الأحكام السلطانية للماوردي - (49) ولاية الصدقات (1)
وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ الْمُرْصَدَةِ لِلنَّمَاءِ، إمَّا بِأَنْفُسِهَا أَوْ بِالْعَمَلِ فِيهَا؛ طُهْرَةً لِأَهْلِهَا وَمَعُونَةً لِأَهْلِ السَّهْمَانِ.
الباب الحادى عشر: ولاية الصدقات (1)
الصَّدَقَةُ زَكَاةٌ، وَالزَّكَاةُ صَدَقَةٌ، يَفْتَرِقُ الِاسْمُ وَيَتَّفِقُ الْمُسَمَّى، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ حَقٌّ سِوَاهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «
»[1].وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ الْمُرْصَدَةِ لِلنَّمَاءِ، إمَّا بِأَنْفُسِهَا أَوْ بِالْعَمَلِ فِيهَا؛ طُهْرَةً لِأَهْلِهَا وَمَعُونَةً لِأَهْلِ السَّهْمَانِ.
وَالْأَمْوَالُ الْمُزَكَّاةُ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، فَالظَّاهِرَةُ: مَا لَا يُمْكِنُ إخْفَاؤُهُ؛ كَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَوَاشِي، وَالْبَاطِنَةُ: مَا أَمْكَنَ إخْفَاؤُهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ لِوَالِي الصَّدَقَاتِ نَظَرٌ فِي زَكَاةِ الْمَالِ الْبَاطِنِ، وَأَرْبَابُهُ أَحَقُّ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَبْذُلَهَا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ طَوْعًا فَيَقْبَلُهَا مِنْهُمْ، وَيَكُونُ فِي تَفْرِيقِهَا عَوْنًا لَهُمْ؛ وَنَظَرُهُ مُخْتَصٌّ بِزَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ يُؤْمَرُ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الْأَمْرِ إذَا كَانَ عَادِلًا فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِيجَابِ، وَلَيْسَ لَهُمْ التَّفَرُّدُ بِإِخْرَاجِهَا وَلَا تُجْزِئُهُمْ إنْ أَخْرَجُوهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ إظْهَارًا لِلطَّاعَةِ، وَإِنْ تَفَرَّدُوا بِإِخْرَاجِهَا أَجْزَأَتْهُمْ، وَلَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَيْهَا إذَا امْتَنَعُوا مِنْ دَفْعِهَا، كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَانِعِي الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ إذَا عَدَلُوا بُغَاةً، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قِتَالِهِمْ إذَا أَجَابُوا إلَى إخْرَاجِهَا بِأَنْفُسِهِمْ.
وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا مُسْلِمًا عَادِلًا عَالِمًا بِأَحْكَامِ الزَّكَاةِ إنْ كَانَ مِنْ عُمَّالِ التَّفْوِيضِ، وَإِنْ كَانَ مُنَفِّذًا قَدْ عَيَّنَهُ الْإِمَامُ عَلَى قَدْرٍ يَأْخُذُهُ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَلَّدَهَا مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَاتُ مِنْ ذِي الْقُرْبَى، وَلَكِنْ يَكُونُ رِزْقُهُ عَنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ.
وَلَهُ إذَا قُلِّدَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُقَلَّدَ أَخْذَهَا وَقَسْمَهَا، فَلَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى مَا سَنَشْرَحُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَلَّدَ أَخْذَهَا، وَيُنْهَى عَنْ قِسْمَتِهَا، فَنَظَرُهُ مَقْصُورٌ عَنِ الْأَخْذِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْقَسْمِ، وَالْمُقَلَّدُ بِهِمَا بِتَأْخِيرِ قَسْمِهَا مَأْثُومٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ تَقْلِيدَهَا لِمَنْ يَنْفَرِدُ بِتَعْجِيلِ قَسْمِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ تَقْلِيدُهُ عَلَيْهَا، فَلَا يُؤْمَرُ بِقَسْمِهَا، وَلَا يُنْهَى عَنْهُ، فَيَكُونُ بِإِطْلَاقِهِ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَخْذِهَا وَقَسْمِهَا، فَصَارَتِ الصَّدَقَاتُ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْأَخْذِ وَالْقَسْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ، وَسَنَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الِاخْتِصَارِ.
__________
(1) ضعيف: ضعَّفه الشيخ الألباني في (ضعيف الجامع [4909]).
الزكاة هي الحق الواجب في المال، متى قامت بحاجة الفقراء، وسدت خلة الموازين وكَفَت البائسين، وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف، وقامت بكفاية الجهاد والمجاهدين في سبيل الله.
فإذا لم تكف الزكاة، ولم تف بحاجة المحتاجين وجب في المال حق آخر سوى الزكاة، ويتحدَّد هذا الحق ويتقيّد بالكفاية.
قال تعالي: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
قال الإمام القرطبيّ مستدلًّا بأن المراد بـ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} حقوق أخرى غير الزكاة بدليل ذكر الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: المراد: الزكاة المفروضة، والأول أصح لما أخرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت أو سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال: « » ثم تلا هذه الآية التي في البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية.
قلت: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دلَّ على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} ، فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك يكون تكرارًا، والله أعلم.
"واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنَّه يجب صرف المال إليها، وقال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع أيضًا، وهو يقوي ما اخترناه والموفق الإله".
ويقول الإمام محمد عبده مبينًا الحكمة من فرض هذه الحقوق الأخرى غير الزكاة عند قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}: "وهذا الإيتاء غير إيتاء الزكاة الآتي، وهو ركن من أركان البر وواجب كالزكاة، وذلك حيث تعرض الحاجة إلى البذل في غير وقت أداء الزكاة، بأن يرى الواحد مضطرًا بعد أداء الزكاة أو قبل تمام الحول، وهو لا يشترط فيه نصاب معين، بل هو حسب الاستطاعة، فإذا كان لا يملك إلا رغيفًا، ورأى مضطرًا إليه في حال استغنائه عنه بأن لم يكن محتاجًا إليه لنفسه، أو لمن تجب عليه نفقته، وجب عليه بذله، وليس المضطر وحده هو الذي له الحق في ذلك، بل أمر الله تعالى المؤمن أن يعطى من غير الزكاة". (يراجع في ذلك فقه الزكاة لشيخنا الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله تعالي).
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: