موتوا بغيظكم

منذ 2014-09-15

إن الملحمة -بعد الحجارة- ماء طهور يغسل الوجه العربي الذي شاه بغبار الخناعة والمذلة والهوان، فإلى هؤلاء مع عدوهم الذي يمجدونه ويصادقونه، وعلى إخوانهم يظاهرونه، إليهم معًا أجمعين نوجه بما قبسناه من نور الله الحكيم: {...مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ...}.

الرسالة: من حملة الأقلام منافقون، ومن أهل الصحافة مردوا على النفاق، يصفقون للباطل، ويصفرون للحق، وتغشى وجوههم سحائب سوداء انبعثت من قرارة الحقد الكامن في قلوبهم، والمستحوذ على أرواحهم بسبب ما تحقق من نصر مبين لمعنى المقاومة لدى المجاهدين البواسل في غزة.

لقد تماثلت صور الاستخزاء المهين عند هؤلاء المنافقين في مراحل الملحمة الأخيرة، وحقًا: {...فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج:46]، فعميت قلوب هذه الطائفة عن رؤية الحقيقة، فانحدروا إلى هاوية الضلال، بإحصاء ما دمر من البيوت والمنشآت، وما أزهق من أرواح الشهداء وحمّلوا المجاهدين مسئولية ذلك.

وكأن العدو الفاجر اللئيم سوف يقعد عن الفتك بالعرب أجمعين إن واتته الفرصة، أو فتح له الباب وكأنهم وأوطانهم ومواطنيهم في منأى أو في منجى من نيران ذلك العدو الذي يتربص بهم الدوائر، لينقض عليهم، فيستبيح بيضتهم ويستأصل شأفتهم ويمحو وجودهم، وكأن هذه القلوب العُمي لا تبصر تنامي قوة هذا العدو وتحولاتها، وتغيرات أهدافها وتنوع غاياتها التي لا تلوح منها علامات نهاية..

لقد كان عام البداية قبل نحو سبعين سنة، أما النهاية فهي غير منظورة ولا معلومة، لأن مطامعه القريبة ومطامحه البعيدة إنما هي ابتلاع الأرض العربية كلها، وتكوين الوطن الكبير الذي يبشر به ويسعى إليه بالشعار المذاع والهدف المعلن، من النيل إلى الفرات، وجاءت ملحمة غزة لتملأ طريق العدو بالأشواك، وتغرس فيه مزيدًا من العوائق، وعديدًا من العقبات، فتبددت أحلامه وتراجعت أهدافه، وتناقصت غاياته وتهاوت نظريات الأمن لديه، إذ قذفت في قلوبهم الرعب، فصاروا في كل يوم يهرعون مرات كثيرة إلى مخابئهم، وعرفوا أن نيران الأبطال قد مستهم بشواظها في مواقع مؤثرة من قلب عاصمتهم.. وأن المقاومة تهدد أمنهم!

فلا الجدار العازل قد حماهم ولا القبة الحديدية قد حصنتهم، أو حٌقق ما يهفون إليه من الأمن المزعوم، إلا ما يحصله الظمآن من السراب الذي يحسبه ماء، وهكذا أبى أولئك المنافقون من حملة الأقلام وكتبة الصحافة إلا أن يقفوا من تلك الملحمة المجيدة -في مراحلها الثلاث- موقف الاستخزاء المهين، قبل بدايتها كانت سطورهم السوداء تندد بالاستعداد وتحذر من المغامرة بالاندفاع إلى حرب غير متكافئة، نتائجها المدمرة وعواقبها الوخيمة سوف تنال الأمة كلها.

وفي أثنائها كان التثبيط والتخذيل والتعويق والتيئيس، وما يستتبعه ذلك من طعن في الغايات النبيلة والأغراض المجيدة، التي حركت أبطال غزة إلى الجهاد العظيم ضد عدو فاجر خبيث لئيم، وبعدها اختار هؤلاء المنافقون أن يجنحوا إلى صرخات التهوين وصيحات التفزيع بالنظر إلى الشكل دون اعتبار المعنى، وحساب الظاهر دون تقدير الباطن.

وهكذا عكفوا على إحصاء ما خرب من البيوت، وما دمر من المؤسسات وما سقط من الشهداء، ولكنهم لم ينظروا إلى آثار ذلك كله على عدوهم، وأن أكثر المنصفين في العالم قد أثنوا على رجال غزة ومدحوا إنجازهم، يا قوم، إن نتائج الحرب لا تقاس بعدد الضحايا أو عدد الخرائب، بل ينبغي أن تقاس بما تحقق من أهدافها، فهل زاد شعور الإسرائيلي بالأمن؟ كلا بل هو الآن أكثر خوفًا مما كان.

ويا قوم! إن اليهود جبناء لا يحسنون حروب المواجهة، وإنما يعتمدون اليوم أكثر ما يعتمدون على الطائرات والصواريخ، أي القتال من بعيد، كما جاء وصفهم المحكم في الكتاب الحكيم: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14]. من أجل هذا أقاموا الجدار العازل، ومن أجله بنوا قبتهم الحديدية، إنهم بما تمكنوا منه من أضرار في غزة أشبه بمجموعة من (البلطجية) صعدوا إلى سطح بناية عالية جدًا وجعلوا يقذفون من على الأرض بحجارتهم القاتلة أو المدمرة.

لقد كان هذا العدو -يظاهره المنافقون- يعتقد أن عملية الجرف الصامد نزهة لن يتجاوز مداها بضعة أيام، ولكن أبطال غزة يبقون أمامه صامدين يلاحقونه بصواريخهم، ويرعبونه ببسالتهم التي ثبتوا عليها قريبًا من الشهرين، ليرتد على أعقابه خائبًا نادمًا محسورًا، فقد ثبت المقاومون البواسل وازدادوا صلابة وإصرارًا أبيا على دحر عدوهم، واسترداد حقوقهم.

ثم يا أيها المنافقون الشانئون النائحون، ألم يأن لكم أن تخلعوا منظار الشماتة؛ لتبصروا بعين الحقيقة فتدركوا أن ملحمة غزة -بعد حجارة الانتفاضة- خطوات راسخة على طريق الجهاد العظيم، والنضال المجيد، من أجل استرداد الكرامة العربية والعزة الإسلامية.

إن الملحمة -بعد الحجارة- ماء طهور يغسل الوجه العربي الذي شاه بغبار الخناعة والمذلة والهوان، فإلى هؤلاء مع عدوهم الذي يمجدونه ويصادقونه، وعلى إخوانهم يظاهرونه، إليهم معًا أجمعين نوجه بما قبسناه من نور الله الحكيم: {...مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ...} [آل عمران:119]، أي يهللون للباطل ويشوشون على الحق.


أ.د. فتحي جمعة
أستاذ متفرغ بدار العلوم
وخبير بمجمع اللغة العربية بالقاهرة

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 10
  • 1
  • 2,988

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً