من الذي أضل الآخر وأفسده؟!
سؤالٌ مهم.. وقضية تستحق النظر والتأمُّل، فكيف يُصنع الفرعون، وكيف يتكوَّن الطاغية، وكيف يظهر المُستَبِد ويتحكَّم في مقاليدِ شعبٍ ما، بينما الجماهير تُصفِّق له، وتسير خلف ركابه، وتصرخ حناجرها: بالروح بالدم نفديك يا فلان أو عِلان!
"من الذي أضل الآخر وأفسده.. الأتباع أم المتبوعون؟! الشعوب أم فراعنتها؟!"..
وهذا سؤالٌ مهم.. وقضية تستحق النظر والتأمُّل، فكيف يُصنع الفرعون، وكيف يتكوَّن الطاغية، وكيف يظهر المُستَبِد ويتحكَّم في مقاليدِ شعبٍ ما، بينما الجماهير تُصفِّق له، وتسير خلف ركابه، وتصرخ حناجرها: بالروح بالدم نفديك يا فلان أو عِلان!
ومن المسئول عن إضلال الآخر وإفساده؟
هل هو المتبوع بمكره وكيده، وظلمه وجوره؟
أم التابع بسكوته وصمته، بل بتأييده ومتابعته؟
ربما قال قائل إن الزعماء والمتبوعين هم المسئولون عن الفساد والإفساد، وتغييب الشعوب، وظلمها ومصّ دمائها والسطو على ثرواتها ومقدراتها وسومها سوء العذاب..
لكن يمكن الرد عليه بأن الشعوب المُغيَّبة والجماهير الجاهلة هي المسئولة! فهي التي صنعت الفرعون بتأييدها له، وسكوتها عن ظلمه وطغيانه، ثم هم أدواته التي يتم بها القهر، وتُنتهك بها الحُرمات، وليس الفرعون سوى شخصٍ واحد.. لا قيمة له ولا قوة لديه بدون حاشيته وأتباعه وشبكة المصالح المحيطة به، وسحرته وكهنته.
والظاهر والله أعلم أن المسئولية مشتركة والإضلال مُتبادَل، ولكل منهما كُفلٌ تام، ونصيب غير منقوص من كل ما يحدث من فساد وطغيان.
ففرعون قد أضل قومه وما هدى كما قال تعالى: {وأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79]، لكن قومه هم من قبِلوا الاستخفاف واستمرأوا الفساد وكانوا قومًا فاسقين كما قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].
والمستضعفون المجرمون يريدون تحميل المستكبرين مسئولية إعراضهم عن الإيمان وما كانوا عليه من ضلال: {ولَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31].
لكن المستكبرين لا يسكتون على هذا الاتهام ويتخلون عن هذه التبعة: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:33].
وإبليس نفسه رمز الشر ومنبع الإضلال يقول في الآخرة بعد أن يُقضى الأمر: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
ومن مشاهد القيامة الموجعة المؤلمة، التي تزيد أهل الضلال عذابًا فوق العذاب، وتتقطَّع قلوبهم معها حسرةً وندمًا مشهد التبرؤ المتبادَل بين الأتباع والمتبوعين، والسادة والعبيد، فالكل سوف يتبرأ من الكل، وينفي التبعة عنه ويحملها الآخرين كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ . وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166-167].
والأتباع الذين ضلُّوا وكفروا يتمنَّون التشفِّي ممن أضلَّهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29].
وهم يتمنَّون مضاعفة العذاب لهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا . رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:67-68].
وخلاصة الأمر.. أنه كثيرًا ما تصنع الشعوب طغاتها وفراعينها، فإذا هم يتسلَّطون عليها ويزيدونها ضلالًا إلى ضلال، لكنهم لا يعترفون بذلك وإنما يُحمِّلون الشعوب المسئولية، ولسان حالهم هو ما قاله ذلك القرين: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [ق من الآية:27].
- التصنيف: