رتِّب حياتك

منذ 2014-08-12

"حياتك أسيرة أولوياتك".. تلك قناعة ينبغي أن لا تغيب عنَّا طرفة عين، فترتيب الأولويات يعني توفير الوقت والجهد وإحراز ثمرة العمر التي يتمناها كل النجباء، وإن كانت مسألة الترتيب تمثل إشكالية لدى البعض إلا أن الإشكالية الكبرى في كيفية الترتيب، وبمنعى أوضح أن نرى المهم مهمًا فنُقدِّمه والهامشي هامشيًا فنؤخره، لأن البعض قد يلتبِس عليه الأمر ويظن أن المقصود مجرد الترتيب البحت، وقد يجعل الثانوي أساسيًا والأساسي ثانويًا وهو يحسب أنه قد أحسن صنعًا.

بسم الله الرحمن الرحيم

وقف الأستاذ أمام تلاميذه ومعه بعض الوسائل التعليمية، ودون أن يتكلَّم بدأ الدرس بتناول عبوةً زجاجية كبيرة فارغة، وأخذ يملأها بكُرات الجولف، ثم سأل التلاميذ: أترون؟ إنها ممتلئة، أليست كذلك؟ فأجابوا: نعم، هي كذلك.

تناول وعاءً صغيرًا من الحصى، وسكبه داخل الزجاجة ثم رجها بشدة حتى تخلّل الحصى كُرات الجولف وملأ الفراغات بينها ثم سألهم الأستاذ نفس السؤال؟ فكانت نفس الإجابة من التلاميذ.. تناول كيسًا من الرمل وسكبه فوق محتويات الزجاجة فملأ الرمل باقي الفراغات فيها، فكرَّر السؤال وبالتالي تكرَّرت نفس الإجابة.. سكب الأستاذ بعدها فنجانًا من القهوة داخل الزجاجة فضحك التلاميذ، وبعد أن هدأ الضحك شرع المعلم في الحديث قائلًا:

الآن أريدكم أن تعرفوا إن هذه الزجاجة كمثل حياة كل واحد منكم، وكُرات الجولف تُمثِّل الأشياء الضرورية في حياتك: (دينك، قيمك، أخلاقك، عائلتك، أطفالك، صحتك، أصدقائك).. فلو فقدت كل شيء وبقيت هذه الأشياء فستبقى حياتك مستقرة ثابتة.

أما الحصى فيُمثِّل الأشياء المهمة في حياتك: وظيفتك، بيتك، سيارتك.. والرمل يُمثِّل الأمور البسيطة والهامشية: (الوزن، الرشاقة، ديكورات المنزل، وسائل الترفيه)..

فلو كنت وضعت الرمل في الزجاجة أولًا فلن يتبقى مكان للحصى أو لكُرات الجولف، وهذا يسري على حياتك الواقعية كلها، لو صرفت كل وقتك وجهدك في هوامش الأمور فلن يتبقى حيِّز للمهام الجسيمة التي تهمك.. حدَّد أولوياتك فالبقية مجرد رمل.

وحين انتهى الأستاذ من حديثه الرائع رفع أحد التلاميذ يده متسائلًا: إنك لم تُبيِّن لنا ما تُمثِّله القهوة؟ ابتسم الأستاذ وقال: أنا سعيد جدًا بسؤالك.. أضفت القهوة فقط لأوضح لكم أنه مهما كانت حياتك مليئة فسيبقى هناك دائمًا مساحه لفنجان من القهوة!

"حياتك أسيرة أولوياتك".. تلك قناعة ينبغي أن لا تغيب عنَّا طرفة عين، فترتيب الأولويات يعني توفير الوقت والجهد وإحراز ثمرة العمر التي يتمناها كل النجباء، وإن كانت مسألة الترتيب تمثل إشكالية لدى البعض إلا أن الإشكالية الكبرى في كيفية الترتيب، وبمنعى أوضح أن نرى المهم مهمًا فنُقدِّمه والهامشي هامشيًا فنؤخره، لأن البعض قد يلتبِس عليه الأمر ويظن أن المقصود مجرد الترتيب البحت، وقد يجعل الثانوي أساسيًا والأساسي ثانويًا وهو يحسب أنه قد أحسن صنعًا.

البعض الآخر قد يُرتِّبون أولوياتهم وِفق رغباتهم، متجاوزين ما يحتاج إلى جهدٍ جهيد أو هِمّة كالحديد، وهم في ذلك يؤثرون الدعة ويستمرئون الاسترخاء ويشفعون لأنفسهم بأن هذا جهدهم المتاح، متناسين أن الحياة الكريمة دونها مفاوز وقفار، ومن طلب عظيمًا خاطر بعظيمته.

لذلك يقول علماء إدارة الذات: "عليك التركيز أولًا في الصورة الأكبر لحياتك.. فكِّر في المثلث بوضعه المقلوب، فكل ما يُمثِّله أعلى قائمتك يجب أن يتضمَّن المشروعات والأفكار الكبيرة التي تُفكِّر فيها، وأثناء قيامك بأعمالك ضع مشروعاتك الصغيرة وأفكارك حيِّز التنفيذ، وباحتفاظك بترتيب أولوياتك تأكد من تحقيق أهم الأشياء التي تريد القيام بها".

وعمومًا.. لا ينبغي فهم قضية ترتيب الأولويات على أنها تخلّي عن الأمور الصغيرة! أو تخطّي الأشياء غير المهمة! إطلاقًا، فلحظات الاسترخاء أو الجلسات الاجتماعية مع الأحباب مُهمة في تجديد عزيمتنا واستعادة نشاطنا، وليس من الحكمة اعتبارها مضيعة للوقت وتفريغًا للجهد، لأننا منطقيًا لا يمكن أن نعمل بدأب طيلة العمر، والحكمة تقتضي وضع الأمور في نصابها..

وإجمالًا: إذا أردنا الاحتفاظ بكل شيء فسوف تعاني من الحمل الزائد، فمن الأفضل أن نختار التخلّي بوعي عن الأمور التي لا تخدمنا كثيرًا ونحتفظ بتلك المفيدة.

هناك فرق:

هناك خلط شائع بين الأولويات والأهداف، فالأولويات هي الملهم والأساس التي تُحدِّد أهدافك من خلاله، فهي مصدر كل الأهداف، والإطار العام الذي يشملها ويحتويها. أما الهدف فهو مهمة أو إنجاز تريد تحقيقه.

فالرغد المادي والأسرة المستقرة والصحة الجيدة.. كلها أولويات ينضم تحتها العديد من الأهداف مثل زيادة الدخل الشهري والإدخار العام، واختيار الزوجة المناسبة كشريكة العمر، والمدرسة النموذجية للأولاد، والالتزام بالإرشادات الغذائية والفحوصات الدورية من أجل الحفاظ على الصحة.. إذن "كل أولوية هدف، وليس كل هدف أولوية".

من الأهم نبدأ:

أهم قضية ينبغي أن نوليها جُل اهتماماتنا هي قناعاتنا الذاتية وثوابتنا الفكرية وأسّسنا العقائدية التي تُمثِّل خميرة خصبة لإنجاح أي عملٍ يأتي بعد ذلك، ذلك لأن المرء يسير دومًا وِفق تصوراته، وهي التي تُحدِّد فيما بعد رغباته ومنطلقاته وخارطة طريقه.

فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كُنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلَّم القرآن ثم تعلَّمنا القرآن فازددنا به إيمانًا".

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "تعلَّمنا الإيمان ثم تعلَّمنا القرآن فازددنا إيمانًا، وأنتم تتعلَّمون القرآن ثم تتعلَّمون الإيمان".

وعنه قال: "لقد عِشنا برهةً من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلَّم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالًا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدرى ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه".

وفي الحديث القدسي: «وما تَقَرَّبَ إليَّ عَبْدِي بشَيْءٍ أحَبّ إليَّ ممَّا افْتَرَضْتُ علَيْه، وما يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّه» (رواه البُخاري).

وقال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلاَّ الله، وأدْناها إماطة الأذى عن الطَّريق» (رواه مسلم).

وقال الإمام أبو عبيدة: "مَن شغل نفسَه بغير المهمِّ أضرَّ بالأهمِّ".

آفاتٌ خبيثة:

(التسويف، التيبس) من أشهر آفات فقه الأولويات التي أنطنا أنفسنا بها، فالتسويف يؤجل المهام حتى تضيع فرصتها وبريقها، ويكسب النفس نوعًا من التبلُّد من الصعب التخلُّص منه، أما التيبس فهو فقد المرونة المطلوبة في التعامل مع أولوياتك، فالمرء بحاجة دومًا إلى المراجعة بعد كل مرحلةٍ يمرّ بها، يقف فيها لبرهة يرصد عندها الإنجازات والإخفاقات، ومن ثم يتخذ القرار المناسب سواءً بالتقدُّم أو التقهقر أو التعديل في المواقف والأساليب.. التيبس هو نوعًا من الجمود الفكري والعناد السلوكي الذي يبدو في ظاهرة رغبة جامحة على الصمود والإصرار لكنه في واقع الأمر عناد لن يجلب لنا إلا الحسرة والندامة.

خير ثمرة:

إن ترتيب أولوياتك تجعل منك إنسانًا ذو صحةً نفسيةً وجسديةً هائلة، وضمان دوام النجاح والفاعلية والارتقاء، وتُبعِد عنك استنزافك الخاطئ لوقتك ونفسك وجسدك، وبالتالي تجعل حياتك أكثر هدوءًا واستقرارًا، وتشع منها رائحة الرضى الذاتي والسعادة، وتُبعِدك عن ضغوط المسئوليات والهمّ والغمّ والكآبة التي باتت هذه الأيام صفة موصوفة لدى شريحة كبيرة مِنَّا.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 4
  • 1
  • 8,392

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً