لا أستطيع.. مستحيل

منذ 2014-05-24

إنني أقف مدهوشاً أمام هذا التخلف الرهيب، في واقع الأمة وحياتها؛ مع ما تملكه من مقومات النجاح، والتفوق، والريادة، والسيادة.. ومن ثم، أعملت تفكيري في هذا الأمر الجلل؛ فتوصلت بعد مراحل من البحث والتحليل إلى أن من أهم الأسباب في ذلك تحول هـذا الوهم الكبير: (لا أستطيع.. مستحيل) إلى قاعدة صلبـة في حياة كثير من أفراد الأمة أولاً، وشعوبها ثانياً، منهـا ينطلقون، وفي ظلامها يسيرون..

* كلمتان تتكرران على الألسنة كثيراً، وهما سبب رئيس لحالة الفشل العامة والخاصة؛ التي تعيشها الأمة،وأفرادها.. إن منبع هاتين الكلمتين هو العجز العقلي، قبل أن يكون عجزاً حقيقياً واقعياً، والعقول العاجزة لا تصنع إلا الفشل. لا مراء ولا جدال أن هناك أموراً في الحياة لا يستطيعها الفرد؛ ولـذلك كـان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الصحابة يقول لهم: «فيما استطعت» (كما في حديث ابن عمر رضى الله عنهما وغيره).

بل يقول سبحانه تأكيداً لهذا الأمر: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة من الآية:286]؛ مما يدل على أن هناك ما هو فوق الوسع والطاقة، ومن هنا فإن هذه الحقيقة ليست مندرجة في هذا الموضوع الذي نحن بصدده، حتى لا ندخل في جدال لا ينتهي؛ بل ينتهي بنا إلى الوهم الكبير: (لا أستطيع.. مستحيل)، ويزيد على ذلك: بأن نلبسه لباساً شرعياً.

إن هاتين الكلمتين مع ما بينهما من فرق في اللغة والدلالة والمعنى، فقد أصبحتا قانوناً لكل عجز وتأخر، وتفريط، تساقان للتبرير، والتخدير، وتحطيم العزائم ووأد النجاح، كثير من الناس وأجيال تتلوها أجيال، جعلت من هاتين الكلمتين نبراساً لحياتهم ومنهجاً لتفكيرهم، ومنطلقاً للشعور بعدم التقصير، وأساساً للرضى بالواقع المرير.

إنني أقف مدهوشاً أمام هذا التخلف الرهيب، في واقع الأمة وحياتها؛ مع ما تملكه من مقومات النجاح، والتفوق، والريادة، والسيادة.. ومن ثم، أعملت تفكيري في هذا الأمر الجلل؛ فتوصلت بعد مراحل من البحث والتحليل، والسبر والتقسيم إلى أن من أهم الأسباب في ذلك -والأسباب كثيرة- تحول هـذا الوهم الكبير (لا أستطيع.. مستحيل) إلى قاعدة صلبـة في حياة كثير من أفراد الأمة أولاً، وشعوبها ثانياً، منهـا ينطلقون، وفي ظلامها يسيرون..

وكم جر علينا هذا الوهم ولا يزال من مآس، وتأخر، وتقهقر في أمور الدين والدنيا؛ ولذلك فإن من أخطر ما يتعلق بهذا الأمر هو: عدم الإدراك بأنه وهم، لا يثبت عند التحقيق، والتمحيص. فترى من يفني جزءاً من حياته للدفاع عن هذا الصنم؛ ليثبت أنه ركن صلب، وحقيقة قائمة، ومسلمة لا مراء فيها.

إن هذا الوهم لم ينشأ بين عشيه وضحاها؛ وإنما هو ثمرة لمجموعة من التراكمات والعوامل؛ نشأت على مر السنين والأعوام، وهو إفراز لظروف مرت بها الأمة في تاريخها الطويل، فبدل أن تنتج من رحم المعاناة رجالاً يقودون الأمة إلى الرقي، والتقدم دون استسلام للصعوبات، والعقبات وبنيات الطريق؛ وإذا بتلك العوامل تكون سببًا لمزيد من الإحباط، واليأس، والفشل، والتردي في هوة الوادي السحيق.

كم يتعجب المرأ عند ما يرى أمة وثنية؛ اتخذت من الشدائد منطلقاً لرقيها ومزاحمتها لأشد أعدائها، دون أن تستسلم للهزيمة النفسية، والإحباط المعنوي، فهذه اليابان جعلت من حطام قنبلتي (هيروشيما، وناجازاكي) وقوداً سريع الإنضاج لما وصلت إليه من رقى وتحضر في أمور الدنيا؛ حتى أصبحت رقماً مهماً في المعادلة الاقتصادية الدولية، ولم تجعل من تلك الهزائم، والفواجع وسيلة للبكاء، واستدرار عطف الآخرين..

أما ألمانيا فقد خرجت من تحت أنقاض الخراب والدمار دولة كبرى! يحسب لها المجتمع الدولي ألف حساب، وأصبح اقتصادها من أقوى ركائز الاقتصاد في العالم، مع أنه لم يمر على تدمير ألمانيا سوى سنوات معدودة؛ حيث إن النقلة بين التاريخيين لا تزيد عن (30) عاماً.

إنني أسرح في تفكيري بعيداً! فأقول: يا تُرى، لو أن المجددين والمصلحين من قادة الأمة استسلموا لهذا الوهم الكبير: (لا أستطيع.. مستحيل)، كيف سيكون حال الأمة ومصيرها ؟!

لو أن أبا بكر رضي الله عنه قال: لا أستطيع مقاتلة العرب بعد ارتدادهم واستسلم لهذا الواقع المرير -وحاشاه من ذلك- كيف ستكون النتيجة؟! إن مجرد التفكير في ذلك؛ يحدث هزة ورعباً، لو أن أحمد بن حنبل رحمه الله لم يقف ذلك الموقف الصعب الصلب، في وجه قادة الفتنة، من أساطين المبتدعة، المدعومين من حكام لم يدركوا خطورة ما فعلوا واستسلم لـ(لا أستطيع.. مستحيل)، فهل يا ترى يكون قد تحقق ذلك النصر المذهل، لأهل السنة على يد رجل واحد، تخلى عنه أقرب الناس إليه، وبقى في الميدان وحيداً، يواجه عتاة الفتنة العمياء، وتأول المحبين؟!

لو أن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله استسلم لذلك الذل الرهيب، الذي كانت تعيشه الأمة تحت استعمار الصليبيين، وهم يدنسون بقعة من أقدس البقاع في الأرض، معللاً نفسه بأنه: لا يستطيع أن يواجه تلك القوى الغاشمة، التي تملك أقوى الأسلحة المادية، مع الدعم اللا محدود من كثير من بلدان العالم، ورضي لنفسه ما رضيه كثير من حكام زمانه؛ بالخضوع والخنوع، مع ضمان الملك والسلطان، لو أنه فعل ذلك، وقال: إن إخراج النصارى ومواجهتهم مستحيلة، أكانت القدس تطهر من براثن الصليبيين وحقدهم؟! قد تمر سنوات طويلة؛ حتى يتحقق ما تحقق على يد صلاح الدين في حطين، وما أشبه الليلة بالبارحة!

لو أن شيخ الإسلام، ابن تيمية رحمه الله لم يشمر عن ساعد الجد علماً وعملاً وجهاداً، في زمن سيطر عليه الجمود، وارتفعت فيه أصوات أهل الباطل، من المبتدعة، وأرباب الكلام، مع هزائم سياسية وعسكرية؛ عانت منها الأمة في وقته، لو أنه استسلم لعقيدة (لا أستطيع.. مستحيل)، أيكون قد حفظ لنا التاريخ ذلك التراث الضخم من البطولات، والصولات، والجولات، والعلم الغزير، والمنهج السديد الرصين، والتحدي للباطل حتى آخر نفس من حياته، وهو فرد واحد، ولكنه كان يأوي إلى ركن شديد؟!

ولو أن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وقد وجد الجزيرة تعيش في ظلمة الجهل، والبدع، والتقليد، والتعصب، لو أنه رضي لنفسه ما رضيه غيره من الطيبين والأخيار، وتناغم مع ذلك الوهم الذي أصبح واقعاً: (لا أستطيع.. مستحيل)، فهل يا ترى تكون الجزيرة قد تخلصت من بدعها، وشركياتها واستيقظت من نومها، وسباتها؟! علم ذلك عند ربي جل وعلا.

وتاريخنا الطويل مليء بمثل أولئك الرواد من القادة، والمصلحين، والمجددين، الذين سطروا بمداد من نور أروع الأمثلة، والنماذج على قدرة المسلم على تحطيم اعتي العقبات الحسية، والمعنوية دون أن يستسلموا للهزيمة النفسية والتخدير المركب.. سيقول كثيرون: "إن أولئك الرجال عظماء"، وقليل ما هم!

فأقول: إننا لم نعرف أنهم عظماء؛ إلا بعد أن سجلوا تلك الصفحات المشرقة وقاموا بتلك البطـولات الرائعـة في شتى الميادين؛ وإلا فإنهم قبل ذلك رجـال عاديون؛ ولكنهم لأسباب كثيرة تدرجوا في قصة النجاح الطويلة، التي جعلت منهم أبطالاً وقادة، وكان على قمة تلك الأسباب: تحطيم ذلك الوهم الكبير (لا أستطيع.. مستحيل).

ناصر بن سليمان العمر

أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا

  • 2
  • 0
  • 6,407

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً