النفاق الاجتماعي (ذو الوجهين)

منذ 2014-05-19

فإن من صور النفاق الاجتماعي الشائع في زماننا التلون في العلاقات وعدم الوضوح في المواقف والمبادئ والأحاديث لغرض الإفساد أو الانتفاع الشخصي.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإن من صور النفاق الاجتماعي الشائع في زماننا التلون في العلاقات وعدم الوضوح في المواقف والمبادئ والأحاديث لغرض الإفساد أو الانتفاع الشخصي. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة الذميمة بقوله: «تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» (متفق عليه). وذو الوجهين هو الذي يأتي إلى طرفين كالرئيس والمرؤوس أو جارين متخاصمين أو طائفتين متنافرتين إما لعصبية لنسب أو مذهب ديني فيُظهر للطائفة الأولى المحبة والمودة والموافقة لمذهبهم ويمتدح فعلهم ويقدح في فعل الطائفة الأخرى ويظهر مخالفتهم ثم يذهب للطائفة الأخرى ويظهر لهم المودة والمحبة والموافقة ويمتدح عملهم، ويقدح في الطائفة الأخرى ويُظهر مخالفتهم لأجل أن يفسد بينهما وقد يكون مقصده الاطلاع على أسرار كل طائفة؛ لأن الناس عادة لا يظهرون أمورهم الخاصة ومعايبهم إلا لمن يظهر لهم المحبة والموافقة ويأمنون جانبه ويحسنون فيه الظن وذو الوجهين لا يتمكن من ذلك إلا بإظهار الإخلاص والموالاة لهم.

 

وذو الوجهين يكون مع قوم على صفة ومع غيرهم على صفة أخرى؛ فإذا عاشر أهل الصلاح أظهر لهم الصلاح والتقوى والوقوف عند حدود الله، وإذا عاشر الفساق أظهر لهم الفجور والفواحش وتباهى بالسيئات؛ يستميل كلَ قومٍ بما يحبون لينال عندهم حظوة خلافًا للمؤمن الثابت على صفة واحدة.

 

وهذه الصفة من كبائر الذنوب التي ورد فيها الذم والوعيد لما تشتمل عليه من الكذب والخداع وهي من صفات النفاق وقد ورد في سنن أبي داود: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار». وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن ذا اللسانين في الدنيا له لسانان من نار يوم القيامة" (رواه ابن أبي شيبة). والمؤمن له وجهٌ واحد ولسانٌ واحد في الدنيا والآخرة.

 

وذو الوجهين منافق في العلاقات الاجتماعية، كاذب ومخادع في علاقاته ومبادئه، متلون في مواقفه ومشاعره ولذلك ثبت في صحيح البخاري قال ناس لابن عمر: "إنا لندخل إِلى أمرائنا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إِذا خرجنا من عندهم؟" فقال: "كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال القرطبي: "إنما كان ذو الوجهين شرَ الناسِ لأن حاله حال المنافق إذ هو متملق بالباطل وبالكذب مدخل للفساد بين الناس".

 

والمتلون ذو الوجهين يظهر لكل طائفة في وجه ليحقق مصالحه الشخصية ويتقي شرهم فإذا ظهرت دولة الطائفة الأولى وقويت شوكتهم أثنى عليهم وأظهر الولاء والوفاق لهم ليصيب دنياهم، وإذا ظهرت دولة الطائفة الأخرى فعل معهم كما فعل مع الطائفة الأولى ليفوز بغنيمة الدنيا وبئست الغنيمة. وذو الوجهين ليس له شخصية ثابتة وليس له مبادئ أو قيم؛ مهزوم من الداخل نشأ على الكذب والخداع والمراوغة كاذب اللهجة متأرجح يتمايل على حسب المصالح، تافه ووضيع وإن تزين واكتسى بالعباءة، محتَقَر في نظر الرجال، أمرُه مكشوف عند أهلِ الفراسة والعقل وإن تخفى وراء الأقنعة المزيفة وسيفضحه الله يوم القيامة في أعظم مشهد.

 

وذو الوجهين من أهل الخيانة لا يُولى ولاية، ولا يؤتمن في مسؤولية لأنه لا يقيم العدل والأمانة مع الآخرين ولذلك ورد في الأدب المفرد للبخاري قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينًا». أما من دارى الطائفتين وتودد لهم لقصد الإصلاح بينهما فستر القبيح في كل طائفة، وأظهر الخصال الحسنة فيهما ونقل كلامًا طيبًا ومشاعر حسنة ليؤلف بينهما- فهذا من الإصلاح ومن الأعمال الجليلة وقد ورد فيه ثواب عظيم وليس هذا من التلون المذموم ولذلك فإن الشارع رخص في الكذب لأجل الإصلاح بين الناس كما ثبت في الصحيحين: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرا وينمي خيرًا».

 

والمؤمن الحق لا يطبع قلبه على التلون والنفاق والكذب بل يكون على صفة ثابتة ومبدأ واضح وموقف لا يتغير ولا يتبدل لأجل عرض الدنيا ولا يضمر السوء بالمسلمين حتى مع المخالفين. وليس بالضرورة أن يميل إلى إحدى الطائفتين فقد يرجح طائفة على أخرى لأجل ما ظهر له من اتباع الحق ويظهر ذلك وقد يكون محايدًا بينهما وقد يكون مخالفًا لهما جميعًا المهم أنه صادق اللهجة ناصح واضح المواقف والمشاعر لا ينافق ولا يخادع فيظهر وجهًا وهو يبطن وجهًا آخر.

 

إن ذا الوجهين له ضرر عظيم على المجتمع ويفسد كثيرًا بين الناس خصوصًا بين الراعي والرعية وبين القبائل المتنافرة وبين أهل الخصومات والمشاحنات عن طريق المدح الكاذب والتملق الفاجر والنميمة الفتاكة وتأجيج الفتن وقد جر ذلك ويلات على المجتمع ووقعت إحن ومصائب عظيمة. قال الحسن البصري: "تولى الحجاج العراق وهو عاقل كيس، فما زال الناس يمدحونه حتى صار أحمق طائشًا سفيهًا".

 

وقد وجدت هذه الصفة الذميمة في واقعنا في وظائفنا وأسواقنا وصحافتنا وقنواتنا وكثُر التلون والكذب في المواقف والأحاديث، وهذا سببه ضعف التدين وقلة الورع والفتنة بزينة الدنيا والغفلة عن الآخرة وقلة احترام حقوق المسلمين ولذلك تجد الموظف يعتدي على حق أخيه لأجل علاوة أو منصب أو انتداب، وتجده يظلم أخاه الموظف ليقف في صف المسؤول ليتقاسم معه مصلحة معينة أو يحصل على ترقية وهكذا للتلون صور ونماذج في كثير من المجالات والميادين والله المستعان.

 

خالد بن سعود البليهد

عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة

  • 5
  • 1
  • 20,507

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً