمين... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

أبو عمر

سادس رجب 1435هـ

المصدر: صفحة الشيخ إبراهيم السكران على تويتر

إبراهيم السكران

بكالوريوس شريعة- ماجستير سياسة شرعية-جامعة الإمام- ماجستير قانون تجاري دولي-جامعة إسكس-بريطانيا.

  • 61
  • 1
  • 89,832

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً