المشاعر المحجوبة !
تضيق صدور الأنقياء كثيرًا عندما يصطدمون أثناء دورة حياتهم باللاهثين وراء المنافع والحاقدين على الناس والحاسدين لأهل النعم، ولا يتصور هؤلاء الأنقياء سليمو الصدور لغيرهم أن العالم من حولهم تدور رحاه بالمصالح الشخصية والصراعات الذاتية والتسابق على نيل المكتسبات، بينما الناس غافلين عن ذكر إخوانهم المحتاجين أو المعوزين أو الملهوفين، فضلاً عن صدور لا تعرف معنى السلامة للآخرين.
تضيق صدور الأنقياء كثيرًا عندما يصطدمون أثناء دورة حياتهم باللاهثين وراء المنافع والحاقدين على الناس والحاسدين لأهل النعم، ولا يتصور هؤلاء الأنقياء سليمو الصدور لغيرهم أن العالم من حولهم تدور رحاه بالمصالح الشخصية والصراعات الذاتية والتسابق على نيل المكتسبات، بينما الناس غافلين عن ذكر إخوانهم المحتاجين أو المعوزين أو الملهوفين، فضلاً عن صدور لا تعرف معنى السلامة للآخرين .
الأنقياء يتساءلون: أين يذهبون بمشاعرهم تلك البيضاء بين تلك الألغام البشرية والمشاعر السلبية الطاعنة في الجميع والمخونة للآخرين؟ وأين يعيشون إذًا إذا كانت كل البلاد بتلك الحالة، وإذا كانت بلاد الأنقياء محجوبة ومشاعرهم منبوذة وصدورهم السليمة تعتبر شينة وخيبة؟!
ودعونا نحن بالتبعية نسأل: لماذا أصبحت سلامة الصدر -في أعين الناس- ضعفـًا واستسلامًا، ونزولاً من قيمة الرجال وضربًا من ضروب السذاجة في مجتمعات أصبحت مجالاً خصبًا لأمراض القلوب يستأسد فيها الحقد والغيرة والأنانية إلا نذرًا من الصالحين هم لا يزالون ملح الأرض؟
لقد تراءت أمامي مشاهد القرون الصالحة الأولى الذين صفت قلوبهم وطهرت نفوسهم، وخلصت أعمالهم لربهم، وزهدوا في الدنيا فلم يتكالبوا عليها، ولم يتلوثوا بواقع أخلاق تلوثت بآثار غرور الحياة الزائف، لقد علمونا أن سلامة الصدر ترد الشيطان في نحره وبها تصبح آمنا في سربك، تحسدك الهموم إذ لا تقدر أن تقترب منك..
فهل يستوي من توكل على الله وسلم له ممن تعلق بالخلائق؟
ذكرت الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه وهو يقول قال: «كنا جلوسًاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثـًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، فقال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًاً، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرار يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن أوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًاً ولا أحسد أحدًاً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق» (رواه الإمام أحمد).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فقول عبد الله بن عمرو له هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق يشير إلى خلوه وسلامته من جميع أنواع الحسد"، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن» (رواه بن ماجه وصححه الألباني)، فانظر كيف يكون المرء خير الناس بقلبه النقي من البغي والحسد؟
وجذبني من الذكرى سؤال سفيان بن دينار ساعة أن قال: "قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا، قال: قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم، وكأنها رؤية مباشرة لما كان يدعو به صلى الله عليه وسلم ربه ويتضرع بين يديه ويسأله أن يسلل سخيمة قلبه حيث يقول: «واسلل سخيمة قلوبنا» (صحيح أبي داود).
ونظرت إلى ذلك التوجيه النبوي التربوي الرفيع الذي يجمع بين التأديب والتعليم والتهذيب، والتشجيع والترهيب حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» (رواه مسلم).
وها أنا ذا أقطف لك من قطوف بساتينهم زهرات صدق وشفاقية الصدر ونقائه:
فابن عباس رضي الله عنهما يخط خطـًا مستقيمًا لكل عالم، يقول: "إني لأمر على الآية من كتاب الله، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم"، ويعلق ابن القيم على قول أبي ضمضم إذا أصبح: "اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل، قال ابن القيم: وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه" (مدارج السالكين).
وكان الإمام الشافعي يقول: "وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلي منه شيء".
وها هو ذا الغزالي رحمه الله يعطيننا درسًا أخيرًا في سلامة القلب للإخوان إذ يقول: "وهفوة الصديق لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية أو في حقك بتقصيره في الأخوة، أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها فعليك التلطف في نصحه بما يقوم عوده ويجمع شمله ويعيده إلى الصلاح والورع، أما تقصيره فى حقك الأولى: العفو والاحتمال، فقد قيل ينبغي أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذرًاً، فإن لم يقبله قلبك فرد اللوم على نفسك فتقول: لقلبك ما أقساك يعتذر إليك أخوك سبـعين عذرًا فلا تقبله فأنت المعيـب لا أخوك".
ويقول ابن حزم في مداواة النفوس: "من أساء إلى أهله وجيرانه فهو أسقطهم ومن كافأهم بمثل إساءتهم فهو مثلهم، ومن لم يكافئهم بإساءتهم وعفا عنهم وصفح فهو سيدهم وخيرهم وأفضلهم..".
خالد روشه
- التصنيف:
- المصدر: