حسبنا الله

منذ 2014-07-11

حينما جرّب العارفون قيمة هذا الذكر: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، تلذذوا بترداده من شغاف قلوبهم، فانتعشت جوراحهم وقويت هممهم وعزائمهم بعدما صدقوا في توكلهم وتيقنوا معية ربهم لهم في السراء والضراء، فحفظوا جوارحهم عن معاصيه، وتقرّبوا بقرباتهم وطاعاتهم بين يديه، فكان لهم الأمن بعد الخوف، واليسر بعد العسر، والسعة بعد الضيق والشدة، والانشراح والانبساط بعد الكدر والغمة، فينقلب إلى نعمة ربه وفضله ورحمته، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}.

الانطراح بين يدي الله سبحانه وتعالى، والألتجاء إليه، والاستعانة به، هو ديدن المؤمن الصادق وهُجيراه في كل لحظة وحين؛ في السراء والضراء، والعسر واليسر، والشدة وفي الضيق والراحة والوسع، فهو سبحانه يكفي ما أهم عبده المؤمن من تعب الدنيا ومصائبها وآلامها وأحزانها، لتصبح نفسه في مصاف النفوس الكبيرة؛ النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلًا، وترضى وتكتفي به وحده، وتزداد إيمانًا به في ساعة الشدة، وتقول في مواجهة الخوف والقلق والهم والحزن والعجز والضعف:{حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران من الآية:173].

 

يُتعِبُ الإنسان الوهم ويُضعفه، بل ويفتت قواه شيئًا فشيئًا إذا استسلم له وانهار أمامه، لأنه حينئذ نسي القوي المتعال ذا الكمال والجلال، الجبّار العزيز القهّار، من لاذ بركنه الشديد أعانه وأيده ونصره وأغاثه، فيدعوه بصدق وخشوع وانخلاع حقيقي من قوته البشرية المحدودة وقدراته التي مهما بلغت من الضخامة والعظمة إلا أنها تهزها أشياء حقيرة تافهة وأخيلة مزعجة تكبر في مخيلته وتتضخم نتائجها في نفسه، حيث يتوقع ويتصور أن المصيبة ستحل به، والفضيحة ستلاحقه والموت جاثم على صدره فتتصاعد من صدره آهات الفزع من المجهول الذي لن يتحقق ولن يحصل مادام متمسكًا بحبل الله المتين وركنه الشديد.

 

وفي الرغبة إلى الفضل والسعة والرزق تتجلى كفاية الرب الكريم المنان وهو يردد {حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة من الآية:59]، وفي ذلك أدب النفس وأدب اللسان، وأدب الإيمان؛ الرضا بقسمة الله ورسوله، رضا التسليم والاقتناع لا رضا القهر والغلب، والاكتفاء بالله، والله كاف عبده. والرجاء في فضل الله ورسوله والرغبة في الله خالصة من كل كسب مادي، ومن كل طمع دنيوي.. ذلك أدب الإيمان الصحيح الذي ينضح به قلب المؤمن. وإن كانت لا تعرفه قلوب المنافقين، الذين لم تخالط بشاشة الإيمان أرواحهم، ولم يشرق في قلوبهم نور اليقين.

 

حينما جرّب العارفون قيمة هذا الذكر {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، تلذذوا بترداده من شغاف قلوبهم، فانتعشت جوراحهم وقويت هممهم وعزائمهم بعدما صدقوا في توكلهم وتيقنوا معية ربهم لهم في السراء والضراء، فحفظوا جوارحهم عن معاصيه، وتقرّبوا بقرباتهم وطاعاتهم بين يديه، فكان لهم الأمن بعد الخوف، واليسر بعد العسر، والسعة بعد الضيق والشدة، والانشراح والانبساط بعد الكدر والغمة، فينقلب إلى نعمة ربه وفضله ورحمته، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران من الآية:174]. 

 

فـ"الحمد لله مدبر الملك والملكوت، المنفرد بالعزة والجبروت. الرافع السماء بغير عماد، المقدر فيها أرزاق العباد. الذي صرف أعين ذوي القلوب والألباب، عن ملاحظة الوسائط والأسباب إلى مسبب الأسباب، ورفع هممهم عن الالتفات إلى ما عداه والاعتماد على مدبر سواه، فلم يعبدوا إلا إياه علمًا بأنه الواحد الفرد الصمد الإله وتحقيقًا بأن جميع أصناف الخلق عباد أمثالهم لا يبتغي عندهم الرزق، وأنه ما من ذرة إلا إلى الله خلقها، وما من دابة إلا على الله رزقها؛ فلما تحققوا أنه لرزق عباده ضامن وبه كفيل توكلوا عليه فقالوا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}.

 

لقد أكد القرآن الكريم في مواضع عدة هذا الإقرار والشعور بمعية الرب وتأييده ونصره بالحسب والتأييد فقال: {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} [الأنفال:62]، وقال سبحانه: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله} [التوبة من الآية:129]، وهو قرين التوكل الصادق على الله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق من الآية:3]، ليس هناك ما يخاف منه المؤمن وهو مع ربه يلهج بذكره فيعتمد عليه ويثق بوعده، فإن من توكل على الله كفاه، وتولى أمر دينه ودنياه، إن كل محاولة شيطانية لزعزعة ثقة المؤمن بربه يصدها توكله وصدق الالتجاء به سبحانه فينهزم الشيطان..

 

ولا يصل إلى مبتغاه  لأن الله حارسه وكالئه وكافيه؛ وهو شاهد حاضر في كل مناجاة، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر. ولن يضر الشيطان الإنسان المؤمن {إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ} [البقرة من الآية:102]،  فهي مشيئة الله في كل موطن من مواطن الوعد والجزم فليس على المؤمن إلا أن يتوكل على ربه فهو له الحارس الحامي، وهو القوي العزيز، وهو العليم الخبير. وهو الشاهد الحاضر الذي لا يغيب. ولا يكون في الكون إلا ما يريد. وقد وعد بحراسة المؤمنين، فأية طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟

فها هو شهر رمضان المبارك تمرين على حسن التوكل على الله وصدق اللجوء إليه سبحانه، فيدرّب نفسه أن تعتمد عليه في كل لحظة من لحظاتها، وتتبرأ من حولها وقوتها وتسندها لصاحب القوة الحقيقية فيستمد قوته من قوة ربه، فيردد ويحوقل؛ لاحول ولاقوة إلا بالله، ويحسبل في لحظات خوفه وأوهامه قائلًا: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فينقلب إلى طمأنينة القلب وسموه في رمضان ليتخلق من جديد خلقًا آخر، ويمضي معه الجسد يتطهر ويتزكى فلا يخاف سوءا ولا رهقًا ولا تهديدًا لأن حسبه القوي المتين العزيز ذو انتقام بيده الأمر وهو على كل شيء قدير

 

طه بافضل

  • 1
  • 1
  • 4,509

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً