غزة تحت النار - (46) صيحةٌ في وادي العرب!
كبيرة العرب فجُرمها كبير، وخيانتها عظيمة، وفعلها منكرٌ قبيح، وصمتها فاحش، وترقبها مريب، وانتظارها مخزي، لا نقبل به ولا نرضى عنه، فهي ليست صامتة ولا ساكتة، إنها مؤيدةٌ ومشجعة، وراضية وسعيدة، وكان الذين يُقتلون على أرض فلسطين ليسوا عربًا ولا مسلمين، وكأنهم ليسوا أشقاءً ولا فلسطينيين، إنهم يخونون شهداءهم الذين سقطوا على أرض فلسطين، وأولئك الذين دُفِنوا في صحراء سيناء، إنهم يبيعون رخيصًا أرواح أسراهم الذين دفنهم ذات العدو أحياءً في التراب، ويتخلون عن تاريخهم العظيم في فلسطين، وهم الذين قدَّموا عشرات آلاف الشهداء من أجلها...!
ويلكم أيها العرب! ماذا دهاكم وماذا حلَّ بكم، أيُ لعنةٍ أصابتكم، وأي فجورٍ قد حلَّ بكم، وأي عقدةٍ أصابت لسانكم فبدَّلت كلامكم، وحرَّفت فِعلكم، وشوَّهت صفحتكم، أين النخوة وأين الكرامة، أين النُّبل وأين الشهامة، أين الرجولة والفُتوّة، هل ماتت فيكم المروءة، وانعدمت الأخلاق، أم بِتم بلا شرفٍ ولا غِيرة، أم لم تعودوا عربًا، ولم يعد الدم الذي يجري في عروقكم دمٌ عربيٌ، أتراه أصبح ملوثًا من غيرنا، مخلوطًا بدم سوانا، أم أنه لم يكن في يومٍ عربيًا حتى نستصرخه اليوم، ونأمل منه أن يثور أو يغضب...؟!
أيها العرب الأقحاح، أيها المضريون والعدنانيون، أيها القيسيون واليمانيون، أيها البرابرة والكرد، أيها الفراعنة والبدو، أيها الحجازيون والنجديون، يا أصحاب النفط والمال، يا سكان الرمال وحملة العقال، يا راكبي العير والحمير، يا أهل الضاد ماذا تفعلون وفلسطين تُنتهَك، وشعبها يُقتَل، وأهلها يُقصَفون، تُدكُّ بيوتهم، وتُدمَّر مساكنهم، وتُقتَّل نساؤهم، ويُغتال أطفالهم، ويُعتدى فيها على الحجر فيُدمَّر، والشجر فيُخلَع، والدواب فتُقتَل، والإنسان ليموت أو يرحل، أو ليرفع الراية ويُسلِّم..!
أيها العرب ألا تثورون على الخزي، ألا تنتفضون على الذل، ألا تنفضون الهوان، ألا تقاومون الاستعباد، ألا ترفضون التبعية والاسترقاق، ألا تنتصِرون لأنفسكم، وتهبُّون لنجدة بعضكم، ومساندة إخوانكم، أم أنكم تنتظرون دوركم، وتترقبون مصيركم، وتعرفون أن دوركم قادم، وخاتمتكم معروفة، وأن حز رؤوسكم واقع، أم أنكم مخصيون لا رجولة فيكم، سراويلكم فساتين، وشعركم معقوصٌ كالجدائل، وأشكالكم خنافس، وأصواتكم كما العذارى خافت، فبتم أذلاء لا عِزَّة عندكم، ضعفاء لا حول لكم ولا قوة...؟!
ماذا دهاكم أيها العرب، ويلٌ لكم ولصمتكم العاجز، وتآمركم المعيب، ودوركم المريب، ووجهكم الأسود العاري، وفعلكم المخزي المهين، ءأنتم شركاء في قتلنا، أم أنكم أطرافٌ مع العدو في استهدافنا، أم أنتم الذين تمولون العدو وتتوسلون إليه أن يقتلنا، وأن يُثخِن سيفه في رقابنا، وأن يُمعِن في قتل رجالنا وأطفالنا، وأن يُدمِّر البيوت فوق رؤوسنا، ويهدِم ما عمَّرناه فيما مضى من عمرنا، لئلا يكون بينكم رجلٌ يفضحكم، ولا طفلٌ ذكر يكشف عورتكم، ولا امرأة تُنجِب الرجال وتحمل الوتد وتدق به رؤوسكم، وتطحن به عظامكم، وتضع على وجوه من بقي منكم خمارها، وتُسدِل عليكم سترها، وتُقسِم بالله أن تحمي شرفكم المُلطَّخ بالعار، لئلا يقول الناس بعدكم قد مات العرب...؟!
أما كبيرة العرب فجُرمها كبير، وخيانتها عظيمة، وفعلها منكرٌ قبيح، وصمتها فاحش، وترقبها مريب، وانتظارها مخزي، لا نقبل به ولا نرضى عنه، فهي ليست صامتة ولا ساكتة، إنها مؤيدةٌ ومشجعة، وراضية وسعيدة، وكان الذين يُقتلون على أرض فلسطين ليسوا عربًا ولا مسلمين، وكأنهم ليسوا أشقاءً ولا فلسطينيين، إنهم يخونون شهداءهم الذين سقطوا على أرض فلسطين، وأولئك الذين دُفِنوا في صحراء سيناء، إنهم يبيعون رخيصًا أرواح أسراهم الذين دفنهم ذات العدو أحياءً في التراب، ويتخلون عن تاريخهم العظيم في فلسطين، وهم الذين قدَّموا عشرات آلاف الشهداء من أجلها...!
أيتها الشعوب العربية لا تسكتوا على أنظمتكم، ولا تستنيخوا لهم، ولا ترضوا حياة الذل التي أرادوها لكم، ولا تقبلوا بالاستكانة التي ألِفوها، والطاعة التي اعتادوها، والخيانة التي استساغوها، ولا تسمحوا لهم بأن يكونوا شركاء للعدو في الجريمة، وأعوانًا له في الاعتداء، ولا تقبلوا أن يُقاتِل العدو بهم، ولا أن يُزوِّد طائراته ودباباته بنفط بلادكم، إذ ما كان للعدو أن يمضي في جريمته لولا مباركة العرب، وتأييد القادة والحكام، الرؤساء والملوك والأمراء، فهم الذين أيدوا وباركوا، ودعوا وشجعوا.
ويل للعرب من يومٍ قد اقترب، ومن خاتمةٍ قد كُتِبَت، ومن مصيرٍ أسودٍ كوجوههم، وحطامٍ كأعمالهم، مبعثرٍ كجهودهم، لا يجمعه ثوب، ولا تستره عباءة، ولا يستنقذه من حمأة الذل صرخاتهم، ولا ينتشله من قعر المهانة استجداءاتهم، ولا تقوى أموالهم على نجدة نسائهم، وحماية أطفالهم، ويلهم من يومٍ لن ينفعهم فيه عدوهم، ولن ينهض لنجدتهم حلفاؤهم، ولن يغضب لما سيُصيبهم من كان يومًا صديقهم، إنه مآل من استمرأ الذل، ومصير من رضي بالمهانة، وخاتمة من قنع بالعيش في الركن وسكن في الزاوية، ويلكم أيها القادة والحكام، ألا إن زمانكم قد قارب على الانتهاء، وأعماركم قد دنت من آخرتها، فارتقبوا إنا مرتقبون...!
إنها فلسطين التي تستصرخ وتنادي، فلا مَن يسمع النداء، وكأنها تصرخ في وادٍ فلا يرتد لها إلا الصدى، ولا يستجيب لها من أنظمة العرب أحد، إذ لا يستجيب الموتى، ولا يسمع الصم الدعاء...!
[و]لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًا *** ولكن لا حياة لمن تنادي[1]
فقد ماتت في الأنظمة العربية قبل الحياة الرجولة والشهامة، فماذا بقي من أشكالهم إلا خيالات مآتةٍ تشبه الرجال وهي ليست منهم، يظنها الطير رجلًا، ولكنه إن اقترب منها فإنه يحط عليها، ويأكل من رأسها ويشبع...!
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- (من أبياتٍ لابن الحكم عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص الأموي [المتوفى سنة 65هـ] يهجو بها الأنصار؛ المصدر كتاب: الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار).
- التصنيف: