العثرة المُكبِّلة

منذ 2014-05-21

النفس البشرية في أمور التربية الروحية في السير إلى الله سبحانه، ففي بداية الالتزام تنطلق سائرة إلى الله بإقبال وإشراق، تتطلع لكل سامٍ من الخُلق والسلوك، تخف وتنشط كثيرًا للطاعات، لا تجد صعوبة في ترك كل ما يشينها، وتبتعد بكل يسر عن كل ما لا يليق بها، ولكنها بعد فترة تأتيها شائبة من الشوائب، يراها العبد بسيطة ويسيرة، لكنها تعلق في قلبه وتكون حائلاً بينه وبين الانطلاق بنفس السرعة والإقبال واليسر التي كانت عليه النفس، فتثقل عليه الطاعات، ويعسر عليه كل ما كان يسيرًا أمامه، وتهون في عينه أشياء كان يعدها في سابق أيامه من الكبائر..

كعادة ما يحدث مع الكثير منا فيما نمتلكه من آلات في بيوتنا، تكون هناك فترة في عمل الآلة تنتظم في أدائها وتنطلق بسرعتها التي تعمل فيها، ثم يأتيها فترة تتعطل فيها سرعتها ويكبل سيرها فتقل إنتاجيتها ويضعف أداؤها، وربما يقف الكثير من أهل المعرفة حائرين أمامها، فكل ما فيها سليم، حتى ياتيها حاذق فيضع يده على موطن الخلل فيها ويستخرج قطعة بسيطة من الشوائب، فتعود مرة أخرى للانطلاق كما كانت على حالها الأول وكأنها لم تصب بسوء..

وهكذا النفس البشرية في أمور التربية الروحية في السير إلى الله سبحانه، ففي بداية الالتزام تنطلق سائرة إلى الله بإقبال وإشراق، تتطلع لكل سامٍ من الخُلق والسلوك، تخف وتنشط كثيرًا للطاعات، لا تجد صعوبة في ترك كل ما يشينها، وتبتعد بكل يسر عن كل ما لا يليق بها، ولكنها بعد فترة تأتيها شائبة من الشوائب، يراها العبد بسيطة ويسيرة، لكنها تعلق في قلبه وتكون حائلاً بينه وبين الانطلاق بنفس السرعة والإقبال واليسر التي كانت عليه النفس، فتثقل عليه الطاعات، ويعسر عليه كل ما كان يسيرًا أمامه، وتهون في عينه أشياء كان يعدها في سابق أيامه من الكبائر..

أنها (العثرة المكبلة) التي تكبل صاحبها عن معاودة الانطلاق والاستمرار فيه، وهي عثرة لا ينتبه إليها الإنسان الا بصعوبة، ولا ينتبه لها إلا حذاق المربين الذين يتجولون داخل النفوس ويعلمون دروبها وأغوارها، إنه لم يتغير ولم يقصر أو لم يتعمد التقصير، هكذا يظن في نفسه عند مراجعتها، إنه يظن أن ما به بأس فيتساءل كثيرًا: من أين أتى ما يكبل انطلاقه؟

لا شك وإنها الذنوب الخفية، ذنوب السر التي لا يطلع عليها الا الله، هي الذنوب التي أبكت صحابة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهي الوصية التي أوصى بها الإمام مالك تلميذه الشافعي حينما رأى وفور فطنته، وتوقد ذكائه وكمال فهمه، فقال له: "إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية".

أنت حكيم نفسك ولا أحد يعلم بهذا الذنب بعد ربك إلا أنت، فلكل منا عثرته التي يتعثر فيها، والتي يجب عليه في نفس الوقت أن يقاومها ويتوب منها، وينقي قلبه من أثارها وشوائبها، فكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمن أنه على حال دائم من مراجعة نفسه ومقاومة ذنبه الذي يكبل قدميه ويتسبب في عثرته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن إلا و له ذنب، يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه، حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنًا، توابًا، نسيًا، إذا ذُكِّر ذَكَر» (صحيح الجامع:5735).

كلنا ذاك الرجل: فهذا الحديث وصف حال للمؤمن الذي يعاني من ذنب يعلمه، ويعلم أنه السر وراء عثرته، وربما لا يصارح به أحدًا ولا يعلنه لبشر، ويستكتمه في قلبه فلا يطلع عليه أحد، ولكنه يظل دومًا كسير النفس مقيدًا مكبلاً لا يتحرك في سيره إلى الله كما كان، وتتعطل إمكانياته ومواهبه عن الخروج لنفع نفسه ولنفع المسلمين ابتغاء مرضات الله، وتكاثرت كلمات سلفنا الصالح في تكبيل المعصية للنفوس ووقوفها كسدة تسد مسالك سريان الطاعة للقلوب، فأخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه قوله: "إن الرجل ليحرم قيام الليل وصيام النهار بالكذبة يكذبها".

وقال الفضيل رحمه الله: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم، كَبَّـلَتك خطيئتك". ويقول طبيب القلوب الحاذق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "أجمع العارفون بالله بأن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات"، وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس"!

فكم من طاقة عطلتها هذه العثرة، وكم من موهبة خفتت بهذا القيد، وكم من نعمة سلبت وكم من نقمة أتت وكم من قلب كان مضيئًا بنور وبهاء الطاعة والإقبال سودته وأظلمت نوره هذه الذنوب الخفية، أنها العوائق المؤثرة التي تكبل الأقدام عن الإقدام، والتي تضعف القلوب عن الوقوف بقوة وثبات في مواجهة الباطل، وهي التي تجعل أحدنا يتأخر حين يتقدم غيره، ويجبن حين يقتحم غيره المفاوز لا يهاب ولا يخشى إلا الله، وهي التي تجعل أحدنا يضع عشرات المعاذير والأسباب لتبرير موقفه المتخاذل عن نصرة الحق الذي يعلمه يقينًا، والتي ربما يستطيع أن يقنع بها غيره، ولكنها في غالبها مجرد واجهات فقط ليخفي بها عورة قلبه ومعاناته وضعفه عن مقاومة شغف نفسه بذنب من ذنوب السر.

 

يحيى البوليني

  • 1
  • 0
  • 2,312

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً