تعليل أحاديث الصحيحين بين المحدثين والمغرضين

منذ 2014-05-07

انتقد المحدِّثون رحمهم الله بعضَ الألفاظ أو الروايات في أحاديثَ يسيرة في الصحيحين، وهي قليلة جدًّا جدًّا، وتَكلُّمهم فيها يزيد المسلم يقينًا بصحة أحاديث الصحيحين؛ لأن المحدِّثين لا يُجامِلون أحدًا، ولا حتى الإمامين البخاريَّ ومسلمًا، واجتهدوا في تتبُّع أحاديث الصحيحين كلها حديثًا حديثًا، وتكلَّموا عن أي عِلَّة خفيَّة تظهر لهم في بعض طُرُق أحاديثهما، أو في لفظة واحدة..

انتقد المحدِّثون رحمهم الله بعضَ الألفاظ أو الروايات في أحاديثَ يسيرة في الصحيحين، وهي قليلة جدًّا جدًّا، وتَكلُّمهم فيها يزيد المسلم يقينًا بصحة أحاديث الصحيحين؛ لأن المحدِّثين لا يُجامِلون أحدًا، ولا حتى الإمامين البخاريَّ ومسلمًا، واجتهدوا في تتبُّع أحاديث الصحيحين كلها حديثًا حديثًا، وتكلَّموا عن أي عِلَّة خفيَّة تظهر لهم في بعض طُرُق أحاديثهما، أو في لفظة واحدة، وإن كان الحديث صحيحًا محفوظًا من طريق آخر، وكتاب الإمام الدار قطني (الإلزامات والتتبع) خير شاهد على ذلك..

فقد تتبَّع أحاديثَ الصحيحين، وتكلَّم على أدنى عِلَّة تظهر له، وإن كانت غير مؤثِّرة في صحة الحديث، وكذلك فعَل غيره من أهل العلم: كـ(ابن عمار الشهيد، وأبي مسعود الدمشقي، وأبي علي الغساني..) وغيرهم، وأكثر ما يُعِلون الحديث بأنه روي من طريق آخر موقوفًا أو مُرسَلاً، ولا يلزم من هذا تضعيفه مرفوعًا أو متَّصِلاً؛ لأن الراوي قد يروي الحديثَ مرفوعًا، ويرويه أحيانًا موقوفًا على الصحابي ولا يرفعه، أو يرويه متصلاً، ويرويه أحيانًا مرسَلاً، فإن كان مَن رفعه أو وصَله ثِقة حافظًا فلا جناح على البخاري أو مسلم في ذِكْر الرواية المرفوعة أو الموصولة، والعِبْرة عند المحدِّثين في ترجيح المرفوع أو الموقوف أو الموصول أو المرسَل بالقرائن.

هذا، ومن أراد أن يُشكِّك في حديث في الصحيحين أو حتى في غيرهما مما صَحَّ سنده لا يُقبَل منه ذلك، إلا إذا أتى بحُجَّة بيِّنة بحسَب القواعد التي وضعها أهلُ الحديث رحمهم الله؛ فإنهم يجمعون طرقَ الحديث، فيتبيَّن لهم الصوابُ من الخطأ، وبجمعهم للروايات يتبيَّن لهم حالُ الرواة في الحفظ والإتقان؛ فمَن وافَق أصحابَه الذين يُشارِكونه في الرواية عن شيخهم، تبيَّن لهم ضَبْطه وإتقانه، فإن خالَفهم بالزيادة والنقصان والخطأ تبيَّن لهم ضَعْفُ حِفْظه، فإن أضاف إلى ذلك تَفرُّده بروايات عن شيخهم الواحد، ولم يذكرها غيره من طلاب ذلك الشيخ، تبيَّن لأهل الحديث كَذِبُ ذلك الراوي، أو اتَّهموه بالكَذِب بحسب إكثاره من التفرد، وبحسب مروياته ومخالفته لأقرانه الذين يروون عن شيخ واحد.

هذا، ومَن يتكلَّم في طُرُق الحديث بعِلْم وإنصاف بحسَب قواعد المحدِّثين في البحث والتحقيق فلا عَتب عليه، ويبقى قوله ورأيه ظَنيًّا كما هو رأي مَن يُخالِفه؛ لأن تعليل الأحاديث مبني على غلبة الظن؛ كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 585): "تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غَلبة الظنِّ، فإذا قالوا: أخطأ فلان في كذا، لم يتعيَّن خطؤه في نَفْس الأمر، بل هو راجح الاحتمال".

والناظر في كتاب (التتبُّع) للدارقطني بتحقيق الشيخ مُقبِل الوادعي، يَجِد أن أكثر ما انتقده الدارقطني على البخاري لا يؤثِّر في صحة الحديث؛ لأن انتقادَه إنما هو في بعض الطرق، مع كون البخاري رواه من طريق آخر سنده صحيح لا عِلَّة فيه، ولم يتمَّ انتقادُ الدار قطني للبخاري إلا في حديث واحد فقط، مع كون صحته ليست بعيدة للمتأمل فيه، وهو حديث رقم (2855)، قال الإمام البخاري رحمه الله: حدَّثنا علي بن عبد الله بن جعفر، حدثنا معن بن عيسى، حدثنا أُبي بن عباس بن سهل، عن أبيه، عن جده، قال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حائطنا فَرَس يقال له: اللحيف".

قال الدار قطني في كتابه: (الإلزامات والتتبع) ص:203: أُبي بن عباس: ضعيف.
وصدق الدارقطني في ذلك، ولكن ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الحديث رواه عبد المهيمن بن عباس بن سهل، وتابَع أخاه أُبيًّا في روايته عن أبيه عن جده، وعبد المهيمن ضعيف مِثْل أخيه! لكن يقال: "ليس واحد منهما مُتَّهَمًا بالكذب"، وروايتهما عن أبيهما عن جدهما لا تخفى عليهما؛ لأن هذا السند ليس مما يَغْلَط فيه الراوي، ولا يُخشى من خطئهما في متنه؛ لكون المتن قصيرًا، ولعل هذا ما جعل البخاريَّ يطمئن إلى صحته، وهذا هو الحديث الوحيد الذي تَمَّ انتقاد الدار قطني للبخاري فيه بحسب قواعد المحدثين، ومع هذا فانتقاده محتمل، وقد يكون الصواب مع البخاري كما شرحته.

وأما مسلم فقد تَمَّ للدار قطني انتقاده في عدة أحاديث قليلة في صحيحه، لكن هناك حقيقة علميَّة لا يَعلَمها كثيرٌ من الناس، وهي أن مسلمًا قد يروي الحديثَ في صحيحه ليُبيِّن عِلَّته، ولا يريد من ذِكْره أن يُثبِتَ صحتَّه؛ فطريقته في صحيحه أنه يروي الحديث من أصح الطرق، ثم قد يذكر طريقًا لذلك الحديث فيها زيادة ضعيفة، فيرويها ليُبيِّن عِلَّتَها، وقد ذكر طريقته هذه في مقدمة صحيحه، ولم يتنبَّه لهذا بعضُ مَن يَنتقِده؛ حيث يَنتقِد ما ذكَره مسلم ليبيِّن علَّته!

قال الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه (47/1): "إنا إن شاء الله مبتدئون في تخريج ما سألتَ وتأليفه، على شريطةٍ سوف أذكرها لك، وهو أنَّا نَعمِد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس على غير تَكرار، إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن تَرداد حديث فيه زيادة معنى، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد، لِعلَّة تكون هناك، فأما القسم الأول: فإنا نتوخَّى أن نُقدِّم الأخبارَ التي هي أسلم من العيوب من غيرها، فإذا نحن تَقصَّينا أخبارَ هذا الصِّنف من الناس، أتْبَعناها أخبارًا يقع في أسانيدها بعضُ من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدَّم قبلهم، وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحًا وإيضاحًا في مواضع من الكتاب عند ذِكْرِ الأخبار المعلَّلة، إذا أتينا عليها في الأماكن التي يَليق بها الشرح والإيضاح، إن شاء الله تعالى" (انتهى بلفظه باختصار).

قال المحدِّث العلامة عبد الرحمن المعلمي في كتابه النافع: (الأنوار الكاشفة) ص:29: "عادة مسلم أن يُرتِّب رواياتِ الحديث بحسب قوتها، يُقدِّم الأصح فالأصح"، وما أحسن ما يقوله شيخنا المحدِّث مقبل الوادعي في تحقيقه لكتاب الدار قطني: (الإلزامات والتتبع): "أخرجه مسلم ليُبيِّن عِلَّته" (انظر: مثلاً (ص:147، وص:351، وص:366)، وأذكُر مِثالين لحديثين أعلَّهما بعضهم في صحيح مسلم، مع كون الإمام مسلم رحمه الله ذكرهما في صحيحه ليُبيِّن عِلَّة فيهما، مع كون أصلهما حديثين صحيحين:

المثال الأول: قال مسلم في حديث رقم: (2065): "حدَّثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأتُ على مالك، عن نافع، عن زيد بن عبدالله، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يشرب في آنية الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»".

وحدَّثناه قتيبة، ومحمد بن رمح، عن الليث بن سعد، ح، وحدثنيه علي بن حُجر السعدي، حدثنا إسماعيل يعني: ابن عُلَيَّة عن أيوب، ح، وحدثنا ابن نمير، حدثنا محمد بن بشر، ح، وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن سعيد، ح، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، والوليد بن شجاع، قالا: "حدثنا علي بن مُسهِر، عن عبيد الله، ح، وحدثنا محمد بن أبي بكر المُقدَّمي، حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، ح، وحدثنا شيبان بن فَرُّوخ، حدثنا جرير يعني: ابن حازم عن عبد الرحمن السراج، كل هؤلاء عن نافع، بمِثل حديث مالك بن أنس، بإسناده عن نافع، وزاد في حديث علي بن مسهر، عن عبيد الله: «إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب»"، وليس في حديث أحدٍ منهم ذِكْرُ الأكل والذهب إلا في حديث ابن مُسهِر، فانظروا كيف بيَّن علة الحديث، وأن ابن مُسهِرٍ زاد الأكل، وزاد الذهب، وأن الصواب في الحديث ذِكْر الشرب فقط في آنية الفضة بدون ذِكْر الأكل، وبدون ذكر الذهب.

المثال الثاني: قال مسلم: (330): "حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وإسحاق بن إبراهيم، وابن أبي عمر، كلهم عن ابن عيينة، قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغُسْل الجنابة؟ قال: «لا، إنما يكفيك أن تَحْثي على رأسك ثلاث حَثَيات، ثم تُفيضين عليك الماء فتَطهُرين»"، وحدَّثنا عمرو الناقد، حدثنا يزيد بن هارون، ح، وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، قالا: "أخبرنا الثوري، عن أيوب بن موسى، في هذا الإسناد، وفي حديث عبد الرزاق: فأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: «لا»" ثم ذكر بمعنى حديث ابن عيينة.

وحدَّثنيه أحمد الدارمي، حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا يزيد يعني: ابن زريع عن رَوح بن القاسم، حدَّثنا أيوب بن موسى بهذا الإسناد، وقال: "أفأَحُله فأغسله من الجنابة؟"، ولم يذكر الحيضة.. فانظر كيف بيَّن الإمام مسلم أن عبد الرزاق الصنعاني شذَّ في ذِكْره الحيضة، وأن غيره من الرواة لم يذكروها، فمن ضعَّف روايةَ الحيضة فقد أصاب، ولكن لا يقال: إنه انتقد ذلك على مسلم؛ لأن مسلمًا نفسَه بيَّن ضَعْفَها.

وأختم مقالي هذا بما قاله ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث (ص:29): "ما انفرد به البخاري أو مسلم مُندرِجٌ في قبيل ما يقطع بصحته؛ لتلقِّي الأمة كلَّ واحد من كتابيهما بالقَبُول، على الوجه الذي فصَّلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلَّم عليها بعض أهل النقد من الحُفَّاظ، كالدار قطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن، والله أعلم".

 

محمد بن علي بن جميل المطري

  • 8
  • 3
  • 19,944

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً