الأحكام السلطانية للماوردي - (4) الإمامة
لا وزن لتلك المقولات التي ساقها بعض الفقهاء في عصور الضَّعف الإسلامي، والتي تقوي نفوذ الحكَّام، وتهوّن من شأن الأمَّة وأهل الحلِّ والعقد في الأمور السياسية.
والإمامة تنعقد من وجهين:
أحدهما: باختيار أهلِ العَقْدِ والحَلِّ.
أقول: إنَّ اختيار الحاكم في الإسلام حقٌ من حقوق الأمَّة، كفله لها الإسلام، فلا ينبغي أن تفرِّط فيه أو أن تتنازل عنه ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، تشهد بذلك الوقائع التاريخية المعتمدة في التشريع الإسلامي، وهي المدَّة من نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى آخر خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « ».
ففي حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية يقدِّم صلى الله عليه وسلم أوَّلَ إرساءٍ لهذا المبدأ مبدأ حق الأمَّة في اختيار من يمثلها حين قال مخاطبًا الأنصار: «
».ثم كانت بيعة أبي بكر بعد مساجلات ومناقشات حرة ومداولات مطوَّلَة بين المهاجرين والأنصار، أدلى كلٌّ منهم برأيه حتى اجتمعوا على اختياره رضي الله عنه.
ثم كان أن استَخْلَفَ أبو بكر عمر فارتضت الأمَّة ذلك منه وبايعته رضي الله عنه عن اقتناع حر، بعد أن أعلن كل فرد رأيه، حتى قال قائل لأبي بكر رضي الله عنه وهو على سرير الموت: ما أنت قائل لربِّك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته، وهو إذا وَلِيَ كان أفظّ وأغلظ؟
فردَّ أبو بكر قائلًا: "أبالله تخوّفني؟ خاف من تزود من أمركم بظلم!! أقول: اللهمَّ إني قد استخلفت على أهلك خير أهلك".
ثم كان استخلاف عثمان بعد مشاورات قام بها الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، استشار فيها كافَّة أهل المدينة، حتى إنَّه عبَّر عن ذلك قائلًا قبل مبايعته عثمان: "أيها الناس، إني قد سألتكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إمَّا عليّ وإمَّا عثمان".
فهذه الفترة من تاريخ الأمَّة الإسلامية، هو وحده الذي يصلح لاستنباط الأحكام والتشريعات منه ويعد ما حدَثَ بها سوابق دستورية يجب الالتزام بها والسير عليها.
أما ما حدث بعد ذلك على أيدي بني أمية، فليس من الإسلام في شيء، بل لا قيمة له في ميزان الإسلام.
يقول سيد قطب رحمه الله: "فلمَّا جاء بنو أميَّة وصارت الخلافة الإسلامية ملكًا عضوضًا فيهم بالوراثة، لم يكن ذلك من روح الإسلام، إنَّمَا كان من حمق الجاهلية الذي أطفأ إشراقة الروح الإسلامي".
وَالثَّانِي: بِعَهْدِ الْإِمَامِ مِنْ قَبْلُ[1].
فَأَمَّا انْعِقَادُهَا بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ[2] فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عَدَدِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِمَامَةُ مِنْهُمْ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ؛ لِيَكُونَ الرِّضَاءُ بِهِ عَامًّا وَالتَّسْلِيمُ لِإِمَامَتِهِ إجْمَاعًا، وَهَذَا مَذْهَبٌ مَدْفُوعٌ بِبَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْخِلَافَةِ بِاخْتِيَارِ مَنْ حَضَرَهَا وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِبَيْعَتِهِ قُدُومَ غَائِبٍ عَنْهَا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: أَقَلُّ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ مِنْهُمُ الْإِمَامَةُ خَمْسَةٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَى عَقْدِهَا، أَوْ يَعْقِدُهَا أَحَدُهُمْ بِرِضَا الْأَرْبَعَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ انْعَقَدَتْ بِخَمْسَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ تَابَعَهُمْ النَّاسُ فِيهَا، وَهُمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَبِشْرُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَالِم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَالثَّانِي: عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الشُّورَى فِي سِتَّةٍ لِيُعْقَدَ لِأَحَدِهِمْ بِرِضَا الْخَمْسَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ: تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ يَتَوَلَّاهَا أَحَدُهُمْ بِرِضَا الِاثْنَيْنِ لِيَكُونُوا حَاكِمًا وَشَاهِدَيْنِ، كَمَا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: تَنْعَقِدُ بِوَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا: اُمْدُدْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ ابْنَ عَمِّهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اثْنَانِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ وَحُكْمُ وَاحِدٍ نَافِذٌ[3].
_________
(1) قلت: ولا قيمة لعهد الإمام لأحدٍ من بعد بتولِّي منصب الخلافة ما لم تزكِّ أغلبية الأمة هذا الترشيح وتبايعه على ذلك، فتلك البيعة أو الانتخابات الحرَّة النزيهة كما يطلق عليها في عصرنا، هي الشيء الوحيد الذي يضفي الشرعيّة على سلطة خليفة، أو نائب أو والٍ....إلخ.
(2) على الرَّغم من أنَّ مصطلحات "أهل الشورى"، و"أهل الحل والعقد"، يتردَّد ذكرها كثيرًا في الكتب التي تتناول الحديث عن الخلافة والإمامة وشئون الحكم، إلَّا أننا لا نجد في هذه الكتب ما يشير من قريبٍ أو من بعيد إلى كيفيَّة اختيار هذه الهيئة التي تُعْرَف بأهلِ الحلِّ والعقد أو أهل الشورى، ولا من الذي يقوم باختيارهم أو تعيينهم.
إننا إذا نظرنا إلى آيات القرآن أو إلِى السنَّة النبوية الصحيحة، لم نجد بين نصوصهما ما يحدِّد صفات أهل الشورى ولا كيفية اختيارهم، بل لم نجد ذلك في عصر الصحابة.
يقول الدكتور السنهوري: "ففي عصر الصحابة لم يكن من الممكن التفكير في وضع شروط لمزاولة حقِّ انتخاب أهل الحلِّ والعقد؛ لأن الفكرة السهلة التي سادت هي أنَّ الناخبين هم صحابة النبي، ولو بقيت الخلافة انتخابية بعد جيل الصحابة لشعرت الأمة الإسلامية بضرورة إجراءات منظّمة ومحدّدة لاختيار أهل الحلِّ والعقد وتحديدهم؛ بحيث لا تبقى المسألة الجوهرية، وهي مسألة انتخاب أهل الحلِّ والعقد، ثم انتخاب الخليفة بمعرفتهم دون قواعد محددة".
ولعلَّ هذا هو السبب في ذلك الاختلاف البيِّن بين علماء الفقه السياسي الإسلامي قديمًا وحديثًا، ففي الوقت الذي نجد فيه الماوردي يحدِّد شروط أهل الاختيار في ثلاثة شروط فيقول: "العدالة الجامعة لشروطها، والثاني: العلم الذي يتوصّل به إلى معرفة من يستحقّ الإمامة، على الشروط المعتبرة فيها، والثالث: الرأي والحكمة وبتدبير المصالح أقوم وأعرف".
كذلك نَجِد الإمام النووي يقول في تعريف أهل الحلِّ والعقد: "إنهم العلماء والرؤساء".
بينما يرى الإمام البغدادي أنَّ أهل الشورى هم من لهم حق الاجتهاد فيقول بأنهم: "أهل الاجتهاد".
ثم نَجِد من يقول: "إنَّهم الأشراف والأعيان"، ثم نَجِد الإمام محمد عبده يقول: "أهل الحلّ والعقد من المسلمين هم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح".
ويقول الإمام محمد عبده: "إن أولي الأمر في زماننا هم كبار العلماء ورؤساء الجند، والقضاة، وكبار التجار والزرَّاع وأصحاب المصالح العامَّة ومديرو الجمعيات والشركات، وزعماء الأحزاب، ونابغو الكُتَّاب والأطباء والمحامين الذين تثق بهم الأمة في مصالحها، وترجع إليهم في مشكلاتها".
ثم يحاول الشيخ محمود شلتوت تعريف أهل الشورى فيقول: "أولو الأمر هم أهل النظر الذين عرفوا في الأمَّة بكمال الاختصاص في بحث الشئون وإدراك المصالح والغيرة عليها، وليس من شكٍّ في أنَّ شئون الأمَّة متعددة، ففي الأمة جانب القوة، وفيها جانب القضاء، وفيها جانب المال، وفيها جانب السياسة الخارجية، وفيها غير ذلك من الجوانب، ولكل جانب رجال عرفوا فيه بنضج الآراء وعِظم الآثار، وهؤلاء الرجال هم أولو الأمر من الأمَّة، وهم أهل الإجماع الذين يكون اتفاقهم حجة يجب النزول عليها".
ويقول السيد رشيد رضا في تعريف أهل الحلِّ والعقد الذين يمثّلون سلطة الأمة، واختاره الأستاذ الإمام: "والمراد بأولي الأمر أهلُ الرأي والمكانة في الأمة، وهم العلماء بمصالحها وطرق حفظها، والمقبولة آراؤهم عند عامتها".
ولم يختلف علماء الإسلام في تعريف أهل الشورى والمراد بهم فحسب، بل اختلفوا أيضًا في تسميتهم، فمن قائل: "أهل الحل والعقد"، ومن قائل: "أهل الاختيار"، ومن قائل: "أهل الاجتهاد"، ومن قائل: "أولو الأمر".
والحقّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان لم يترك قولًا يحدِّد فيه كيفية أهل الشورى، إلّا أنه صلى الله عليه وسلم قد ترك ذلك في سنَّتِه الفعلية برسمه الملامح والمنهاج الذي يمكن أن تسير عليه الأمة من بعده.
فمن خلال استقرائنا لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، بل ولتاريخ أمتنا، نستطيع أن نقول: إنّ أهل الحل والعقد لا بُدَّ وأن يتمَّ انتخابهم انتخابًا مباشرًا من قِبَلِ الأمَّة.
(3) قلت: وهذا كلام غريب وعجيب ينبغي الوقوف أمامه طويلًا؛ لبيان ما به من مخالفات لروح الشريعة الإسلامية، فما يدَّعيه البعض من أنَّ الخلافة تنعقد بستة أو بخمسة، أو حتى بواحد، كلام لا يقبل شرعًا ولا عقلًا.
فكيف نجيز لواحد أو خمسة أو ستة من أفراد الأمَّة، أو حتى عدة آلاف أن تعقد الإمامة لفردٍ ما دون الرجوع لرأي الأمة؟.
ثم إنَّ الخلافة لم تنعقد لأبي بكر بخمسة كما يدَّعي القائلون بذلك، ولم تنعقد لعثمان بستة كما يزعمون، فما فعله الخمسة في بيعة أبي بكر، أو الستة في بيعة عثمان لم تنعقد به الإمامة، إنَّما انعقدت بالبيعة العامَّة التي تمَّت بعد ذلك من جموع أفراد الأمة.
وعلى ذلك: فلا وزن لتلك المقولات التي ساقها بعض الفقهاء في عصور الضَّعف الإسلامي، والتي تقوي نفوذ الحكَّام، وتهوّن من شأن الأمَّة وأهل الحلِّ والعقد في الأمور السياسية.
فابن جماعة مثلًا وجدناه يفتح الباب على مصراعيه أمام أهل النفوذ والقوة المسيطرين على البلاد، ليطلبوا ما ليس لهم، ويجعل من ذلك حقًّا شرعيًّا!.
يقول ابن جماعة: "إن خلا الوقت من إمام فتصدَّى لها -يعني الإمامة- من ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته، ولزمت طاعته؛ لينتظم شمل المسلمين، ولا يقدح في إمامته كونه فاسقًا أو جاهلًا، ما دام قد تمَّت له الغلبة".
ليس هذا فحسب، بل إنَّه يذهب إلى أكثر من هذا فيقول: "وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد، ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول، وصار الثاني إمامًا، لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم".
كما كانت أفكار الوزير السلجوقي "نظام الملك"، من أبعد تلك الأفكار عن روح الإسلام في مسألة الحكم؛ إذ يقول: "إن السلطان تختاره العناية الإلهية مباشرة، وإنه مسئول مباشرة أمام الله".
ثم وجدناه هذه الأفكار التي صدرت عن نظام الملك تنتقل إلى الأندلس عن طريق محمد بن الوليد الطرطوشي، الذي يقول: "إنَّ حق السلطان في الحكم صادر عن إرادة الله، ومن ثَمَّ فهو ليس موضع مناقشة قط، وهناك بيان أو عهد بين الله تعالى والملوك، يُلْزِم الحاكم بمعاملة رعاياهم بالعدل والإنصاف والإحسان، أمَّا الحاكم الظالم فهو يعتبره بمثابة عقوبة من الله تعالى قدرَّها على عباده، جزاءً لهم على عصيانهم، ولذلك كان لزامًا عليهم أن يتحمَّلوا حكمه".
فهذه الأفكار وأمثالها التي تغثّ بها بعض الكتب القديمة والحديثة على السواء أفكار انهزامية، أصدرها أصحابها في محاولةٍ منهم لجمع كلمة المسلمين، وللتوفيق بين المصلحة العامَّة من حفظٍ لدماء المسلمين، والحفاظ على وحدتهم من التفرُّق والتشتت، وبين الشريعة.
أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: