ختام رمضان
هذه خير ليالي العام فأين المغتنمون أين العارفون، أين الذاكرون؟ أين الخاشعون؟ أين المتهجِّدون؟ أين المعتمرون؟ أين الباذلون؟ إنها -والله- التجارة الرابحة، ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، أين المستثمرون؟ أين المُصدِّقون بكلام الحي القيوم: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2].
خطبة ختام رمضان
الحمد لله الذي من علينا بشريعة الإسلام، وشرع لنا ما يقرب إليه من صالح الأعمال، وأنعم علينا بتيسير الصيام والقيام، ووعد بتكفير الخطايا والآثام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وزكى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
اتقوا الله تعالى واغتنموا بقية شهركم فهي والله بضع ليالي، وهو ضيف قارب الزوال وهو شاهد على ما فيه من أعمال، فبادروا باستغلال هذه الليالي لا سيما الأوتار فربما تفوز بليلة تفوق ثمانين عام يقول ذو الجلال والإكرام {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1-5].
وقال عليه الصلاة والسلام: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ رواه البخاري، ويقول: «من حُرِمَ خيرها فقد حُرِم»؛ رواه النسائي. فهل بعد هذه النصوص من نصوص كاملة وآيات محكمة؟
عباد الله:
هذه خير ليالي العام فأين المغتنمون أين العارفون، أين الذاكرون؟ أين الخاشعون؟ أين المتهجِّدون؟ أين المعتمرون؟ أين الباذلون؟ إنها -والله- التجارة الرابحة، ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، أين المستثمرون؟ أين المُصدِّقون بكلام الحي القيوم: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2].
وقد أخفاها المولى الحكيم للاجتهاد في سائر الشهر الفضيل، وقد أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنها في الثلث الأخير من هذا الشهر العظيم، وأحرى ما تكون في العشر الأخيرة لا سيما الأوتار، وأرجاها ليلة سبع وعشرين عند جمهور العلماء، وكان أبي ابن كعب رضي الله عنه يجزم بها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها»؛ رواه مسلم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنه يسجد في ليلتها على ماء وطين، فكان ليلة ثلاث وعشرين؛ متفق عليه. فهي متنقلة بين الليالي.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في سائر ليالي العشر، وصحَّ في البخاري أنه كان يقول: «فالتمسوها في العشر الأواخر من الوتر» (رواه البخاري). وذكر ابن حجر أن جمهور العلماء يرونها في العشر الأخيرة لا سيما في الأوتار، وأرجى ما تكون في ليلة سبع وعشرين.
قال العلماء: من قبل أعماله فيها تضاعفت إلى ما وعد به الرب الكريم ليلة خير من ثلاثين ألف ليلة. نسأل الله الكريم أن نوفق لها وأن يتقبل منا فيها عباد الله اجتهدوا في هذه الليالي فهي أرجى ل?الي العام، واجتهدوا في صلاتكم بالتعقل والخشوع واحفظوا لياليكم واغتنموا زمانكم وأكثروا من الاستغفار بعد التهجد الأخير نسأل الله لنا ولكم القبول.
عباد الله:
كانت أيام الشهر الكريم معمورة بالصيام والذكر والقرآن، ولياليه منيرة بالصلاة والقيام، فمضت تلك الليالي والأيام، فيا أسفي عليها من أزمان، لقد مضت كأنها ساعة من نهار.
مضى هذا الشهر الكريم بما أودعناه من أعمال، شاهد للمُشمِّرين بالصيام والقيام والبر والإحسان، وعلى المُقصِّرين بالغفلة والشُّحِّ والعصيان، هل سندركه مرة أخرى، أم يحول بيننا وبينه هاذم اللذات ومفرق الجماعات؟.
ألا إن السعيد في هذا الشهر المبارك من وفق لإتمام العمل وحسن الختام بالتوبة والاستغفار والعمل بالختام.
عباد الله:
سلام الله على شهر الصيام والقيام، سلام الله على شهر التراويح والقرآن، لقد مر كلمحة برق أو سرعان، إلا أنه راحل لا محالة فشيعوه وتمتعوا فيما بقي ولا تضيعوه.
شهر عمارات القلوب، وكفارات الذنوب، وأماني كل خائف مرهوب، شهر العبرات، شهر المناجاة، كم رفعت فيه من أكف ضارعة، وذرفت فيه من دموع ساخنة، ووجلت فيه من قلوب خاشعة، وكم يفيض الله من جوده وكرمه، وكم يمنُّ من مغفرته ورحمته، وكم يعتق من ناره وعذابه.
فيا أرباب الذنوب العظيمة، ويا من طمع في الغنيمة، عليك بهذه الليالي الكريمة، فمن أعتق فيها من النار فقد فاز {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
فبادروا لعلَّ بعضكم لا يدرك بعد هذا العام عام، ولا يؤخره المنون إلى التمام، فيا سعادة من فاز بالربح والفلاح ويا حسرة على من فاته الأرباح، لقد دنا رحيل الشهر وحان، ورب مؤمل لقاء مثله خانه الإمكان فاغتنم أيها المفرط قبل فوات الأوان، وتيقظ من سنة المنام واغتنم ما بقي من ليال.
واحذروا أن يشهد عليك الشهر بقبائح الآثام، واجتهد في حسن الختام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الأعمال بالخواتيم»؛ رواه البخاري. وقد بقي في هذا الشهر أزكاه، فمن تنبَّه فقد يدرك أرجاه.
عباد الله:
اجتهدوا في آخر ليل رمضان ففيها مزية واعتبار كما أخبر النبي المختار عليه أفضل الصلاة والسلام، «يعتق الله فيها ما يعتقه في سائر الشهر الكريم ويجود بفضله على عباده المؤمنين، قالوا "يا رسول الله أهي ليلة القدر؟" قال لا، ولكن العامل يؤتى أجره بختام عمله» (رواه الإمام أحمد).
عباد الله:
من فاته زيارة البيت الحرام وقضاء أسعد الأوقات، والفوز بحجة مع النبي عليه الصلاة والسلام لعجز أو زحام، أو كسل أو توان في هذه الليالي الكرام، فإليه هذه البشرى من النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: «من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له أجر عمرة وحجة تامة تامة» (رواه الترمذي وصححه الألباني).
عباد الله:
اجتهدوا بالاحتساب والإخلاص وإتقان الأعمال وسلوا الله القبول، يقول علي رضي الله عنه وكونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل ألم تسمعوا لقول الله تعالى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وكان علي رضي الله عنه ينادي آخر ليلة من رمضان: "يا ليت شعري من المقبول فنُهنِّيه، ومن المحروم فنُعزِّيه".
أيها المقبولون ! هنيئاً لكم، وأيها المردودون! جبر الله مصيبتكم، فإذا غنم من فاته خير رمضان وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان، كم فيه من القبول والغفران، وكم فيه من الخيبة والخسران، متى يصلح من لم يصلح في رمضان، ومتى يصح من كان بالغفلة مرضان {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله ترفع الدرجات، وتكفر السيئات، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله سيد البريات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمكرمات، ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسموات.
أما بعد، عباد الله:
شرع لكم ربكم في ختام شهركم أعمالاً عظيمة وعبادات جليلة تسد الخلل وتجبر التقصير، وتزيد المثوبة والأجر فندعوكم إلى التكبير والشكران {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، ويتأكد التكبير في آخر ليلة من رمضان، وصفته: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله ولله الحمد إلى صلاة العيد.
اختموا شهركم بالاستغفار وهو مشروع في نهاية العبادات من التقصير، كما في الصلاة والحج، وقد كان عمر بن عبد ال?زيز يكتب إلى الأمصار: اختموا شهركم بالاستغفار.
كما شرع لكم زكاة الفطر شكراً لله على نعمة التوفيق للصيام والقيام، وطهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وتحريكاً لمشاعر الأخوة بين المسلمين، وهي صاع من طعام، وهي تقل عن ثلاث كيلو بقليل، تخرج عن الكبير والصغير ما بين صلاة الفجر والعيد، ولا بأس قبل العيد يوم أو يومين، نسأل الله لنا ولكم القبول والغفران.
كما شرع لكم صلاة العيد، وهي سنة مؤكدة للرجال والنساء، ويسن الأكل قبلها لا سيما تمرة أو ثلاث أو نحوها من الأوتار، كما فعل عليه الصلاة والسلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى 14-15].
هذا وصلُّوا على النبي الكريم، فقد أمركم ربكم بالصلاة عليه، فقال عز من قائل كريم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم بعفوك وجودك يا أكرم الأكرمين.
عباد الله:
اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
خالد بن عبد الله بن عبد العزيز القاسم
- التصنيف:
- المصدر: