الأحكام السلطانية للماوردي - (42) ولاية النقابة على ذوي الأنساب (1)

منذ 2014-09-20

أَنْ يُقوِّمَ ذَوِي الْهَفَوَاتِ مِنْهُمْ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ بِمَا لَا يَبْلُغُ بِهِ حَدًّا، وَلَا يَنْهَرُ بِهِ دَمًا، وَيُقِيلُ ذُو الْهَيْئَةِ مِنْهُمْ عَثْرَتَهُ، وَيَغْفِرُ بَعْدَ الْوَعْظِ زَلَّتَهُ.

الفصل الثامن: في ولاية النقابة على ذوي الأنساب (1) 

وَهَذِهِ النِّقَابَةُ[1] مَوْضُوعَةٌ عَلَى صِيَانَةِ ذَوِي الْأَنْسَابِ الشَّرِيفَةِ عَنْ وِلَايَةِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُمْ فِي النَّسَبِ، وَلَا يُسَاوِيهِمْ فِي الشَّرَفِ؛ لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ أَحْبَى وَأَمْرُهُ فِيهِمْ أَمْضَى.
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  أَنَّهُ قَالَ: «اعْرَفُوا أَنْسَابَكُمْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّهُ لَا قُرْبَ بِالرَّحِمِ إذَا قُطِعَتْ وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً، وَلَا بُعْدَ بِهَا إذَا وُصِلَتْ وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً»[2].

وَوِلَايَةُ هَذِهِ النِّقَابَةِ تَصِحُّ مِنْ إحْدَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ:

إمَّا مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ الْأُمُورِ.

وَإِمَّا مِمَّنْ فَوَّضَ الْخَلِيفَةُ إلَيْهِ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ؛ كَوَزِيرِ التَّفْوِيضِ وَأَمِيرِ الْإِقْلِيمِ.

وَإِمَّا مِنْ نَقِيبٍ عَامِّ الْوِلَايَةِ اسْتَخْلَفَ نَقِيبًا خَاصَّ الْوِلَايَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الطَّالِبِيِّينَ نَقِيبًا أَوْ عَلَى الْعَبَّاسِيِّينَ نَقِيبًا يُخَيِّرُ مِنْهُمْ أَجَلَّهُمْ بَيْتًا وَأَكْثَرَهُمْ فَضْلًا وَأَجْزَلَهُمْ رَأْيًا فَيُوَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِتَجْتَمِعَ فِيهِ شُرُوطُ الرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ، فَيُسْرِعُوا إلَى طَاعَتِهِ بِرِيَاسَتِهِ، وَتَسْتَقِيمُ أُمُورُهُمْ بِسِيَاسَتِهِ.

وَالنِّقَابَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ، فَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ بِنَظَرِهِ عَلَى مُجَرَّدِ النِّقَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ لَهَا إلَى حُكْمٍ وَإِقَامَةِ حَدٍّ، فَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ مُعْتَبَرًا فِي شُرُوطِهَا.

وَيَلْزَمُهُ فِي النِّقَابَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ حُقُوقِ النَّظَرِ اثْنَا عَشَرَ حَقًّا:

أَحَدُهَا: حِفْظُ أَنْسَابِهِمْ مَنْ دَاخِلٍ فِيهَا وَلَيْسَ مِنْهَا، أَوْ خَارِجٍ عَنْهَا وَهُوَ مِنْهَا، فَيَلْزَمُهُ حِفْظُ الْخَارِجِ مِنْهَا كَمَا يَلْزَمُهُ حِفْظُ الدَّاخِلِ فِيهَا؛ لِيَكُونَ النَّسَبُ مَحْفُوظًا عَلَى صِحَّتِهِ مَعْزُوًّا إلَى جِهَتِهِ.

وَالثَّانِي: تَمْيِيزُ بُطُونِهِمْ وَمَعْرِفَةُ أَنْسَابِهِمْ، حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ بِسَنَوَاتٍ، وَلَا يَتَدَاخَلَ نَسَبٌ فِي نَسَبٍ، وَيُثْبِتُهُمْ فِي دِيوَانِهِ عَلَى تَمْيِيزِ أَنْسَابِهِمْ.

وَالثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ مَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى فَيُثْبِتُهُ، وَمَعْرِفَةُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَيَذْكُرُهُ حَتَّى لَا يَضِيعَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ إنْ لَمْ يُثْبِتْهُ، وَلَا يَدَّعِي نَسَبَ الْمَيِّتِ غَيْرُهُ إنْ لَمْ يَذْكُرْهُ.

وَالرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَهُمْ مِنَ الْآدَابِ بِمَا يُضَاهِي شَرَفَ أَنْسَابِهِمْ وَكَرَمَ مُحْتَدِّهِمْ؛ لِتَكُونَ حِشْمَتُهُمْ فِي النُّفُوسِ مَوْفُورَةً، وَحُرْمَةُ رَسُولِ اللَّهِ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فِيهِمْ مَحْفُوظَةً.

وَالْخَامِسُ: أَنْ يُنَزِّهَهُمْ عَنِ الْمَكَاسِبِ الدَّنِيئَةِ، وَيَمْنَعَهُمْ مِنَ الْمَطَالِبِ الْخَبِيثَةِ، حَتَّى لَا يُسْتَقَلَّ مِنْهُمْ مُبْتَذَلٌ، وَلَا يُسْتَضَامَ مِنْهُمْ مُتَذَلِّلٌ.

وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُفَّهُمْ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَآثِمِ، وَيَمْنَعَهُمْ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ؛ لِيَكُونُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي نَصَرُوهُ أَغْيَرَ، وَلِلْمُنْكَرِ الَّذِي أَزَالُوهُ أَنْكَرَ، حَتَّى لَا يَنْطَلِقَ بِدَمِهِمْ لِسَانٌ، وَلَا يَشْنَأَهُمْ إنْسَانٌ.

وَالسَّابِعُ: أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى الْعَامَّةِ لِشَرَفِهِمْ، وَالتَّشَطُّطِ عَلَيْهِمْ لِنَسَبِهِمْ، فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْمَقْتِ وَالْبُغْضِ، وَيَبْعَثُهُمْ عَلَى الْمُنَاكَرَةِ وَالْبُعْدِ، وَيَنْدُبُهُمْ إلَى اسْتِعْطَافِ الْقُلُوبِ وَتَأْلِيفِ النُّفُوسِ؛ لِيَكُونَ الْمَيْلُ إلَيْهِمْ أَوْفَى وَالْقُلُوبُ لَهُمْ أَصْفَى.

وَالثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ عَوْنًا لَهُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ حَتَّى لَا يَضْعُفُوا عَنْهَا، وَعَوْنًا عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ حَتَّى لَا يُمْنَعُوا مِنْهَا؛ لِيَصِيرُوا بِالْمَعُونَةِ فَهُمْ مُنْتَصَفِينَ، وَبِالْمَعُونَةِ عَلَيْهِمْ مُنْصِفِينَ، فَإِنَّ عَدْلَ السِّيرَةِ فِيهِ إنْصَافُهُمْ وَانْتِصَافُهُمْ.

وَالتَّاسِعُ: أَنْ يَنُوبَ عَنْهُمْ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِمُ الْعَامَّةِ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمْ، حَتَّى يُقَسَّمَ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ.

وَالْعَاشِرُ: أَنْ يَمْنَعَ أَيَامَاهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ إلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ لِشَرَفِهِنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ؛ صِيَانَةً لِأَنْسَابِهِنَّ، وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِنَّ أَنْ يُزَوِّجَهُنَّ غَيْرَ الْوُلَاةِ أَوْ يُنْكِحَهُنَّ غَيْرَ الْكُفَاةِ.

وَالْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يُقوِّمَ ذَوِي الْهَفَوَاتِ مِنْهُمْ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ بِمَا لَا يَبْلُغُ بِهِ حَدًّا، وَلَا يَنْهَرُ بِهِ دَمًا، وَيُقِيلُ ذُو الْهَيْئَةِ مِنْهُمْ عَثْرَتَهُ، وَيَغْفِرُ بَعْدَ الْوَعْظِ زَلَّتَهُ.

وَالثَّانِيَ عَشَرَ: مُرَاعَاةُ وُقُوفِهِمْ بِحِفْظِ أُصُولِهَا وَتَنْمِيَةِ فُرُوعِهَا، وَإِذَا لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِ جِبَايَتُهَا رَاعَى الْجُبَاةَ لَهَا فِيمَا أَخَذُوهُ، وَرَاعَى قِسْمَتَهَا إذَا قَسَّمُوهُ، وَمَيَّزَ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا إذَا خُصَّتْ، وَرَاعَى أَوْصَافَهُمْ فِيهَا إذَا شُرِطَتْ، حَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْهُمْ مُسْتَحِقٌّ وَلَا يَدْخُلَ فِيهَا غَيْرُ مُحِقٍّ.

__________

(1) النقابة  بالكسر، الاسم، وبالفتح المصدر، مثل الولاية والولاية، وفي حديث عبادة بن الصامت  وكان من النقباء؛ جمع نقيب، وهو كالعريف على القوم، المقدَّم عليهم، الذي يتعرف أخبارهم، وينقب عن أحوالهم، أي: يفتش، وكان النبي قد جعل ليلة العقبة كل واحد من الجماعة الذين بايعوه بها نقيبًا على قومه وجماعته؛ ليأخذوا عليهم الإسلام ويعرفوهم شرائطه، وكانوا اثني عشر نقيبًا كلهم من الأنصار، وكان عبادة بن الصامت منهم. وقيل: النقيب: الرئيس الأكبر. وقولهم: في فلان مناقب جميلة، أي: أخلاق، وهو حسن النقيبة، أي: جميل الخليقة، وإنما قيل: للنقيب نقيب؛ لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. (اللسان: [1/ 770]).
(2) صحيح: (رواه الحاكم في (المستدرك [301])، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه أحد منهما، وصححه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع [1051])).

الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة
  • 1
  • 0
  • 1,456
المقال السابق
(41) ولاية المظالم (6)
المقال التالي
(43) وَأَمَّا النِّقَابَةُ الْعَامَّةُ (2)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً