مهلاً يا صيّاد العيوب
للمسلم على المسلم أن يستر عورته، ويغفر زلته، ويرحم عبرته ويُقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويُديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويُجيب دعوته، ويقبل هديته، ويُكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويُحسن نصرته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته ويُشمت عطسته، ويرد ضالته، ويُواليه ولا يُعاديه، وينصره على ظالمه، ويكفَّه عن ظلم غيره، ولا يُسلمه، ولا يخذله، ويحب له ما يحب لنفسه. اللهم أستر عورَاتنا وعيوبنا وزلّاتنا في الدنيا والآخرة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
انتشر في هذا الزمان نوع من الصيد يكاد يحترفه كثيرٌ من الناس إلا ما رحم الله، ويجتهد في صيده وهو صيد عيوب الخلائق بما سترها عليهم رب الخلائق، وقد تجد أن الأمر لم يقتصر فحسب على المختلفين أو المتخاصمين بل وأصبح في بيوتنا وعملنا ووصل الأمر إلى مسجدنا في التفتيش والتقصي عن عيوب إمامنا وشيخنا وما عن أصله وعلمه وصوته وما إلى ذلك من تتبع للعثرات والعورات جملةً وللعيوب تفصيلًا.
قال الله تعالى: {وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ . إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 14-15]، وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112].
عن أبي برزة الأسلميّ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من اتّبع عوراتهم يتّبع اللّه عورته، ومن يتّبع اللّه عورته يفضحه في بيته» [في صحيح سنن أبي داود (4083) قال الألباني: حسن صحيح].
عن معاوية رضي اللّه عنه قال: "سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «{C}{C}إنّك إن اتّبعت عورات النّاس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم{C}{C}» [صحيح سنن أبو داود (4088)]، يقول الحق عز وجل: {{C}{C}وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ{C}{C}} [الهُمَزة: 1]، وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}لمّا عُرِجَ بي مررتُ بقومٍ لهم أظفار من نُحاس يخمشون وجوههم وصدورهم. فقلتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون لحوم النّاس، ويقعون في أعراضهم{C}{C}» [رواه أحمد (3/ 224)، وأبو داود (4878)].
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب، وفي مثله جاء الحديث: «{C}{C}أقيلوا ذوي العثرات عثراتهم{C}{C}» (رواه أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها).
قال الله تعالى: {{C}{C}وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا{C}{C}} [الإسراء: 36]. وقال ابن الجوزي: "لا ينبغي له أن يسترق السمع على دار غيره يستمع صوت الأوتار، ولا يتعرض للشم ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمس ما قد ستر بثوب ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر جيرانه ليُخبر بما جرى، بل لو أخبره عدلان ابتداء أن فلانًا يشرب الخمر فله إذ ذاك أن يدخل وينكر".
قال بعض السلف في الكف عن البحث عن عيوب الناس: "أدركنا قومًا لم تكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس فذكر الناس لهم عيوبًا؛ وأدركنا أقوامًا كانت لهم عيوب فكفوا عن عيوب الناس فنُسيَت عيوبهم". وشاهد هذا قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي بُردة رضي الله عنه مرفوعًا: «{C}يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا الناس، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» وتقدم.
وأنشد بعضهم في ذلك:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا *** فيكشف الله سترا من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا *** ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
واستغن بالله عن كل فإن به *** غنى لكل وثق بالله يكفيكا
ويقول الإمام أحمد رضي الله عنه قال أصحابنا: "ويستحب الكف عن مساوئ الناس وعيوبهم، كذا عباراتهم" [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (بتصرُّف)].
سوء الظن الآفة القاتلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]. وعن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما في قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} قال: "نهى اللّه المؤمن أن يتّبع عورات أخيه المؤمن" [الدر المنثور (7/ 567)].
وليلزم الإنسان السكوت فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته بل يتجاهل عنه ويسكت عن الرد عليه فيما يتكلم به ولا يُماريه ولا يُناقشه، وأن يسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة لم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده ولا يسأل، فربما يثقل عليه ذكره أو يحتاج إلى أن يكذب فيه، وليسكت عن أسراره التي بثها ولا يبثها إلى غيره البتة ولا إلى أخص أصدقائه، ولا يكشف شيئًا منها ولو بعد القطيعة والوحشة، فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث الباطن، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده، وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه، فإن الذي سبك من بلغك، ولا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه فإن السرور أولا به يحصل من المبلغ للمدح ثم من القائل، وإخفاء ذلك من الحسد.
وبالجملة فليسكت عن كل كلام يكرهه جملة وتفصيلًا إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ولم يجد رخصة في السكوت، فإذ ذاك لا يبالي بكراهته فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق وإن كان يظن أنها إساءة في الظاهر، أما ذكر مساوئه وعيوبه ومساوئ أهله فهو من الغيبة وذلك حرام في حق كل مسلم، ويزجرك عنه أمران:
أحدهما: أن تطالع أحوال نفسك فإن وجدت فيها شيئًا واحدًا مذمومًا فهون على نفسك ما تراه من أخيك وقدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة كما أنك عاجز عما أنت مبتلى به، ولا تستثقله بخصلة واحدة مذمومة، فأي الرجال المهذب.
والأمر الثاني: أن تعلم أنك لو طلبت منزهًا عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة ولن تجد من تصاحبه أصلًا، فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوئ، فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية والمنتهى، فالمؤمن الكريم أبدًا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير والود والاحترام، وأما المنافق اللئيم فإنه أبدًا يلاحظ المساوئ والعيوب. وقال الفضيل "الفتوة العفو عن زلات الإخوان" .
وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساوئه يجب عليك السكوت بقلبك وذلك بترك إساءة الظن، فسوء الظن غيبة بالقلب وهو منهي عنه أيضًا، وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحسّسوا ولا تجسّسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا». والتجسّس في تطلع الأخبار، والتحسّس بالمراقبة بالعين، فستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين، وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم والظّنّ، فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللّه إخوانًا» [مسلم (2563)].
"واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يُعامله به، ومنشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها الداء الدفين وهو الحقد والحسد، ومن في قلبه سخيمة على مسلم فإيمانه ضعيف، وأمر مخطر، وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله" [(موعظة المؤمنين بتصرُّف)]. "إنّ من ثمرات سوء الظّنّ التّجسّس، فالقلب عند ما يبتلى بسوء الظّنّ فإنّه لا يقتنع بهواجسه الظّنّيّة، بل يمتدّ به الظّنّ إلى طلب التّحقيق تجسّساً وتحسّساً، ولمّا كان هذا غاية من غايات ظنّ السّوء تناوله النّهي. أمّا التّجسّس بعد الظّنّ، وكلاهما يستلزم الآخر فالظّنّ عندما يحقّق لا مفرّ من التّجسّس، وكلّ تجسّس الباعث والدّاعي إليه هو الظّنّ" [منهج الدعوة الإسلامية في البناء الاجتماعي (ص 417)].
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].عن جابر بن عبد اللّه وأبي طلحة رضي اللّه عنهم قالا: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ما من أمرىء يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلّا خذله اللّه في موطن يحبّ فيه نصرته، وما من أمريء ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلّا نصره اللّه في موطن يحبّ نصرته» [أبو داود (4884) واللفظ له].
فائدة:
قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما: "خمسٌ لهنّ أحسن من الدّهم الموقفة -أي من الخيل الدهم التي أوقفت وأعدت للركوب-: لا تكلّم فيما لا يعنيك، فإنّه فضل، ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلّم فيما يعنيك حتّى تجد له موضعًا، فإنّه ربّ متكلّم في أمر يعنيه، قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تُمارِ حليمًا ولا سفيهًا فإنّ الحليم يقليك، وإنّ السّفيه يُؤذيك، واذكر أخاك إذا تغيّب عنك بما تحبّ أن يذكرك به، وأعفه عمّا تحبّ أن يعفيك منه، واعمل عمل رجلٍ يرى أنّه مُجازى بالإحسان، مأخوذ بالإجرام" [كتاب الصمت لابن أبي الدنيا].
قال ابن المبارك: "المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات". قال المهدوي في تفسيره: "لا ينبغي لأحد أن يتجسس على أحد من المسلمين، فإن اطلع منه على ريبة وجب أن يسترها ويعظه مع ذلك ويخوفه بالله". قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل".
وأنشد الإمام ابن الجوزي في المعنى:
ومن لم يغض عينه عن صديقه *** وعن بعض ما فيه يمت وهو عائب
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة *** يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
وختاماً:
يقول الله تعالى في آية عظيمة تهتز لها القلوب: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]. وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]، يقول علي رضي اللّه عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: "دائم البِشر، سهل الخُلق، لين الجانب، ليس بفظٍ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق، ولا عيّاب، ولا مزّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه (راجيه) ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المِراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذمّ أحدًا، ولا يُعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه" [أبو نعيم الأصفهاني، دلائل النبوة].
للمسلم على المسلم أن يستر عورته، ويغفر زلته، ويرحم عبرته ويُقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويُديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويُجيب دعوته، ويقبل هديته، ويُكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويُحسن نصرته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته ويُشمت عطسته، ويرد ضالته، ويُواليه ولا يُعاديه، وينصره على ظالمه، ويكفَّه عن ظلم غيره، ولا يُسلمه، ولا يخذله، ويحب له ما يحب لنفسه. اللهم أستر عورَاتنا وعيوبنا وزلّاتنا في الدنيا والآخرة.
والحمد لله ربّ العالمين.
محمد خيري الحلواني
- التصنيف:
- المصدر: