آفات على الطريق (2/2)

منذ 2014-05-19

يقول ابن القيم: "وإن تأملت حكمته سبحانه تعالى فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجلّ الغايات، وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل لعبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنحة في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة، ومنّة عظيمة، تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان".

عقبة الابتلاء.. عقبة النفس

قال الشيخ محمد حسين يعقوب في كتابه (أصول الوصول إلى الله):
الطريق إلى الله كالطريق الحسية تمامًا، تجد فيها أنفاقًا مظلمة، ومنحنيات خطيرة، ومطبّات مرهقة، وإن معرفة آفات الطريق من المهمات التي ينبغي للسائر الإلمام بخباياها، وقد نقلنا عن الشيخ ثلاث آفات على طريق السائرين وهي: الخوف من وحشة التفرد، والفضول، والفتن. وها نحن نسوق إليك بقية هذه الآفات والعقبات، وهي:

الآفة الرابعة: عقبة الابتلاء.

وفي الطريق أيها السائر الحبيب، جسر لابد من تجاوزه وعبوره، إذ إن هذا شأن السالكين إلى الله تعالى في كل زمان ومكان، بل وهو من شأن الأنبياء والمرسلين، ذلكم الجسر هو الابتلاء والمحن التي تصيب السائر.

فلا بد لهذا الطريق من أن يصقله الابتلاء، وأن تظهر معدنه المحنة. قال الله تعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3].

و قد كان أول تبشير للرسول صلى الله عليه وسلم بالنبوة إنذاره بالإخراج، قال ورقة: "ما أتى رجل بمثل ما آتيت به إلا عودي"، وقال الراهب للغلام: "أنت اليوم أفضل مني وإنك ستبتلى"، وقيل للشافعي: "أحب إليك أن يمكن الرجل أو يبتلى؟" فقال: "لا يمكّن حتى يبتلى".

فالجسر إلى التمكين في هذا الطريق هو الابتلاء، ولابد من الصبر فيه والاحتساب، والرضا عن الله تعالى وبه، فإنه جسر الوصول، وقد حفت الجنة بالمكاره، يقول ابن القيم: "وإن تأملت حكمته سبحانه تعالى فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجلّ الغايات، وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل لعبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنحة في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة، ومنّة عظيمة، تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان".

وللمحن في هذا الطريق خصائص ومميزات، فكما أن المسلم يجب ألا ينفك عن عبادة ما {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، فلا بد أن يكون شعوره بالابتلاء هكذا؛ أنه في عبادة، يدوم معه في كل حركاته وسكناته، حتى يستصحب نية العبد على البلاء، واحتساب الأجر عند السميع البصير {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218- 219]، وهذا الجسر خطير، جسر الابتلاء، فإن كثيرًا من السالكين ضعفت قوته عن عبوره فرجع القهقري وترك الطريق.

الآفة الخامسة: عقبة النفس.

ثم يطالعك جسر آخر على الطريق، وهو النفس -نعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا-، يقول ابن القيم في (المدارج): "فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير الى الله عز وجل، وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل، فلابد أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاق عليه. ومنهم من هو سهل عليه، وإنه يسير على من يسّره الله عليه. وفي ذلك الجبل أودية وشعاب، وعقبات ووهود، وشوك وعوسج وعليق وشبرق، ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين، ولاسيما أهل الليل المدلجين.

 

فإذا لم يكن معهم عُدد الإيمان ومصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات، وإلا تعلقت بهم تلك الموانع، وتشبثت بهم تلك القواطع، وحالت بينهم وبين السير. فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته. والشيطان على قُلة ذلك الجبل، يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ويخوفهم منه. فتتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المُخوّف على قُلته وضعف عزيمة السائر ونيته، فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوع، والمعصوم من عصمة الله.

 

وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه، فإذا قطعه وبلغ قلته، انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانًا، وحينئذ يسهل السير، وتزول عنه عوارض الطريق، ومشقة عقبتها، ويرى طريقًا واسعًا آمنًا يفضي به إلى المنازل والمناهل، وعليه الأعلام وفيه الإقامات، قد أعدت لركب الرحمن. فبين العبد وبين السعادة والفلاح: قوة وعزيمة، وصبر ساعة وشجاعة نفس، وثبات قلب، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم".

فالنفس أمارة بالسوء، داعية إلى المهالك، طامحة إلى الشهوات، ولذا فهي أيضًا جسر لا بد من عبوره، أتى رجل إلى أبي علي الدقاق. فقال: قطعت إليك مسافة، فقال: ليس هذا الأمر بقطع المسافات، فارق نفسك بخطوة تصل إلى المطلوب. فلا بد من عبور جسر النفس، شهواتها، وملذاتها، أهوائها، وآمالها، لابد أن تعبر مرحلة "نفسي وما تشتهي" لتصل عبر جسر نفسك إلى ما يرضي ربك.

ويزيدك بصيرة في الأمر قول ابن القيم رحمه الله في (طريق الهجرتين): "وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل، وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطًا وفرحًا وهمة. فهو يقول: يا نفس أبشري فقد قرب المنزل ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول، فيحال بينك وبين منازل الأحبة، فإن صبرت وواصلت السير وصلت حميدة مسرورة جزلة، وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها لساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، فالله الله لا تنقطعي في المفازة، فهو والله الهلاك والعطب لو كنت تعلمين.

فإن استصعبت عليه، فليذكرها ما أمامها من أحبابها وما لديهم من الإكرام والإنعام. وما خلفها من أعدائها، وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاء؛ فإن رجعت فإلى أعدائها رجوعها، وإن تقدمت فإلى أحبابها مسيرها، وإن وقفت في طريقها أدركها أعداؤها، فإنهم وراءها في طلب مصيرها. ولابد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت.

وليجعل حديث الأحبة وشأنهم حاديها وسائقها، ونور معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها، وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءها، ولا يوحشه انفراده في طريق سفره، ولا يغتر بكثرة المنقطعين، فألم انقطاعه وبعاده واصل إليه دونهم، وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم، فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم؟ وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم بل هي من عوارض الطريق، فسوف تبدو له الخيام، وسوف يخرج إليه المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم. فيا قرة عينه إذ ذاك، ويا فرحته إذ يقول {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ .  ِبمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26-27].

ولا يستوحش مما يجده من كثافة الطبع، وذوب النفس، وبطء سيرها، فكلما أدمن على السير، وواظب عليه غدوًا ورواحًا وسحرًا، قرب من المنزل، وتلطفت تلك الكثافة، وذابت تلك الخبائث والأدران، فظهرت عليه همة المسافرين وسيماهم، فتبدّلت وحشته أنسًا، وكثافته لطافة، ودرنه طهارة".

 

هذا هو جسر النفس، البلاء الأكبر، والعائق الأشد، يشبه الجسر المعلق الذي لا جوانب له يستند عليها السائر، فهو خطر جدًا لابد عند المرور عليه من التركيز والهدوء، والتيقظ والانتباه لكل حركة يد ونقلة رجل وإلا فالسقوط. نعم: إنه جسر واهن من كثرة الذنوب والمعاصي، لذا كان على السائر أن يأخذ حذره، ويتدرب المرة بعد المرة، ويحاول ويعيد، ثم يحاول ويعيد حتى ينجح في ترويض نفسه على عبور تلك الجسور.

وبعد أيها السائر الحبيب، فيا سعادة من جاهد تلك الآفات. نعم: إنها أشواك، لكنها أشواق، يستشعر فيها السائر لذة الألم لله واحتساب الأجر من الله، فدس الشوك، وسر إلى الله. فقد اقتضت سنة الخالق أن العسل لا يحصل عليه إلا بلسع النحل، فما كان للمسافر إلى الله أن يحصل على ما يفيده في طريق وصوله إلا بشيء من المكابدة والعسر.

 

يقول ابن القيم عليه رحمة الله: "وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة، فالنفس موكلة بحب العاجل، وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب ومطالعة الغايات، وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن من رافق الراحة حصل على المشقة وقت الراحة في دار الراحة فإنه على قدْر التعب تكون الراحة".

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المصدر: من كتاب (أصول الوصول).

محمد حسين يعقوب

داعية إسلامي مصري، حاصل على إجازتين في الكتب الستة وله العديد من المؤلفات

  • 4
  • 3
  • 13,203

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً