فذو العرش محمود وهذا محمد

منذ 2014-05-08

لقد وعده رجل في مكان، فانتظر صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ثلاثة أيام، ليفي بوعده. لقد عاهد المشركين واليهود وهم أشد الناس عداوة له، فما خان ولا خلف بالعهد، ولا نقض الميثاق. وحق له أن يكون أوفى الناس بوعده وأصدقهم في عهده، وهو الذي جاء بشريعة الصدق والوفاء، وحذر من الخيانة ونقض الميثاق..


قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79].


الشمس من حسادهِ والنصر من *** قرنائه والحمد من أسمائهِ
أين الثلاثة من ثلاث خلالهِ *** من حسنهِ وإبائِهِ ومضائهِ
مضت الدهور وما أتينَ بمثلِهِ *** ولقد أتى فعجزن عن نظرائِهِ

 

محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.. هذا الاسم الأعلم، إذا ذُكر ذكرَتْ معه الفضيلة في أجمل صورها، وذُكر معه الطهر في أرقى مشاهده، وذًكر معه العدل في أسمى معانيه.
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.. اسم كتب بحروف من نور في قلوب الموحدين، فلو شققت كل قلب لرأيته محفورًا في النياط مكتوبًا في السويداء، مرسومًا في العروق.

 

والله لو شق قلبي في الهوى قطعاً *** وأبصر اللحظ رسماً في سويداهُ
لكنت أنت الذي في لوحه كتبت *** ذكراه أو رسمت بالحبّ سيماهُ

 

محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الغرة والتبجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المؤيد بجبريل.. حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي.
بشرت به الرسل، وأخبرت به الكتب، وحفلت باسمه التواريخ، وتشرفت به النوادي، وتضوعت بذكره المجامع، وصدحت بذكراه المنائر، ولجلجت بحديثه المنابر.

 

عصم من الضلالة والغواية {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]، وحفظ من الهوى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
فكلامه شريعة، ولفظه دين، وسنته وحيّ {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4].
سجاياه طاهرة، وطبيعته فاضلة، وخلاله جميلة، وخصاله نبيلة، ومواقفه جليلة {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79].
تواضعه جمّ، وجوده عمّ، ونوره تمّ، فهو مرضي الفعال، صادق الأقوال، شريف الخصال {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
لين الجانب، سهل الخليقة، يسير الطبع {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ظاهر العناية، ملحوظ بعين الرعاية، منصور الراية، موفق محظوظ، مظفر مفتوح عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1].
أصلح الله له قلبه، وأنار له دربه، وغفر له ذنبه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2].
فهو المصلح الذي عمر الله به القلوب، وأسعد به الشعوب، وأعتق به الرقاب من عبودية الطاغوت، وحرّر به الإنسان من رقّ الوثنية {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
وهو الذي أعفى البشرية من التكاليف الشاقة، وأراحها من المصاعب، وأبعدها من المعاطب، وسهل لها -بإذن الله- أمر الحياة، وبصَّرها بسنن الفطرة {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].

 

فهو رحمة للإنسان، إذ علّمه الرحمن، وسكب في قلبه نور الإيمان، ودله على طريق الجنان..
وهو رحمة للشيخ الكبير، إذ سهّل له العبادة، وأرشده لحسن الخاتمة، وأيقظه لتدارك العمر واغتنام بقية الأيام..
وهو رحمة للشاب إذ هداه إلى أجمل أعمال الفتوة وأكمل خصال الصبا، فوجه طاقته لأنبل السجايا وأجل الأخلاق..
وهو رحمة للطفل، إذ سقاه مع لبن أمه دين الفطرة، وأسمعه ساعة المولد أذان التوحيد، وألبسه في عهد الطفولة حلة الإيمان..
وهو رحمة للمرأة، إذ أنصفها في عالم الظلم، وحفظ حقّها في دنيا الجور، وصان جانبها في مهرجان الحياة، وحفظ لها عفافها وشرفها ومستقبلها، فعاش أبًا للمرأة وزوجًا وأخًا ومربّيًا..
وهو صلى الله عليه وسلم رحمة للولاة والحكام، إذ وضع لهم ميزان العدالة، وحذرهم من متالف الجور والتعسف، وحد لهم حدود التبجيل والاحترام والطاعة في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم..
وهو رحمة للرعية، إذ وقف مدافعًا عن حقوقها محرمًا الحيف ناهيًا عن السلب والنهب والسفك والابتزاز والاضطهاد والاستبداد.


إذاً: فهو رحمة للجميع ونعمة على الكل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
كان إذا تبسم سبى القلوب وأسر الأرواح بإشراق وجهه وحسن قسماته وجمال محياه وبشاشة طلعته.
وكان إذا تكلم عبر كلامُه حدود النفس وتجاوز أقطار الروح، فغاص حديثه في أعماق الأفئدة، ونقش لفظه في صفحة الذاكرة، وخط على سويداء القلوب.

وكان إذا ضحك ملأ المكان أُنسًا، وأتحف الحضور بِشرًا، عبّأ جلّاسه سعادة وحفاوة.
وكان إذا بكى خشع لبكائه الناس، وذرفت كل عين مخزونها، وأخرجت كل نفس مكنونها، فكأن نذر القيامة على الأبواب، وكأن رسل الموت وقوف على الرؤوس، فلا ترى إلا دموعًا وخشوعًا وخضوعًا وإطراقًا {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم:59-60].


بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا *** وبكاك إذا لم يجرِ دمعك أو جرى

وكان إذا خطب هزّ المنابر، وأيقظ الضمائر، وحرك السرائر، وألهب السامعين، وأذهل المخاطبين، فلو أن للصخر عينًا لبكت، ولو أن للجدار نفسًا لخشعت، ولو أن للأيام أذنًا لأنصتت.


ليت للدهر مقلة فلعلّ *** الذكر يبكيه مثلما أبكاني
بحديثٍ يغوصُ في القلب *** غوصاً وعليه جلالة من معانِ

وكان إذا قاتل ثبت ثبوت الجبال، وتقدّم تقدّم السيل، وصمد صمود الحق {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84]، فكان لا يعرف الفرار، ولا يسمع بالهزيمة ولا يستسلم للإحباط، محياه باسم والغبار يملأ المكان، وقلبه مطمئن والرؤوس تعاف الأبدان، ونفسه ساكنة والنفوس شذر مذر على رؤوس الرماح، وطلعته ضاحكة والسيوف تخط بالدماء حروف الموت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].


وقفتَ وما في الموت شكٌّ لواقفٍ *** كأنك في جفن الرّدى وهو نائمُ
تمرُّ بك الأبطالُ كلمى هزيمةً *** ووجهُك وضّاحٌ وثغرُك باسِمُ

وكان إذا جاد بلغ المدى في السخاء، وفعل ما لم تفعله الأنواء، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويهب هبة من أرخص الدنيا وزهد في الحطام وعاف البقاء ورجا من الله الخلف.. يداه غمامة أينما هلّت، وكفّه مدرار أينما وقع نفع، جاد بمهجته فعرَّضها للمنايا في سبيل الله، وقدمها لشفرات السيوف لرفع لا إله إلا الله، فما شجاعته إلا آية لجوده، وما إقدامه إلا برهان على سخائه:

 

أنت الشجاع إذا لقيت كتيبةً *** أدّبت في هول الردى أبطالَها
وإذا وعدتَ وفيتَ فيما قلتَه *** لا من يكذّب قوله أفعالها

يعطي ما يملك في ساعة، ويهدي ما عنده في لحظة، هانت عليه الدنيا فمنح أجلاف العرب مئات الإبل، ورخصت عنده الأموال فجاد بالغنائم على مسلمي الفتح: «لو كان لي عَدَدُ هذه العِضاهِ نَعَمًا لقَسَمْتُه بينَكم، ثم لا تَجِدوني بَخيلًا، ولا كَذوبًا، ولا جَبانًا» (صحيح البخاري).
ما قال (لا) إلا في التشهد، وما ترك (نعم) إلا عند المناهي.

سئل قميصَهُ فخلعه وأعطاه، وجاد بقوته فعصب بطنه على حرّ الجوع وبلواه.. جود حاتم للصّيت والسمعة والرياء، وجود خاتم الأنبياء لمرضاة رب الأرض والسماء.
أنفق من فاقة، وأعطى من فقر، وآثر من حاجة، ووصل مع العوز.


وكان إذا عفا على الجاني أسره بإحسانه، فلا يعاتبه ولا يطالبه.. ينسى الإساءة ويدفن الزلة ويمحو بحلمه الذنب، ويغطي بصفحه الجرم {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85].

قاتله قومه ونازلوه، فآذوه وسبّوه وشتموه، وطردوه وحاربوه وجرحوه، فلما انتصر عفا وصفح، وحلم وسمح، وكانت أنشودة أخلاقه: «صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، و أَحْسِنْ إلى مَنْ أَساءَ إليكَ، و قُلِ الحقَّ و لَوْ على نَفْسِكَ» (السلسلة الصحيحة:1911).

 

كل خلق نبيل في القرآن فهو مترجم في سيرة هذا الإنسان، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن".

وكان إذا وعد وفى، فلم يحفظ عنه أعداؤه خلفاً لوعد، ولا خيانة لعهد، مع حرصهم الشديد على الظفر بعثرة له أو زلة، ولكن هيهات، عاش عمره كله سلمًا وحربًا ورضًا وغضبًا وحلاً وترحالاً، عاش حالة واحدة من الصدق والأمانة، فهل الصدق إلا ما كان عليه؟
وهل الأمانة إلا منه وإليه؟


لقد وعده رجل في مكان، فانتظر صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ثلاثة أيام، ليفي بوعده. لقد عاهد المشركين واليهود وهم أشد الناس عداوة له، فما خان ولا خلف بالعهد، ولا نقض الميثاق. وحق له أن يكون أوفى الناس بوعده وأصدقهم في عهده، وهو الذي جاء بشريعة الصدق والوفاء، وحذر من الخيانة ونقض الميثاق، أليس هو القائل: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (صحيح البخاري)، وهو الذي نزلت عليه {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]، وقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد:20].


وإذا أخذت العهد أو أعطيتَه *** فجميع عهدك ذمة ووفاءُ

عائض بن عبد الله القرني

حاصل على شهادة الدكتوراة من جامعة الإمام الإسلامية

  • 2
  • 0
  • 8,154

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً