المسلم في بلاد الغربة - (7) الولاء والبراء
أعز وأغلى شيء للمسلم في هذه الدنيا دينه، وأثمن ما يحققه من هذا الدين عقيدته المتمثلة بتوحيد الله عز وجل، وأظهر عقيدة ينبغي أن تراعى في مواطن الفتن، وكثرة الابتلاءات والاختبارات والمحن، وأحرج الظروف وأشدها وطأة على المسلم؛ هي عقيدة (الولاء والبراء) التي من أجل ترسيخها وتحقيقها بين العباد وإقامة الدين القويم، بعث الله الأنبياء والمرسلين.
الحمد لله الذي أعزنا بهذا الدين، وأكرمنا بعقيدة الموحدين، وهدانا سبيل المؤمنين، وجنبنا سُبُل المجرمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، قائد الغر المحجلين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
أعز وأغلى شيء للمسلم في هذه الدنيا دينه، وأثمن ما يحققه من هذا الدين عقيدته المتمثلة بتوحيد الله عز وجل، وأظهر عقيدة ينبغي أن تراعى في مواطن الفتن، وكثرة الابتلاءات والاختبارات والمحن، وأحرج الظروف وأشدها وطأة على المسلم؛ هي عقيدة (الولاء والبراء) التي من أجل ترسيخها وتحقيقها بين العباد وإقامة الدين القويم، بعث الله الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، ولا تتحقق عبادة الله على الوجه الصحيح، حتى تكون محبة حقيقية لله ولكل ما يحبه الله، ولا يتحقق اجتناب الطاغوت بشكل فعلي وحقيقي، حتى نتبرأ من كل ما يبغضه الله تعالى، قال سبحانه: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين (تفسير البغوي)، قال ابن كثير: "فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم. ولن تتحقق كلمة التوحيد في الأرض إلا بتحقيق الولاء لمن يستحق الولاء، والبراء ممن يستحق البراء" (الولاء والبراء، محمد سعيد القحطاني ص8).
الولاء والبراء نوعان من أنواع العبادة، وهما بمعنى الحب والبغض، والولاء الذي هو الحب والنصر يكون لله ولرسوله ولدينه ولعباد الله الصالحين، والبراء الذي هو البغض يكون لكل عدو لله ولرسوله ولعباد الله الصالحين، ولا يتم إيمان العبد إلا بالولاء والبراء؛ قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف، [1/166]).
لذلك أجر المتمسك بدينه الثابت على عقيدته الموحد لربه، الموالي لأولياءه والمعادي لأعداءه؛ يتضاعف في زمن الغربة والمحنة، فعن عتبة بن غزوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « »، قالوا: "يا نبي الله أو منهم؟" قال: « » (السلسلة الصحيحة رقم [494])، وفي رواية عبد الله بن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: « » (صحيح الجامع رقم [2234])، وقال عليه الصلاة والسلام: « » (صحيح الجامع برقم [8002]).
لما كثر اختلاط واحتكاك بل معيشة عدد من المسلمين في العقود المنصرمة، في بلاد الغربة ومجتمعات الكفر والإلحاد، ونتيجة لتنوع وتعدد وتلون المعتقدات والأعراق والأجناس والقوميات، انعكس ذلك بشكل سلبي كنتيجة طبيعية لهذا التواجد، لاسيما في قضايا العقيدة الهامة متمثلة بأصل عظيم وركيزة قوية، هي عقيدة الولاء والبراء، حيث بدأت تظهر أفكار وآراء ومفاهيم وتصورات وتصريحات وسلوكيات وأخلاق، خطيرة جدًا تخالف وتناقض أساسيات هذا الدين، قد تقود أصحابها لخطر عظيم ونهاية وخيمة عياذًا بالله.
وانطلاقًا من واجب النصح بالدين، لأنفسنا وأحبابنا وخواصنا وأهلنا بل عامة المسلمين؛ كان لابد من بيان حقيقة هذه القضية التي قد تغيب عن أذهان العديد من المسلمين، مذكرًا إياهم بأهميتها وركائزها وفضلها وخطورة نقضها أو التخلي عنها، وقد سمعت أعاجيب وشاهدت طامات في تلك المجتمعات نسأل الله السلامة.
فالقضية إيمان وكفر، حق وباطل، توحيد وشرك، استقامة وانحراف، هداية وضلال، فلابد من ولاء حقيقي: لله ورسوله ودينه وشريعته وأحكامه وأتباعه وعامة المسلمين واعتزاز وافتخار ورضا ومحبة لكل ذلك، وبراء فعلي عملي من: أعداء الله ورسوله والدين من الكفار والملحدين والوثنيين ومن هم على شاكلتهم مهما تعددت الأسماء والأشكال والألوان، على أن يظهر ذلك على اعتقاد وسلوك وسمت ومنهاج وكلام وحديث وتعامل المسلم، أينما تواجد وبأي ظرف يكون، وبخلافه تكون دعوى فارغة المحتوى مجانبة للحقيقة بعيدة عن الواقع!
الولاء والبراء أصلان عظيمان من أصول الإسلام، ومظهران بارزان من عقيدة أهل السنة والجماعة تتميز به عن غيرها. وذلك نابع من كونهما من أهم لوازم كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) (الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك، ص11 من كلام المقدم والمراجع).
وبسبب الاحتكاك اليومي للمسلمين في تلك المجتمعات، في المدارس ودوائر الهجرة ومراكز الرعاية الاجتماعية، والمرافق الأخرى، وأن غالبية المسلمين هناك، يتقاضون معاشهم من تلك الدولة غير المسلمة؛ انعكس ذلك على هذه القضية بشكل سلبي في الغالب، لأن الكثير يعتقدون بأنهم لن يحظوا بامتيازات كالآخرين، إلا بتقديم التنازلات لا سيما في عقيدة الولاء والبراء!!
حتى توسع باب الضرورة، وأصبح المسلم يداهن ويجامل بل يثني على الباطل ويصححه، زاعماً أنها ضرورة المعيشة في تلك المجتمعات، بل وصل بالبعض باحتقار الجاليات الإسلامية والتودد ولين الخطاب وتبادل الزيارات والتهنئة بالأعياد مع غير المسلمين، ناهيك عن زيارات الكنائس والتذلل لهم وطلب المعونات التي قد لا تكون ضرورية منها، حتى وصل حال العديد لتذويب جميع الفوارق بدعوى أن هؤلاء قدموا لنا معونات وأنقذونا مما كنا فيه من المعاناة!!
ولا أريد الإطالة والإكثار من الأمثلة، فليس من رأى كمن سمع، وهذه نماذج على سبيل التمثيل لا الاستفاضة، عسى أن ينتبه المسلم ويراجع سلوكياته وتصرفاته وتعاملاته في تلك المجتمعات، لأن القضية خطيرة جدًا ولا ينبغي المجازفة بها.
ولأن موالاة من حادّ الله ومداراته تدل على أن ما في قلب الإنسان من الإيمان بالله ورسوله ضعيف؛ لأنه ليس من العقل أن يحب الإنسان شيئاً هو عدو لمحبوبه، وموالاة الكفار تكون بمناصرتهم ومعاونتهم على ما هم عليه من الكفر والضلال، وموادتهم تكون بفعل الأسباب التي تكون بها مودتهم فتجده يوادهم أي يطلب ودهم بكل طريق، وهذا لا شك ينافي الإيمان كله أو كماله، فالواجب على المؤمن معاداة مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قريب إليه، وبغضه والبعد عنه ولكن هذا لا يمنع نصيحته ودعوته للحق (شرح ثلاثة الأصول، [1/34]، ابن عثيمين).
والولاية هي النصرة والمحبة والإكرام، والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهرًا وباطنًا، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، فموالاة الكفار تعني التقرب إليهم وإظهار الود لهم، بالأقوال والأفعال والنوايا (الولاء والبراء في الإسلام، ص89-90، القحطاني).
والبراء هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار،(الولاء والبراء في الإسلام، ص90، القحطاني) قال شيخ الإسلام: "والولاية: ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد... فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديًا له، كما قال تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة من الآية:1] فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، فلهذا قال: « » الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص5).
فالولاء والبراء تابع للحب والبغض، والحب والبغض هو الأصل، وأصل الإيمان أن تحب في الله أنبياءه وأتباعهم، وأن تبغض في الله أعداءه وأعداء رسله (الفتاوى السعدية، ص98، ط. المعارف).
لقد حثنا الله سبحانه وتعالى على التأسي بإبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين، لأنهم نجحوا في أصعب اختبار في قضية الولاء والبراء، حيث ضربوا أروع الأمثلة في ذلك، فقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [المجادلة: 4]، ليعلم أن الحب في الله تعالى والبغض فيه سبحانه من أوثق عرى الإيمان فلا ينبغي أن يغفل عنهما (تفسير الآلوسي).
كما أن الله سبحانه وتعالى أثنى على من حقق مبدأ الولاء والبراء فقال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22].
وقد بين عليه الصلاة والسلام هذا المبدأ وحث عليه، بل جعله ركيزة ودعامة أساسية من دعائم وركائز الإيمان، وأنه من أفضل الأعمال إلى الله؛ حيث قال: « » السلسلة الصحيحة، رقم [1728]).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً" (الولاء والبراء في الإسلام، ص91).
فالولاء والبراء معتقد قلبي، أي من أعمال القلوب، التي لابد من ظهور أثرها على الجوارح، كباقي العقائد، التي لا يصح تصور استقرارها في القلب دون أن تظهر على جوارح مُعتقِدِها. وعلى قدر قوة استقرارها في القلب وثبوتها تزداد دلائل ذلك في أفعال العبد الظاهرة، وعلى قدر ضعف استقرارها تنقص دلائلها في أفعال العبد الظاهرة (الولاء والبراء بين الغلو والجفاء في ضوء الكتاب والسنة، ص13).
الحبّ في الله والبغضُ في الله لهُ لوازمُ ومقتضيات، فلازمُ الحبِّ في الله: الولاءُ، ولازمُ البغضِ في الله البراء، فالحبُّ والبغضُ أمرٌ باطنٌ في القلب، والولاءُ والبراء أمرٌ ظاهرٌ، كالنصحِ للمسلمين ونصرتهم والذب عنهم ومواساتهم، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وترك التشبه بالكفار، ومخالفتهم، وعدم الركونِ، والثقة بهم، فإذا انتفى اللازم -الولاء والبراء- انتفى الملزوم -الحبُ والبغض- هذا التلازمُ بين الحب والبغض، وبين الولاءِ والبراءِ، يتسقُ مع التلازمِ بين الظاهرِ والباطنِ في الإيمان (من أرشيف ملتقى أهل الحديث، قسم الجوامع والمجلات ونحوها [67/481]).
والولاء والبراء منزلته عظيمة في ديننا الحنيف، نلخصها فيما يلي (ينظر كتاب: المفيد في مهمات التوحيد ص203-204 بتصرف):
1- أنها خلاصة الكلمة الطيبة التي يرددها المسلم يومياً: "لا إله إلا الله" لأن مضمونها البراء من كل ما يعبد من دون الله، وهي بذلك أهدرت كل وشيجة إلا وشيجة العقيدة.
2- الحب في الله والبغض في الله من شروط صحة "لا إله إلا الله".
3- عقيدة الولاء والبراء هي أوثق عرى الإيمان.
4- إن تحقيق عقيدة الولاء والبراء من مكملات الإيمان.
5- إن تحقيق عقيدة الولاء والبراء سبب لنيل ولاية الله.
6- تحقيق هذه العقيدة سبب لتذوق حلاوة الإيمان.
7- تحقيق هذه العقيدة سبب لنيل الأجر العظيم لأن المتحابين في الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
والناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام (الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، ص289-290، صالح الفوزان):
القسم الأول: من يُحب محبة خالصة لا معاداة معها، وهم المؤمنون الخلص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه تجب محبته أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين وأهل بيته الطيبين وصحابته الكرام، خصوصًا الخلفاء الراشدين وبقية العشرة والمهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم التابعون والقرون المفضلة وسلف هذه الأمة وأئمتها، كالأئمة الأربعة.
القسم الثاني: من يُبغض ويعادى بغضا ومعاداة خالصين لا محبة ولا موالاة معهما، وهم الكفار الخلص من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم.
القسم الثالث: من يُحب من وجه ويُبغض من وجه، فيجتمع فيه المحبة والعداوة وهم عصاة المؤمنين، يحبون لما فيهم من الإيمان، ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك، ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم.
بعد معرفة أهمية وعِظم وخطورة، ومفهوم وحقيقة ودلالة، هذا الأصل العظيم، ينبغي لكل مسلم عمومًا، ومن هم في بلاد الغربة على وجه خاص، التنبه والاحتياط لدينهم وعقيدتهم، وعدم الانزلاق والوقوع في شباك الملذات، ونزوات واستدراج الشيطان فإنه: {يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169]، ولا تلتفتوا لرضا الناس والمجتمع ولا تخشوهم: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13]، ويقول عليه الصلاة والسلام: « » (السلسلة الصحيحة برقم [2311]).
ولنتذكر جميعًا موقف الصحابي الجليل جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه، ومن معه من مهاجرة الحبشة، عندما أرسلت قريش من يحرض عليهم ويقوم بتأليب النجاشي، من خلال إحراجهم بالحديث عن خلق المسيح وطبيعته، فكان موقفًا حرجًا للصحابة جميعًا، إذ لا توجد أرض تؤويهم وهم مستضعفون في حينها، ولا يمكنهم العودة إلى مكة، موقف عصيب ولحظات صعبة، لكن لم يداهنوا أو يجاملوا أو يتملقوا على حساب دينهم وعقيدتهم وثوابتهم، فما كان من جعفر رضي الله عنه إلا أن تحدث عن المسيح عليه السلام، كما أخبرنا القرآن فشرح الله صدر النجاشي لذلك وعاملهم بالحسنى، وخابت مؤامرة الكفار!!
فمن كان مع الله كان الله معه، ومن اختار طريق المداهنة والتملق والتنازل وحياة زائلة، ودريهمات ومتاع الدنيا، خاب وخسر مهما حاز واكتسب بحسب مقاييسه، فإن أعظم ثمن يدفعه المسلم في تلك المجتمعات هو دينه، وأعظم ما في الدين العقيدة النقية الصافية، وأبرز ما يمكن التهاون فيه والتنازل عنه الولاء والبراء.
قد يقول قائل: في الوقت الذي تخلى عنا القريب والبعيد ونحن في أصعب الظروف، من دول وحكومات عربية وإسلامية، ومؤسسات وغيرها، استقبلتنا تلك الدول وآوتنا وسهلت لنا حياة آمنة كريمة فيها حقوق افتقدناها في بلداننا؟ فكيف نبغضهم ولا نجاملهم ولا نشكرهم على ما قدموا؟ وكيف لنا تطبيق هذه العقيدة والأدلة صريحة في البراء منهم ومن دينهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم الباطلة المنحرفة؟!
هذه شبهة قد تعتري الكثير من المسلمين، فلابد من حل الإشكال وتوضيح الحق، بعيدًا عن العاطفة والاندفاع والحسابات الآنية الشخصية، فنقول وبالله نستعين إن ما قدمته تلك الدول من احتضان وإيواء ورعاية وأمن وأمان، يشكرون عليه لأنه كما قال عليه الصلاة والسلام: « » (صحيح الجامع برقم [6601])، لكن لا ينبغي أن ينقلب هذا الشكر والتقدير والامتنان، إلى تنازل ومجاملة ومبالغة في الثناء وتزيين للكفر والإلحاد المتحقق فيهم!!
والفرق بين المداهنة والمداراة وأثرهما على الولاء والبراء: المداهنة: هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومصانعة الكفار والعصاة من أجل الدنيا والتنازل عما يجب على المسلم من الغيرة على الدين. ومثاله الاستئناس بأهل المعاصي والكفار ومعاشرتهم وهم على معاصيهم أو كفرهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة عليه (أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، ص266).
فالشكر شيء وحصول خلل جراء ذلك بعقيدة الولاء والبراء؛ من خلال مشاركتهم أعيادهم، ومدح ديانتهم والتنازل عن الكثير من ثوابت الإسلام، ومجاملتهم على حساب الشرع والأخلاق، ومحبتهم ومودتهم القلبية، التي تؤدي إلى حب ما هم عليه من معتقد وسلوك شيئاً فشيئًا!! فهذا كله مخالف لدين الله، فربنا عز وجل يقول: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
"حادّ" حارب، أو خالف، أو عادى (تفسير العز بن عبد السلام)، فعدم الوجدان على حقيقته قال في كشف الاسرار: "أخبر أن الايمان يفسد بموادة الكفار وكذا بموادة من في حكمهم... وأما المعاملة للمبايعة العادية او للمجاورة او للمرافقة بحيث لا تضر بالدين فليست بمحرمة بل قد تكون مستحبة في مواضعها" (تفسير روح البيان، إسماعيل الخلوتي)، أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمنًا بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه... وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله، محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى، لا تفيد شيئًا ولا يصدق صاحبها (تفسير السعدي).
كما أننا لابد من التفريق بين الإحسان إليهم، وحسن جوارهم وصلتهم ومعاشرتهم والبر والعدل والإنصاف معهم، وبين مودتهم ومحبتهم والركون إليهم والأنس بهم والألفة معهم، قال ابن حجر: "البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]، فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل" (التقارب والتعايش مع غير المسلمين، ص51).
وكلام الإمام ابن حجر كلام جيد جامع؛ وذلك لأننا نرى اليوم الآثار المدمرة للحب الجارف والود العميق الذي يكنه بعض من قومنا للكفار، وقد جر ذلك علينا ويلات عديدة ما زلنا نعاني منها كل حين، وذلك أن هذه المحبة تقود المسلم قودًا إلى تعظيمهم وتقليدهم فيما هم عليه سائر شؤونهم وأحوالهم الحسن منها والسيء، وهنالك أمثلة كثيرة على الوبال الذي جره الخلط في هذه المفاهيم على المسلمين ( التقارب والتعايش مع غير المسلمين، ص51-52).
نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يعيذنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أيمن الشعبان
داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.
- التصنيف: