رسالة إلى صلاح الدين
فما إنْ مُكِّنوا حتى أتاهمْ *** صلاحُ الدينِ سيفاً لا يُرَدُّ رأوا فيه الصلابةَ في قِتَالٍ *** ومنْ نهجِ الشريعةِ يستمدُّ
صمودًا يا شآمُ فأنتِ سدُّ *** وفيكِ شبَابُنا درعٌ وأُسدُ
إذا هجمَ المغيرُ عليكِ بغيًا *** تساقطَ عندَ بابكِ أو يُرَدُّ
وإنْ جارَ الزمانُ عليكِ يومًا *** وأغرى مَنْ به حقدٌ وكيدُ
وداسَ ترابَكِ المحزونَ كِبْرًا *** وأشْعَلَ نارَ حِقْدٍ يستَبِدُّ
تراجعَ نادِمًا عن كلِّ جَوْرٍ *** وأعلنَ أنَّ هذا الصَّحْوَ مدُّ
وإنْ عَثَرَتْ خطاكِ وصِرْتِ رهْنًَا *** مكبَّلَةَ اليدينِ وشابَ فَوْدُ
فلا يعني المَشيبُ ذهابَ حقٍّ *** فمن صُلْبِ الكهولِ يَشُبُّ مردُ
فتلكم أُمَّتي قد عوَّدتنا *** إذا ما كبْوَةٌ حلّتْ تشُدُّ
وتجتازُ الصِّعَابَ كأنَّ فجرًا *** لمِيلادِ البطولَةِ يستعِدُّ
ألمْ يطمعْ بأرضِكِ أهلُ بَغْيٍ *** وإنَّ شعارَهُمْ كُرْهٌ وحقدُ
فأضحَوا رمزَ عدوانً وقَتْلٍ *** وليس بعُرْفِهمْ نُبلٌ ورُشدُ
بهمْ بُلِيَتْ مدائنُنا عقودًا *** فيا لَحَضارَةٍ غِيْلَتْ ومجْدُ
وما اجْتُثَّ الأذى إلا بحزمٍ *** شديدِ البأسِ إذ أوْرَاهُ زَنْدُ
فكان صلاحُنَا في الشرق حزمًا *** وكانتْ خيلُهُ للحربِ تعدو
رأى جندَ الصليب تخوضُ حربًا *** وتنشرُ رُعبَها والقتْلُ عمْدُ
ونَوَّعتِ الوسائلَ في اجْتِياحٍ *** فذبحٌ ثم حرقٌ ثمَّ وَأْدُ
فما أبقوا على طفل يتيمٍ *** ولا شيخٍ ولا امرأةٍ تَكِدُّ
وأضحى أهلُنَا نهباً لسيفٍ *** كأنَّ دماءَنَا قُربى وقَصْدُ
وظنُّوا أنَّ أرضَ الشام دانتْ *** لِسَطْوَتِهم فما عادتْ تَصُدُّ
فأنبَتَ ربُّنا الأبطالَ مدًّا *** أيُهْزَمُ مَنْ لهُ ربٌّ يَمُدُّ؟
فما إنْ مُكِّنوا حتى أتاهمْ *** صلاحُ الدينِ سيفاً لا يُرَدُّ
رأوا فيه الصلابةَ في قِتَالٍ *** ومنْ نهجِ الشريعةِ يستمدُّ
وإنْ جمعَ الجموعَ ليومِ حربٍ *** أصابَ عَدُوَّهُ قلقٌ وسُهْدُ
بَلَوْهُ الحربَ في حَرٍّ وبَرْدٍ *** فلمْ ينفَعْهُمُ حرٌّ وبردُ
فعَلَّمَهمْ صُنوفاً من قِتَالٍ *** وإنْ نادى بجُنْدِ اللهِ شدُّوا
فلا غدرٌ ولا نقضٌ لعهدٍ *** ولكنْ شِرْعةٌ تسمو وعَهْدُ
وأقبلَ باسطًا كفًّا لسِلْمٍ *** إذا شاؤوا وحربًا إنْ أعَدُّوا
ورغمَ جنوحهِ لِلْحَقِّ زاغتْ *** بصائرُهمْ وما فتئتْ تَهُدُّ
فسارعَ جمعُهمْ للحربِ تِيْهًا *** فلمْ ينفَعْهُمُ في الحربِ جُنْدُ
فلمَّا أنْ رأوا جيشًا كطودٍ *** وأسيافًا جَفَاها اليوم غِمْدُ
أُصيبوا في الصَّمِيمِ فلا حراكٌ *** وقدْ أودى بأهلِ البغيِ حدُّ
فذاقوا من يديهِ الكأسَ مُرًّا *** رفأُطفِئَ نجمُهُم وانزاح سعدُ
ففي حطّينَ حطَّمَهمْ بصَلْدٍ *** فخَرُّوا مثلَ أوثانٍ تُقَدُّ
وقد لَعِقوا الجراحَ وهمْ ظِماءٌ *** فزادَ لهيبُهمْ وازداد وَقْدُ
فكان شُجاعهم يرتَدُّ جُبْنًا *** يَلُوذُ بمَهْرَبٍ وإليهِ يَعْدُو
وأُشرعَتِ الرماحُ فلا فِكاكٌ *** فظهرُ الهاربينَ لها مَصَدُّ
وأُسدُ الحقِّ دُرْبَتُهمْ طِعانٌ *** إذا ما صُوِّبَ الرمحُ الأشَدُّ
تناثرَ جيشُهم هربًا وخوفًا *** فقتلى ثم أسرى ثم فَقْدُ
وقد عُرِضَ المليكُ على صلاحٍ *** أسيرًا خانعًا فافْتُكَّ قَيدُ
فأحْسَنَ رِفْدَهُ صونًا لِمُلْكٍ *** فعادَ إلى الأذى لم يُجْدِ رِفْدُ
فجمَّعَ كلَّ سيفٍ فيه حقدٌ *** لأقداسِ الحمى واشتدَّ كَيدُ
ولمْ ييأسْ صلاحٌ من نزالٍ *** وكانَ لِعَوْدةِ الأقصى يُعِدُّ
فقام بحشْدِ أجنادٍ لفتحٍ *** لأجلِ القدسِ نعم اليوم حَشْدُ
وهاجَ لهم بأوروبا جموعٌ *** وكانَ لصوتهمْ برقٌ ورعدُ
فلمْ يجزعْ وما خانَتْهُ نفسٌ *** كأنَّ وراءهُ الدنيا تَمُدُّ
تراهُ معَ الشَّدائدِ في غِلابٍ *** شُجاعٌ زانَهُ عقْلٌ ورُشْدُ
وآمنَ أنْ يُعيدَ سَليبَ أرضٍ *** فما أنساهُ طولَ الدّهرِ بُعْدُ
وقد نزل الغزاةُ بها طويلًا *** ولنْ تُعطى لهم مهما اسْتَبَدُّوا
وهلْ حقٌّ لأغْرَابٍ بدارٍ *** تَقيءُ منِ اسْمِهمْ ويضِجُّ مهْدُ
وقَد نَبَتُوا بلا جَذرٍ أصيلٍ *** ولن يحيا بأرض العُرْبِ وَغْدُ
همُ الأغرابُ في نَسَبٍ وجنسٍ *** وهمْ في دارِنا الخصمُ الألَدُّ
صلاحَ الدّينِ أُهديكم دُعائي *** فأنتَ بعَيْنِنَا عزْمٌ وجِدُّ
فحربُكَ للعِدا نبراسُ هدْيٍ *** على خُطُواتِكمْ نسعى.. نَجِدُّ
على قَدَرٍ ظهرتَ لِرَدْعِ قَوْمٍ *** لهمْ أيْدٍ مُلَطّخَةٍ وحِقْدُ
فأظْهَرَكَ الإلهُ على عدوٍّ *** فأنتَ لربنا طوعٌ وعبْدُ
رمى بكَ في نحورِ الكفْرِ سَهْمًا *** وسهمُ اللهِ يُصمي فيهِ حَدُّ
فأنتَ قضاءُ ربِّكَ في خَلاصٍ *** منَ الإفرنجِ موعودٌ ووعْدُ
وأنكَ عبدُهُ المرضيُّ فِكرًا *** فَخَصَّكَ بانتصارٍ لا يُحَدُّ
فما أبديتَ خوفًا في صِدامٍ *** وإن أضحى لهم جيشٌ ومَدُّ
فخُضْتَ الحربَ مِقْدامًا جسُورًا *** فعادَ بسيفِكمْ قُدْسٌ ولُدُّ
وعادَ الخاسِرونَ بجرِّ خُزيٍ *** بدرسٍ أنَّ جسم العُرْبِ صلْدُ
فكانَ سلامُكم للحقِّ نصرًا *** وأمّا حربُكمْ فدَمٌ ولَحْدُ
فما أحراكِ أُمَّتَنا اقتفاءً *** طريقَ صلاحنا ليعودَ مجدُ
لكي تبقَي بعزٍّ مستديمٍ *** فحولكِ من جنودِ اللهِ عَدُّ
فمنْ يعطي الدَّنيةَ في صِراعٍ *** سَيُصفعُ في القَفَا ويُهانُ خدُّ
ومنْ يطْلُبْ حياةً في شُمُوخٍ *** كُنْ لحياته عِزٌّ وسَعْدُ
د. محمد منير الجنباز
- التصنيف:
- المصدر: