اللحظات الأخيرة!
عجيب شأن هذا الإنسان، كل أمر في هذه الدنيا لا يدركه ولا يتعرَّف على حقيقته وخطورته إلا في اللحظات الأخيرة، التي لا تحقق المطلوب والمراد والمأمول وغالبًا ما تكون غير مفيدة أو مجدية.
الطالب في الدراسة لا يقوم بالدراسة للامتحان إلا في اللحظات الأخيرة، رغم عِلمه الأكيد أن الامتحان آتٍ وقريب، ولكنه يبقى يُسوِّف ويُؤجِّل حتى يأتي يوم الامتحان، وعندها فقط يدرك أنه مُقصِّرٌ ويحاول أن يتدارك دون جدوى!
الولد يبقى في العقوق والتأفُّف من الوالدين، وفي اللحظات الأخيرة من حياة أحدهما أو كلاهما، يدرك نعمة وجود الوالدين في حياته، فيُسارِع إليهما ليعتذر ويتأسَّف ويندم على ما صدر منه من عقوق، ولكنه قد يفعل ذلك في اللحظات الأخيرة التي قد لا تُفيد لأنها جاءت بعد فوات الأوان!
والمذنب العاصي البعيد عن الله تعالى وعن طاعته، يبقى طوال حياته غارِقًا في اللهو والعبث والشهوات، لا يلتفت إلى الله تعالى بطاعةٍ أو عملٌ صالح، حتى إذا عاجله المرض الذي يُوقِن فيه أنها النهاية، ندم واستغفر وتاب، في وقت لو قُبِلت فيه التوبة لكانت متأخرة جدًا، وربما لا تُقبل ولا تنفع فيه التوبة، فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنها قال: « »، حتى قال: « »، حتى قال: « »، حتى قال: « » (رواه أحمد في مسنده، وفيه راوٍ لم يُسمَّ وبقية رجاله ثقات)، وفي رواية الطبراني في الأوسط : « »، وفواق الناقة: ما بين الحلبتين من الوقت للراحة، لأنها تُحلَب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر، وفي مسند أبي يعلى بإسنادٍ حسن: « ».
والسؤال الذي يحتاج إلى وقفةٍ مع النفس أكثر من حاجته لجواب منطقي وعقلي -فلا يشك عاقل بحتمية الموت ولقاء الله تعالى مهما طال بالإنسان العمر- لماذا يترك هذا الإنسان المسلم نفسه في حمأة المعاصي والذنوب، تأكل من روحه قبل أن تأكل من وقته وحياته، إلى اللحظات الأخيرة الخطيرة من حياته، التي ربما يكون قبول التوبة فيها مثار شبهة وريب كما سبق؟!
والجواب الذي يُردِّده الجميع في اللحظات الأخيرة من الحياة، هو طغيان الشهوات والشبهات على هذا الإنسان، التي جعلته يغرق في أتونها وحمأتها، إضافة إلى لوم الشيطان الذي وسوس له وزيَّن، وبث في روعه أن الحياة طويلة مديدة، وأن الموت بعيد وليس بقريب، فليستمتع بشبابه المحدود بالشهوات والملذات، وليؤجل التوبة إلى وقت لاحق، والذي لا يأتي إلا في اللحظات الأخيرة غالبًا.
ولكن رد الشيطان يأتي سريعًا على هذا اللوم والعتاب، ولعل المسلم الذي يقرأ القرآن في حياته يعلم ذلك علم اليقين: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
في اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان، ينكشف عنه الغطاء والغشاوة التي كانت على عينيه في الدنيا، والتي كانت تحجب عنه الحقائق، وتُريه الأمور على غير حقيقتها وماهيتها، قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ . لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19-22].
جاء في تفسير هذه الآية: "المخاطب هنا الإنسان بشكلٍ عام، لأنه لا يخلو إنسان من الخوف من الموت، ولا يخلو إنسان من الغفلة، وقيل الكافر وغير ذلك، والمعنى: لقد كنت أيها الإنسان في غفلةٍ عن الموت والشهود من الملائكة وأعضاء جسمك الذين لا يفارقونك، فكشفنا عنك اليوم تلك الغشاوة التي رافقتك في الدنيا، فبصرك اليوم قوي نافذ يرى ما كان محجوبًا عنك، أو بصيرتك القلبية تدرك اليوم ما لم تدركه العين في الدنيا" (تفسير القرطبي: [17/14]، وابن كثير: [7/399]).
في اللحظات الأخيرة من الحياة تظهر الصورة الحقيقية للإنسان التي عاش عليها، على مبدأ القول المشهور: "يموت الإنسان على ما عاش عليه، ويُبعَث على ما مات عليه"، نعم.. تظهر هذه الصورة جليًا في الكلمات الأخيرة التي يُردِّدها، وفي الأحوال التي يعيشها في اللحظات الأخيرة.
شتان في الميزان عند الله تعالى بين اللحظات الأخيرة لمؤمنٍ عاش حياته على الطاعة والعبادة، وبين غافلٍ ساهٍ أهدر عمره في الملذات والشهوات، أما الأول فاللحظات الأخيرة من حياته بوابة لا بُدَّ من عبورها للقاء النعيم الذي ينتظره عند الله تعالى، وأما الثاني فاللحظات الأخيرة من حياته مصيرية مرعبة، فإما العفو وإما العذاب المنتظر.
ها هو بلال بن رباح رضي الله عنه يقول لامرأته في اللحظات الأخيرة من حياته عندما قالت: واحزناه! فقال: "بل واطرباه! غدا نلقى الأحبة محمدًا وصحبه".
ها هو معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في اللحظات الأخيرة: "اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلق الذكر".
هذا شأن الصحابة مع اللحظات الأخيرة من الدنيا، أما غيرهم ممن خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا فكلماتهم في اللحظات الأخيرة مختلف "ولم نذكر كلمات الكفار في اللحظات الأخيرة في هذا المقام، لأن الخطاب موجه للمسلم الذي قد يغفل عن الله تعالى وليس للكافر الجاحد لوجود الله تعالى".
هذا عبد الملك بن مروان أعظم خلفاء بني أمية، يدخل عليه شيوخ بني أمية يعودونه فقالوا: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: "أجدني كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام من الآية:94].
وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي يقول في اللحظات الأخيرة من حياته: "اللهم اغفر لي فإن الناس يقولون إنك لن تغفر لي".
فسارع أيها القارئ الكريم إلى التوبة والعودة إلى الله تعالى قبل أن تُدرِكُك اللحظات الأخيرة من الحياة وأنت على المعصية والغفلة لا سمح الله.
د. عمر الهوشان
- التصنيف:
- المصدر: