التبشير بأنَّ نَصْرَ الأمَّة لا يَفْتَقِرُ إلا لِحُسْنِ اعْتِقادِ مَع قليلِ التَّدبِر

منذ 2014-07-18

اقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فأما قولك إنه قد جاءهم ما لا قبل لهم به فإن لا يكن لهم به قبل فإن لله بهم قبلاً، ولم يزل ربنا عليهم مقتدرًا. ولو كنا و الله إنما نقاتل الناس بحولنا وكثرتنا لهيهات ما قد أبادونا وأهلكونا ولكن نتوكل على الله ربنا ونبرأ إليه من الحول والقوة ونسأله النصر والرحمة، و أنَّكُم منصورون إن شاء الله على كل حال، فأخلصوا لله نياتكم وارفعوا إليه رغبتكم واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون..


وأنا اقرأ في قصة معركة اليرموك (1)، هَالَنِي ما قرأت من وصفٍ لِجَماعَة الرُّوم و حزبهم، وسَرْدٍ لِعَدَدِهم وعُدَّتِهِم، فَلَمَّا قرأت رِسَالَةَ أبي عُبيدَة رضي الله عنه، ارْتَجَفَ قَلْبِي  ذُهِل عَقْلي لما كَان مِنْ لِين عِبَارتِه، وظُهُور شَفقته على المُسلمين ومَخَافَتهِ مِن أن يُستأصلوا عن بَكْرَةِ أبِيهم فِي الشام وغَيْرها.

وكان المُسْلِمون قد اجْتَمعوا على الانسحاب مِن أطراف قِنسرين ومن حِمْصَ ودِمَشق إلى الجَابِيَة ومِن بعدها أذْرَعات (2)، رادِّينَ الجِزيَةَ لأهل القُرى مَخافَةَ أن لا يَقدِروا على الدَّفْعِ عَنْهم كما شُرِط في الصلح، كل هَذا والرُّوم على الطَّريق الدَّاخلي يَتَعَقَّبون المُسْلِمِينَ ويَسعون لِتَطْوِيقهم.

فَلَمَّا سَمِع أهل إيلياء والأردن خَبَرَ جَحافِل الرومِ وجُيُوشِهم في البرِّ والبَحر، فشى فِيْهم الإرجاف ونَقَض أباطِرَتُهم العهود وخُوِّفَتْ جَماعَةُ المُسْلِمِينَ فِي فلسطين والأردن.
كانت الأَجْواءُ وكأنَّما سَيُتَخَطَّفُ المُسلِمون من حولهم، فَطُرُقُ الإمداد بَعيْدَةٌ أو مُقَطَّعة، وذِمَّة اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بَرئَتْ مِن عُهُودِ أهْلِ الكِتَابِ ومَواثِيقِهِم غَدْراً وخِيَانَةً.

فكان مِن رِسالَةِ أبِي عُبيدَةَ رضي الله عنه: "أخبر أمير المؤمنين -أكرمه الله- أن الروم نفرت إلى المسلمين براً وبحراً، ولم يخلفوا وراءهم رجلاً يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا، وخرجوا معهم بالقسيسين والأساقفة ونزلت إليهم الرهبان من الصوامع، و استجاشوا بأهل أرمينية وأهل الجزيرة، وجاءونا وهم نحو من أربعمائة ألف رجل...".

ثم قال بعد أن سَرد إستراتيجيتهم في مواجَهَة هذا الخطر: "... فالعجل العجل يا أمير المؤمنين بالرجال بعد الرجال، وإلا فاحتسب أنفس المؤمنين إن هم أقاموا،  دينهم منهم إن هم تفرقوا، فقد جاءهم ما لا قِبَلَ لهم به إلا أن يُمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قِبله، و السلام عليكم".

فاحترت في المسألة وقُلت: وما عسى أميرَ المؤمنينَ رضي الله عنه يُرسل، ووالله لَوْ وُجِدَ عَدَدٌ وَعَدِيدٌ لَمَا أمَرَ خَالِداً باللَّحَاقِ بِجَيْشِ الشَّام أصلاً. فَلَمَّا تَتَبَّعْتُ مَا رَواه المُؤرِّخُون مَا وَجَدْتُ كَثْرَتَ جُنْدٍ في المدد، و إنَّما أمَدَّهم أَمِيْرُ المُؤمِنين بما هو أعظم مِن العدد.

أرسل أمير المُؤمِنين رضي الله عنه إلى أبِي عُبَيْدةَ رضي الله عنه بَرْقِيَّةً عَسْكَرِيَّةً حُقَّ أَنْ تُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهب، أرى أن أنقُلها كَما هي، فلا خَطَّ أَخُطُّه -و إن بلغت كَلِمَاتُه عدد ما طَلَعَت عليه الشمس من الحصى- يُوزَنُ بِحَرْفٍ مِنْ فيك يا أمير المؤمنين رضي الله عنك وعن جيلك الطاهر، نَصُّها: "أما بعد، فقد قدم علينا أخو ثمالة بكتابك تخبر فيه بنفير الروم إلى المسلمين برًا وبحرًا، وبما جاشوا به عليكم من أساقفتهم وقسسهم ورهبانهم وإن ربنا المحمود عندنا والصانع لنا والعظيم ذو المن والنعمة الدائمة علينا قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حين بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق وأعزه بالنصرة ونصره بالرعب على عدوه وقال وهو لا يخلف الميعاد:  {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (3)، فلا تهولنك كثرة ما جاء منهم فإن الله منهم بَرِيءٌ، ومن بَرِئَ الله منه كان قَمِنَاً (4) ألا تنفعه كثرةٌ، وأن يكله الله إلى نفسه ويخذله، ولا توحشنك قلة المسلمين فإن الله معك وليس قليلا من كان الله معه، فأقم بمكانك الذي أنت به حتى تلقى عدوك وتناجزهم تستظهر بالله عليهم وكفى بالله ظهيراً و ولياً و ناصراً.

وقد فهمت مقالتك، احتسب أنفس المسلمين إن أقاموا ودينهم إن هم تفرقوا (5)، فقد جاءهم ما لا قِبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قبله، وأيم الله لولا استثناؤك هذا لكنتَ أسأتَ، ولعمري إن أقام لهم المسلمون وصبروا فأصيبوا لما عند الله خيرٌ للأبرار ولقد قال الله عز وجل: {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (6)، فطوبى للشهداء ولمن عقل عن الله ممن معك من المسلمين لأسوة بالمصرعين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطنه، فما عجز الذين قاتلوا في سبيل الله ولا هابوا الموت (7)، في جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعدهم ولا استكانوا لمصيبتهم، ولكن تأسَّوْا بهم وجاهدوا في الله من خالفهم منهم وفارق دينهم.

ولقد أثنى الله على قوم بصبرهم فقال: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (8)، فأما ثواب الدنيا فالغنيمة والفتح، وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة.


واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فأما قولك إنه قد جاءهم ما لا قبل لهم به فإن لا يكن لهم به قبل فإن لله بهم قبلاً، ولم يزل ربنا عليهم مقتدرًا. ولو كنا و الله إنما نقاتل الناس بحولنا وكثرتنا لهيهات ما قد أبادونا وأهلكونا ولكن نتوكل على الله ربنا ونبرأ إليه من الحول والقوة ونسأله النصر والرحمة، و أنَّكُم منصورون إن شاء الله على كل حال، فأخلصوا لله نياتكم وارفعوا إليه رغبتكم واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" (9).

فأيُّ مَدَدٍ أعْظَمُ مِن ذا يا أمير المُؤمِنين، وأيُّ ثِقَةِ بالله عِنْدَ هَذا الحَيِّ مِنَ المُسْلِمِين، كَلِمَاتٌ جِسَامٌ ومَعَانٍ عظام، تُخْبِرُ عَنْ نُفُوسٍ كِبار، أي أخيَّ لا تَسْمَعْ لِلْمُرْجِفِيْنَ وتَوَكَّل على العَليِّ العَظِيمِ، فإنّما هِيَ دَعْوَةٌ إن أخلِصَت النِّيَّة على عَيْن اللهِ تُصطَنَعُ و تَسِيْر.

وهُنا لا يَفُوتُنِي أن أذْكُر كَلِمَةً للصَحابيِّ الجَلِيلِ أبِي سَفْيانَ بِن حرب رضي الله عنه، صَدَعَ بِهَا لِتُلَامِسَ قُلُوبَ المؤمِنين في المعَركَة ومَيمَنَةُ جَيْشِ المُسلِمِينَ تُطْحَنُ طَحنَاً، وقَدْ فَرَّ مَنْ فَرَّ وثَبُتَ مَنْ ثبتْ، وتَسَرَّبَت جُمُوع المُشرِكِينَ إلى مُعَسكَرِ المُسْلِميِنَ حَيْث تَصَدَّتْ لَهُمُ النِّساء.

فلمّا اشتد الوطيس و?رتجفت قُلوب مَنْ عَظُمتْ جُموعُ المشْركِينَ في عينيه وباتَ جُنود درنجار النَّاسِكُ الكَافِرُ عَلى مرمى حَجَرٍ مِنَ النَّصر، قُلبت المَوازِين وردَّ المُسْلِمُون بهَجْمَةٍ خاطفَةٍ على عشَرات الآلاف المُتَهافِته في تَكْتِكٍ عَسْكَريٍّ أشبه بالحُلم، وعندها سُمِعَ ذلك الصَّوْتُ، ونَتْرُك الكَلام للرَاوي وهو سعيد بن المسيب رحمه الله عن أبيه رضي الله عنه: "لما جلنا هذه الجولة سمعنا صوتاً قد كاد يملأ العسكر يقول: "يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين"، فتعاطفنا عليه فإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه".

فذا أبو سُفيان واثقٌ بِنصر ربِّه وكذا يَجِبُ عليْنا أن نكون، وكيف لا يَكون هذا من أبي سُفيان رضي الله عنه وهو الذي كان يَقُول قَبل المَعرَكَةِ هَاتِفاً بالجُند بعد أن يَقِفَ على الكَراديس: "الله الله، إنّكم ذادة العرب وأنْصَار الإسلام، وإنَّهم ذادة الروم أنصار الشرك. اللهم إن هذا يومٌ مِن أيَّامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك".


ثُمَّ نحى إلى نِسَاء المُسلِمين -وَ هُنَّ أكْثَرُ رُجُولة مِنكم يَا خوالفَ، وأكثَرُ أنُوثَةً مِنْكُنَّ يا مُثبِّطَات- و قال: "لا يرجع إليكن أحد من المسلمين إلا رميتموه بهذه الحجارة وقلتن: من يرجوكم بعد الفرار عن الإسلام وأهله وعن النساء بأرض العدو؟ فالله الله"، ثم رَجِع إلى مَوقِفه استعداداً للمعركة ونادى في النَّاس قائلاً: "يا معشر أهل الإسلام حضر ما ترون، فهذا رسول الله و الجنَّة أمامكم والشيطان والنَّار خلفكم (10)".

و لو أَرَدْتُ سَرْدَ بطولاتِ المَعرَكةِ لاحتجْتُ لتَصنيف كتاب آخر، وقد وفَّى عُلَماؤنا بالمقصود فلا حاجة لذلك، لكن السؤال هنا: أفلا تَقرأ تاريخك لِتَعْرِفَ أمْجادك يا أخا اليأسِ، فإن لم تفعل، فَكُفَّ عن الأمَّة ودَعْهَا تُسَطِّرُ أمْجَادها بِيَمينها، فيُسراها قَد شلَّها تَخْذيلُك.

و الله المُستعان على كل حال.

---------------------------------------------------

1- (الطريق إلى دمشق) للمؤرخ أحمد عادل كمال.
2- درعا اليوم.
3- [الصف:9].
4- جديراً.
5- هربوا في الرواية الأخرى.
6- [الأحزاب:23].
7- لقاء الموت في الرواية الأخرى.
8- [آل عمران:146-148].
9- نُقلَ من الأزدي أساساً، ومن الإكتفاء عندَ ذكر الرواية الأخرى.
10- يخوفهم من التولي يوم الزحف وهو من الكبائر.
 

 عاشق الحور المَقْدِسي

منتصر بن محمد البيروتي

المصدر: شبكة أنا مسلم
  • 3
  • 0
  • 7,443

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً