احتساب في السحاب

منذ 2014-07-20

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة لا تحد بمكان، ولا تقيد بظروف الزمان؛ إذ هي باقية مستمرة ما بقي الصراع بين الحق والباطل، سواءً كنا في البر أو البحر، نمشي فوق التراب، أو نحلق في الأجواء مع السحاب، فالفرض قائم، وإنما الذي يختلف هو طرق الإنكار بحسب القدرة والاستطاعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»


إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة لا تحد بمكان، ولا تقيد بظروف الزمان؛ إذ هي باقية مستمرة ما بقي الصراع بين الحق والباطل، سواءً كنا في البر أو البحر، نمشي فوق التراب، أو نحلق في الأجواء مع السحاب، فالفرض قائم، وإنما الذي يختلف هو طرق الإنكار بحسب القدرة والاستطاعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [1]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» [2].

وبهذا فلا يحصر مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أنه متعلق بتقاليد معينة أو حسب أنظمة دولة ما، متى ما استطاع المرء أن يتخلص من قيود تلك الأنظمة ألفيته منسلخًا عن كل القيم والمبادئ الإسلامية، بحجة أن ليس عليه رقابة ولا وصاية من أحد. ولكي نصحح هذا المفهوم الخاطئ يستلزم من المرء أن يستشعر المراقبة الذاتية لله تعالى، وأن الله مطلع عليه، وكفى بذلك زجرًا وخوفًا منه سبحانه أن تؤتى محارمه، كما يجب على من يرى المنكر أن ينكره، وبالتالي نعمق ثقافة هذه الشعيرة في جميع الحالات.

وإليكم أحداث هذه القصة التي توضح بجلاء هذا المفهوم، إضافة إلى ما تحمله من فوائد في فقه الاحتساب: نص القصة [3]:

معلمة تلبس الحجاب أمام الطالبات، وعندما انتهت السنة الدارسية أرادت أن تسافر إلى الخارج، فلما ركبت الطائرة وأقلعت واستوت في الأجواء، نُزع الحجاب، وأزيل الغطاء، ورُمي بالخمار، وخرج البنطلون، وظهر القصير والشفاف، وفاح العطر، وتلون المكياج، ونفشت الشعور، وإذا بفتاة تتقدم إلى هذه المرأة وتسلم عليها وتقول: "كيف حالك يا معلمتي؟!" فأسقط في يد المعلمة! فقالت الطالبة: "ألا تعلمين أن الحجاب تنزيل من العزيز الحكيم، أليس الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ..} [الأحزاب: 59]، الحجاب ليس عادات وتقاليد وإنما عبادة تؤجر عليها المسلمة! إن الله ربنا وإلهنا هنا وهناك! في الداخل وفي الخارج، وهو مطلع عليك في هذه الطائرة يا معلمتي، أنت قدوتنا، أنت كنت تحرضيننا على الحجاب، ونحن نسمع منك التوجيهات في المدرسة والآن أنت على منكر!"، تقول المعلمة: "شعرت بالحرج الكبير من طالبتي تنصحني وتوجهني، وتمنيت أن يحدث لي أي شيء الآن، تنشق الأرض وتبلعني! ومنذ تلك اللحظة قررتُ ارتداء الحجاب وعدم التنازل عنه أبدًا، بسبب نصيحة هذه الطالبة التي كنت أدرسها".

وقفات وتأملات من القصة:
1- على المحتسبة أو المربية أن تكون صادقة فيما تدعو إليه أو تنهى عنه، ولا يكون كمن قال الله فيهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. فإن ذلك من شأنه أن ينفر الناس عنها، ولا يثقوا في مصداقية مع تدعو إليها، أو ما تأمر به، أو تنهى عنه.

ولله در الشاعر حيث قال:
 

يا أيــها الرجل المعلــم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليـم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** كيما يصح به وأنت سقيـم
ونــراك تصلــــح بالـرشــاد عقـولنــا *** أبدًا وأنت من الرشاد عديم
فابـــدأ بنـفســـك فانـههــا عـن غيهـــا *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهنــاك يُـقبـــل ما تــقــول ويُهـتـــدى *** بالقول منك وينفع التـعليــم
لا تنــهَ عن خُـلُــقٍ وتــأتــي مـثــلـــه *** عارٌ عليك إذا فعلت عظيـم[4]


2- من هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه وبين خلقه، فهذه المعلمة قد هتكت الستر الذي بينها وبين ربها، إذا كانت تخشى وتقارب الناس وبالأخص طالبات?ا -ويأبى الله تعالى- إلا أن يفضح ويهتك ستر هذه المعلمة من حيث لا تحتسب، إذ لم يخطر ببال تلك المعلمة أن تجد هذه الطالبة في الطائرة، ولقد خجلت خجلاً شديدًا حتى تمنت أن تنشق الأرض وتبلعها؛ لعظم الموقف الذي حدث لها. 
فاحذري أيتها المحتسبة من أن تُؤتَي من قبل نفسك فيفضحك الله بمن لا تحتسبينه وبمن تخشينه من الناس. مما يدعونا بالعموم إلى عدم الأمن من مكر الله تعالى.

3- تقوى الله ومراقبته في كل حين، وأنه مطلع علينا؛ سواءً كنا في البر أو البحر أو في الجو، فيلزم مراقبته وتقواه في كل موطن وعلى أية حالة كنا، انطلاقًـا من قوله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت،...» [5].

4- المهابة والإجلال الذي يورثه الله للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في قلوب العصاة أو المنكر عليهم، وهذه المهابة نظرًاً لما قاموا بحق الله على هؤلاء، قال الحسن البصري رحمه الله: "ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه.." [6]، فلقد اكتست تلكم الطالبة هذه المهابة والإجلال لدى قلب معلمتها مما ساعدها على أن تقول كلمة الحق، وتغير المنكر بكل شجاعة وثبات.

5- الذلة والصغار الذي يقذفه الله في قلوب العصاة؛ لما خالفوا أمره، واجترؤوا على انتهاك محارمه، وفيهم قال الحسن البصري رحمه الله: "وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم ذلل البغال فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.." [7]، وبالتالي لا يخش الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر منهم ولا يتهيبهم أو يعظمهم من شأنهم.

6- على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون ذا علم وبصيرة مما يدعو إليه أو ينكر عليه، وأن يتسلح بسلاح العلم الشرعي الذي يقوي حجته وينير بصيرته، فلقد رأينا في إنكار الطالبة على معلمتها بتبيين الحكم الشرعي لها مستدلاً بآية من كتاب الله. قال سفيان الثّور يرحمه الله: "لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلّا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى" [8].

7- أن معظم الناس الذي يفعلون المعروف أو يرتكبون المعاصي قد ينطلقون من كونها عادات وتقاليد أورثوها عن آبائهم وأجدادهم، أو مما تأثروا به بحكم مخالطة البيئة المحيطة بهم، فهم لذلك لا ينطلقون من كونها عبادة -بالنسبة للمعروف-، أو معصية -بالنسبة للمنكر-، مما يدعوهم في الأخير إلى التخلي عنها إذا انتقلوا إلى بيئة أخرى لا تنسجم معهم هذه العادات. فلزم على المحتسب -أوالمحتسبة- أن يبين للناس أن ذلك إنما هو دين، وليس مسألة عادات وتقاليد للمرء حرية الانتقاء أو الاختيار منها كيفما شاء، أو تغييرها وقت ما يشاء، أو في أي مكان حل وارتحل، وهذا يلقي بنا الضوء حول بناء خلفية حول المسببات لفعل المعاصي وارتكاب المحرمات لدى الناس، مما يساعدنا في تقديم حلول مناسبة تستند على أسس موضوعية للقضاء عليها وإنكارها في المجتمع.

8- على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يستخدم أسلوب الوعظ والتذكير بالله تعالى، وأهمية مراقبته، عل ذلك أن يؤثر في قلب صاحب المنكر فينزجر ويتوب إلى الله ويقلع عن معصيته، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في شأن المنافقين: {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} [النساء: 63].


9- لا بأس من استخدام أسلوب العتاب اللطيف الداعي إلى وخز النفس وإيقاظ ضميرها الحي فيها كيما تصحو وتغير من حالتها، قد قالت الطالبة لمعلمتها: "يا معلمتي..، أنت قدوتنا..، أنت كنت تحرضيننا على الحجاب، ونحن نسمع منك التوجيهات في المدرسة والآن أنت على منكر". وفي هذا يمكن أن يقال للشخص الواقع في المعصية أو المنكر العبارات التالية مثلاً: كنت أظن فيك كذا، الله المستعان، أنت ابن/ بنت فلان ولا يليق بك وبأهلك هذا، أو غيرها من العبارات التي تؤثر وتوخز في قلبه، ولتكن بقدر الحاجة.

10-في القصة دلالة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه..» [9]، فهذه الطالبة كانت مهتمة بالشعائر الدينية أكثر من معلمتها التي أوصلت لها هذه المعلومة، فنفع الله بهذه الطالبة التي أدركت عمق ومدلول معنى الالتزام بشعائر الإسلام في أي مكان، بخلاف تلك المعلمة التي قصرت الالتزام في مكان معين، ومعنى ذلك: أن المحتسب/ المحتسبة عندما يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أنه بذلك الفعل قد يوصل فكرة أو يصحح مفهومًا لدى المحتسب عليه، ثم يشأ الله تعالى أن يجعل من ذلك المحتسب عليه صاحب فقه وبصيرة فينتفع بهذه الكلمات، ومن ثم يغير من حاله، وقد يكون أفضل ممن احتسب عليه ولو بعد حين [10].

11- لا يمنع ونحن ننكر المنكر، أن نعرف للناس مكانتهم، وننزلهم منزلتهم اللائقة بهم، وألا نبخس حقهم، وننادي كل بحسب لقبه الذي يليق به أو الذي منحه، فالطالبة تقول: "يا معلمتي" أكثر من مرة، فلم تنس لها فضلها، ولم تقلل من شأنها ومن منزلتها، فإن ذلك أدعى للاستجابة والتقبل؛ كون حبل الاحترام موصول.

12- إن الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر لا يختص بزمان دون آخر أو مكان دون مكان، بل هو عام في أي مكان أو زمان وجد المنكر، سواءً كنا فوق التراب أو على الطائرة مع السحاب.

والحمد لله رب العالمين..
_________________
[1] رواه مسلم في صحيحه، برقم(186)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] رواه مسلم في صحيحه، برقم(188)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[3] كتبها: عبد الله بامطرف- حضرموت، المصدر: مجلة مساء، العدد: 26.
[4] المستطرف - (1/48).
[5] رواه الترمذي من حديث: أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، برقم (1987). وقال الشيخ الألباني فيه: حسن. انظر: سنن الترمذي: (4 / 355).
[6] مجموع الفتاوى (15/426).
[7] مجموع الفتاوى (15/426).
[8] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال، ص: 46.
[9] صيحيح على شرط الشيخين، انظر: المستدرك: (1/162)، بتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا.
[10] قال ابن القيم في شأن هذا الحديث: "فإذا سمع تلك المقالة حملها على أحسن وجوهها واستنبط فقهها، وعلم المراد منها"، مفتاح دار السعادة - (1 / 72).

 

تميم بن محمد الأصنج

  • 5
  • 1
  • 3,358

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً