ما شاع ولم يثبت في غزوة بدر
شاعت الكثير من الأخبار والروايات في غزوة بدر الكبرى في كتب السيرة النبوية مع أنها لم تثبت من الناحية الحديثية.
شاعت الكثير من الأخبار والروايات في غزوة بدر الكبرى في كتب السيرة النبوية مع أنها لم تثبت من الناحية الحديثية، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا فرعون هذه الأمة، وحديث سيف عكاشة بن محصن وغيرها.
قول الرسول: نحن من ماء
ما ذكره ابن إسحاق في كلامه عن تتبعه صلى الله عليه وسلم- أخبار قريش، قال: " .. كما حدثني محمَّد بن يحيى بن حبان: حتى وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه على شيخ من العرب فسأله عن قريش، وعن محمَّد وأصحابه، وما بلغه عنهم. فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممّن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك، قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم. قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش، فلما فرغ من خبره، قال ممّن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء. ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ: ما مِنْ ماء، أمِنْ ماء العراق؟
قال ابن هشام: يقال: ذلك الشيخ سفيان الضمري (1)".
وابن إسحاق قد صرّح بالتحديث، وشيخه ابن حبان (بفتح الحاء) ثقة من رجال الجماعة، لكن العلة هي الانقطاع لأن ابن حبان مات سنة 121هـ، وهو ابن أربع وسبعين سنة، فبين مولده والقصة قرابة خمس وأربعين سنة.
قول الرسول: «
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: « ».
وقد رواها ابن إسحاق قال: "حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير (2)... قال الشيخ الألباني رحمه الله: "وهذا إسناد صحيح ولكنه مرسل (3)".
وأصل القصة في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن المسلمين "لما نزلوا بدرًا وردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه (*) فيقول: مالي علم بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف، فإذا قال ذلك ضربوه، فقال: نعم أنا أخبركم، هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه فقال: مالي بأبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال هذا أيضًا ضربوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف، قال: "والذي نفسي بيده لَتَضْربوه إذًا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم". قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مصرع فلان، قال: ويضع يده على الأرض ههنا، وههنا"، قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
وفي رواية الإِمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله « »، قال: هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم، فجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره كم هم فأبى، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: « » فقال: عشرًا كل يوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (5).
زاد ابن إسحاق في روايته عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: « »، قال: عتبة بن ربيعة... وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف... فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: « ». وسبق قول الشيخ الألباني عن هذه الزيادة إن إسنادها صحيح، لكنه مرسل.
قول أبي حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا؟
قال ابن إسحاق رحمه الله: "وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ (يوم بدر): « ».
قال: فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا، ونترك العباس؟ والله ليِّن لقيته لألحمنه بالسيف. قال: فبلغتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: « »، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه بالسيف فوالله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفًا، إلا أن تكفّرها عني الشهادة، فقُتل يوم اليمامة شهيدًا (6).
والعباس بن معبد ثقة، لكنه لم يُسَمِّ من حدّثه من أهله. ورواه الحاكم من طريق ابن إسحاق عن العباس بن معبد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: « »، فقال أبو حذيفة..."، ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وخالفه الذهبي فحذفه من التلخيص لضعفه (7).
قال الذهبي: "معبد عن ابن عباس مجهول (8)، ويُستبعد -مع ضعف الإسناد- أن يصدر هذا الكلام من أحد الصحابة رضي الله عنهم خاصة ممّن هو من السابقين الأولين للإسلام (9)، بل حتى من بعدهم.
قول الرسول لأهل القليب: بئس العشيرة كذبتموني
قال ابن إسحاق: "وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم هذه المقالة (**): « » (10).
قال الألباني رحمه الله عنه: "وهذا إسناد معضل، وقد رواه أحمد (6/ 170) من طريق إبراهيم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بلفظ (جزاكم الله شرًا من قوم نبي، ما كان أسوأ الطرد، وأشد التكذيب)، ورجاله ثقات لكنه منقطع بين إبراهيم وهو النخعي وبين عائشة رضي الله عنها (11)".
وذكره اليهثمي في (المجمع) قال: "رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن إبراهيم لم يسمع من عائشة ولكنه دخل عليها (12). قال الحافظ في (التهذيب): "روى عن عائشة ولم يثبت سماعه منها (13)".
سيف عكاشة بن محصن رضي الله عنه
مما شاع ولم يثبت في غزوة بدر حديث سيف عكاشة بن محصن رضي الله عنه، قال ابن إسحاق: "وقاتل عكاشة بن محصن.. يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جِذْلًا (***) من حطب، فقال: « »، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزّه فعاد سيفًا في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتل في الردة وهو عنده، قتله طليحة بن خويلد الأسدي (14)" ورواه البيهقي في (الدلائل [15]) عن ابن إسحاق.
قال الإِمام الذهبي رحمه الله: "هكذا رواه ابن إسحاق بلا سند، وقد رواه الواقدي قال ... (16)" ا. هـ. والواقدي متروك. ومن طريقه أيضًا رواه البيهقي في (الدلائل [17]).
فائدة
عُكاشة، قال ابن حجر: "بضم أوله وتشديد الكاف، وتخفيفها أيضًا". (الإصابة [3/ 487]) وهو من المشهود لهم بالجنة رضي الله عنه. وقاتِلُه طُليحة الأسدي كان ممن ارتد، ثم عاد إلى الإِسلام. رضي الله عنهم أجمعين.
طلب عمر نزع ثنيّتيْ سهيل بن عمرو
ومما شاع ولم يثبت في غزوة بدر أيضًا طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه نزع ثنيّتيْ سهيل بن عمرو، قال ابن إسحاق: "وحدثني محمَّد بن عمرو بن عطاء، أخو بني عامر بن لؤي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو (18) ويدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن أبدًا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ». قال ابن كثير رحمه الله لما نقله في (البداية): "قلت: هذا حديث مرسل، بل معضل (19)".
قال ابن إسحاق: "وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في هذا الحديث: « » (20).
هذا فرعون هذه الأمة
روى الإِمام أحمد في مسنده قال: حدثنا أسود بن عامر قال: حدثنا شَريك عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن أبيه قال: "أتيت أبا جهل وقد جُرح وقُطعت رجله، قال فجعلت أضربه بسيفي، فلا يعمل فيه شيئًا... فلم أزل حتى أخذتُ سيفه فضربته به حتى قتلته، قال: ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: قد قُتل أبو جهل (وربما قال شَريك: قد قتلت أبا جهل).
قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم فقال: آلله؟ مرتين، قلت: نعم، قال: فاذهب حتى أنظرَ إليه، قال: فذهب، فأتاه وقد غيرت الشمس منه شيئًا، فأمر به وبأصحابه فسُحبوا حتى أُلقوا في القليب، قال: وأُتبع أهل القليب لعنة، وقال: كان هذا فرعون هذه الأمة".
قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده ضعيف لانقطاعه (21). ا. هـ. أي بين أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود وأبيه. قال الحافظ في (التقريب): "والراجح أنه لا يصحّ سماعه من أبيه (22)".
ورواه البيهقي في (الدلائل [23]) عن أبي عبيدة عن أبيه. ورواه في (السنن الكبرى) عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود، ثم قال: كذا قال عن عمرو بن ميمون والمحفوظ عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن أبيه (24).
وذكره الهيثمي في (المجمع) وقال عقبة: "رواه كله أحمد والبزار باختصار، وهو من رواية أبي عبيدة عن أبيه ولم يسمع منه، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
وعزاه في رواية تالية إلى الطبراني، ثم قال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمَّد بن وهب بن أبي كريمة وهو ثقة (25)". وابن أبي كريمة قال عنه في (التقريب): "صدوق (26)".
وقصة قتل أبي جهل في الصحيحين (27)، وليس فيها: (هذا فرعون هذه الأمة).
تنبيه
وقول ابن كثير رحمه الله بعد أن أورد الحديث: "ورواه أبو داود والنسائي (28) ، يوهم أن هذه اللفظة: "هذا فرعون ... " عندهما، وليس الأمر كذلك وسبقه النووي رحمه الله بعزوه إليها في كتب السنن (29).
فائدة
روى ابن ماجه (30) عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم بُشِّر برأس أبي جهل ركعتين". قال ابن الملقن: "إسناده جيد (31). وقال تلميذه الحافظ في (التلخيص [32]): "إسناده حسن واستغربه العقيلي". وأورده الألباني في (ضعيف ابن ماجه [33]).
فائدة أخرى
قال ابن تيمية رحمه الله: "سجود الشكر لا يجب بالإجماع، وفي استحبابه نظر" (34).
__________________________
(1)- الروض الأنف (5/ 93).
(2)- الروض الأنف (5/ 94).
(3)- فقه السيرة (ص 222).
(*)- أي عن القافلة.
(4)- مسلم (كتاب الجهاد والسيرة، باب غزوة بدر (نووي [12/ 125]) ورواه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في الأسيرُ ينال منه وُيضرب ويقرر (عون المعبود 7/ 342).
(5)- المسند (2/ 192) وصححه الشيخ أحمد شاكر. وكذا الألباني (فقه السيرة 222).
(6)- الروض الأنف (5/ 107 - 108).
(7)- المستدرك (3/ 247)
(8)- المغنى في الضعفاء (2/ 418).
(9)- انظر أسماءهم في سير أعلام النبلاء (1/ 144).
(**)- وهي قوله صلى الله عليه وسلم: يا فلان ابن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري 7/ 301 فتح) و (مسلم رقم 2873).
(10)- الروض الأنف (5/ 147).
(11)- فقه السيرة. ص 232.
(12)- مجمع الزوائد (6/ 90).
(13)- تهذيب التهذيب (1/ 177).
(***)- الجِذْل: ما عظم من أصول الشجر المقطّع. (لسان العرب. مادة: جذل).
(14)- الروض الأنف (5/ 145).
(15)- دلائل النبوة (3/ 98).
(16)- المغازي. (ص 101).
(17)- دلائل النبوة (3/ 99).
(18)- وكان في الأسرى يوم بدر.
(19)- البداية والنهاية (3/ 310).
(20)- الروض الأنف (5/ 159).
(21)- المسند بتحقيق أحمد شاكر (5/ 316). وكذا قال الأرناؤوط، رقم (4246).
(22)- تقريب التهذيب (2/ 448).
(23)- دلائل النبوة (3/ 88).
(24)- (9/ 92 - 93).
(25)- مجمع الزوائد (6/ 79).
(26)- 2/ 216.
(27)- البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل (7/ 292 فتح) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب قتل أبي جهل وكعب بن الأشرف (نووي 12/ 160).
(28)- البداية والنهاية (3/ 289).
(29)- تهذيب الأسماء واللغات (6/ 202).
(30)- (1/ 445 رقم 1391).
(31)- البدر المنير (9/ 106).
(32)- 4/ 118.
(33)- رقم 296.
(34)- الفتاوي (21/ 293).
د. محمد عبد الله العوشن
- التصنيف:
- المصدر: