الأحكام السلطانية للماوردي - (60) الْأَرْضُونَ إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، والْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ

منذ 2014-10-11

فِينَا أَصْحَابُ بَدْرٍ أُنْزِلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ فَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِهِ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَوَاءٍ.

الباب الثاني عشر: "في قسم الفيء والغنيمة"

 

فصل: وَأَمَّا الْأَرْضُونَ إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَتُقْسَمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (3)

أَحَدُهَا: مَا مُلِكَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا حَتَّى فَارَقُوهَا بِقَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ أَوْ جَلَاءٍ؛ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا بَعْدَ اسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَنَّهَا تَكُونُ غَنِيمَةً كَالْأَمْوَالِ تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، إلَّا أَنْ يَطِيبُوا نَفْسًا بِتَرْكِهَا، فَتُوقَفُ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ مَالِكٌ: تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ غُنِمَتْ، وَلَا يَجُوزُ قَسْمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِمَامُ فِيهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ قِسْمَتِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَتَكُونُ أَرْضًا عُشْرِيَّةً، أَوْ يُعِيدُهَا إلَى أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ بِخَرَاجٍ يَضْرِبُهُ عَلَيْهَا فَتَكُونُ أَرْضَ خَرَاجٍ، وَيَكُونُ الْمُشْرِكُونَ بِهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ، أَوْ يَقِفُهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَرْضُ دَارَ إسْلَامٍ، سَوَاءٌ سَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ أَوْ أُعِيدَ إلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ لِمِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْزِلَ عَنْهَا لِلْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا تَصِيرَ دَارَ حَرْبٍ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْهَا: مَا مُلِكَ مِنْهُمْ عَفْوًا لِانْجِلَائِهِمْ عَنْهَا خَوْفًا، فَتَصِيرُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَقْفًا، وَقِيلَ: بَلْ تَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهَا الْإِمَامُ لَفْظًا، وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا خَرَاجًا يَكُونُ أُجْرَةً لِرِقَابِهَا تُؤْخَذُ مِمَّنْ عُومِلَ عَلَيْهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ، وَيَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ خَرَاجِهَا وَأَعْشَارِ زُرُوعِهَا وَثِمَارِهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ الثِّمَارُ مِنْ نَخْلٍ كَانَتْ فِيهَا وَقْتَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَتَكُونُ تِلْكَ النَّخْلُ وَقْفًا مَعَهَا لَا يَجِبُ فِي ثَمَرِهَا عُشْرٌ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ فِيهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا أَوْ الْمُسَاقَاةِ عَلَى ثَمَرَتِهَا، وَيَكُونُ مَا اُسْتُؤْلِفَ غَرْسُهُ مِنَ النَّخْلِ مَعْشُورًا وَأَرْضُهُ خَرَاجًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ، وَيَسْقُطُ الْعُشْرُ بِالْخَرَاجِ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَرْضُ دَارَ إسْلَامٍ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَرْضِ وَلَا رَهْنِهَا، وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا اُسْتُحْدِثَ فِيهَا مِنْ نَخْلٍ أَوْ شَجَرٍ.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا صُلْحًا عَلَى أَنْ تُقَرَّ فِي أَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا، فَهَذَا

عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْأَرْضِ لَنَا، فَتَصِيرُ بِهَذَا الصُّلْحِ وَقْفًا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ؛ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا رَهْنُهَا، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ أُجْرَةً لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، فَيُؤْخَذُ خَرَاجُهَا إذَا انْتَقَلَتْ إلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ صَارُوا بِهَذَا الصُّلْحِ أَهْلَ عَهْدٍ، فَإِنْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِهِمْ جَازَ إقْرَارُهُمْ فِيهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ مَنَعُوا الْجِزْيَةَ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَرَوْا فِيهَا إلَّا الْمُدَّةَ الَّتِي يُقَرُّ فِيهَا أَهْلُ الْعَهْدِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يُجَاوِزُونَ السَّنَةَ، وَفِي إقْرَارِهِمْ فِيهَا مَا بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالسِّتَّةِ وَجْهَانِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُصَالِحُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضِينَ لَهُمْ، وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا، وَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ، وَلَا تَصِيرُ أَرْضُهُمْ دَارَ إسْلَامٍ وَتَكُونُ دَارَ عَهْدٍ، وَلَهُمْ بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا، وَإِذَا انْتَقَلَتْ إلَى مُسْلِمٍ لَمْ يُؤْخَذْ خَرَاجُهَا، وَيُقَرُّونَ فِيهَا مَا أَقَامُوا عَلَى الصُّلْحِ، وَلَا تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي غَيْرِ دَارِالإِسْلَامِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ بِالصُّلْحِ دَارَ إسْلَامٍ، وَصَارُوا بِهِ أَهْلَ ذِمَّةٍ تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ، فَإِنْ نَقَضُوا الصُّلْحَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ مَعَهُمْ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّهَا إنْ مُلِّكَتْ أَرْضُهُمْ عَلَيْهِمْ فَهِيَ عَلَى حُكْمِهَا، وَإِنْ لَمْ تُمَلَّكْ صَارَتِ الدَّارُ حَرْبًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ فِي دَارِهِمْ مُسْلِمٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَهِيَ دَارُ إسْلَامٍ يَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا حُكْمُ الْبُغَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مُسْلِمٌ وَلَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَهِيَ دَارُ حَرْبٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: قَدْ صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ فِي الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا.

 

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ فَهِيَ الْغَنَائِمُ الْمَأْلُوفَةُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُهَا عَلَى رَأْيِهِ، وَلَمَّا تَنَازَعَ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَوْمَ بَدْرٍ جَعَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِلْكًا لِرَسُولِهِ يَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ، وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الْأَنْفَالِ يَعْنِي: عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال من الآية:1].

فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: فِينَا أَصْحَابُ بَدْرٍ أُنْزِلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ فَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِهِ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَوَاءٍ، وَاصْطَفَى مِنْ غَنِيمَةِ بَدْرٍ سَيْفَهُ ذَا الْفِقَارِ وَكَانَ سَيْفَ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَأَخَذَ مِنْهَا سَهْمَهُ وَلَمْ يُخَمِّسْهَا إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ بَدْرٍ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال من الآية:41].

فَتَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ كَمَا تَوَلَّى قِسْمَةَ الصَّدَقَاتِ، فَكَانَ أَوَّلُ غَنِيمَةٍ خَمَّسَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَدْرٍ غَنِيمَةَ بَنِي قَيْنُقَاعِ.

وَإِذَا جُمِعَتِ الْغَنَائِمُ لَمْ تُقْسَمْ مَعَ قِيَامِ الْحَرْبِ حَتَّى تَنْجَلِيَ؛ لِيُعْلَمَ بِانْجِلَائِهَا تَحَقُّقُ الظَّفَرِ وَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، وَلِئَلَّا يَتَشَاغَلَ الْمُقَاتِلَةُ بِهَا فَيُهْزَمُوا، فَإِذَا انْجَلَتِ الْحَرْبُ كَانَ تَعْجِيلُ قِسْمَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَجَوَازُ تَأْخِيرِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبِحَسَبِ مَا يَرَاهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ مِنِ الصَّلَاحِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى تَصِيرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَقْسِمُهَا حِينَئِذٍ، فَإِذَا أَرَادَ قِسْمَتَهَا بَدَأَ بِأَسْلَابِ الْقَتْلَى، فَأَعْطَى كُلَّ قَاتِلٍ سَلَبَ قَتِيلِهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْإِمَامُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرِطْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إنْ شَرَطَ لَهُمْ ذَلِكَ اسْتَحَقُّوهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ لَهُمْ كَانَ غَنِيمَةً فَيَشْتَرِكُونَ فِيهَا، وَقَدْ نَادَى مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ حِيَازَةِ الْغَنَائِمِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»[1].

 

وَالشَّرْطُ مَا تَقَدَّمَ الْغَنِيمَةَ لَا مَا تَأَخَّرَ عَنْهَا، وَقَدْ أَعْطَى أَبُو قَتَادَةَ أَسْلَابَ قَتَلَاهُ وَكَانُوا

أَحَدُهُمَا: إنَّهُ تَكْثِيرُ السَّوَادِ، وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ.

وَالثَّانِي: إنَّهُ الْمُرَابَطَةُ عَلَى الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَوْنٍ، وَتُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ الِاسْتِحْقَاقِ، لَا يَرْجِعُ فِيهَا إلَى خِيَارِ الْقَاسِمِ وَوَالِي الْجِهَادِ.

 

وَقَالَ مَالِكٌ: مَالُ الْغَنِيمَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، إنْ شَاءَ قَسَمَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ تَسْوِيَةً وَتَفْضِيلًا، وَإِنْ شَاءَ أَشْرَكَ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ الْوَقْعَةَ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ»[2] مَا يَدْفَعُ هَذَا الْمَذْهَبَ، وَإِذَا اخْتَصَّ بِهَا مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَجَبَ أَنْ يَفْضُلَ الْفَارِسُ عَلَى الرَّاجِلِ لِفَضْلِ عَنَائِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ تَفْضِيلِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطَى الْفَارِسُ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلُ سَهْمًا وَاحِدًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْطَى الْفَارِسُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَالرَّاجِلُ سَهْمًا وَاحِدًا، وَلَا يُعْطَى سَهْمُ الْفَارِسِ إلَّا لِأَصْحَابِ الْخَيْلِ خَاصَّةً، وَيُعْطَى رُكَّابُ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْجِمَالِ وَالْفِيَلَةِ سِهَامَ الرَّجَّالَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عِتَاقِ الْخَيْلِ وَهُجَّانِهَا، وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ:لَا يُسْهَمُ إلَّا لِلْعِتَاقِ السَّوَابِق، ِ وَإِذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِفَرَسٍ أَسْهَمَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَلَّفَهُ فِي الْعَسْكَرِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَإِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُسْهِمْ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: يُسْهِمُ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلَا سَهْمَ لِمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ فَرَسُهُ بَعْدَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ أَسْهَمَ لَهُ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَهَا لَمْ يُسْهِمْ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ مَاتَ هُوَ وَفَرَسُهُ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ أَسْهَمَ لَهُ، وَإِذَا جَاءَهُمْ مَدَدٌ قَبْلَ انْجِلَاءِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ جَاءُوا بَعْدَ انْجِلَائِهَا لَمْ يُشَارِكُوهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ قَبْلَ انْجِلَائِهَا شَارَكُوهُمْ، وَيُسَوَّى فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَ مُرْتَزِقَةِ الْجَيْشِ وَبَيْنَ الْمُتَطَوِّعَةِ إذَا شَهِدَ جَمِيعُهُمْ الْوَقْعَةَ.

 

وَإِذَا غَزَا قَوْمٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ مَا غَنِمُوهُ مَخْمُوسًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُخَمِّسُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَمْلِكُ مَا غَنِمُوهُ.

وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، أَوْ كَانَ مَأْسُورًا مَعَهُمْ، فَأَطْلَقُوهُ وَأَمَّنُوهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ، وَقَالَ دَاوُد: يَجُوزُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إلَّا أَنْ يَسْتَأْمِنُوهُ، فَيَلْزَمُهُ الْمُوَادَعَةُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الِاغْتِيَالُ.

وَإِذَا كَانَ فِي الْمُقَاتِلَةِ مَنْ ظَهَرَ عَنَاؤُهُ وَأَثَّرَ بَلَاؤُهُ لِشَجَاعَتِهِ وَإِقْدَامِهِ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ أُسْوَةَ غَيْرِهِ، وَزِيدَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ بِحَسَبِ عَنَائِهِ، فَإِنَّ لِذِي السَّابِقَةِ وَالْإِقْدَامِ حَقًّا لَا يُضَاعُ؛ قَدْ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَتَوَجَّهَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ إلَى أَدْنَى مَاءٍ بِالْحِجَازِ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمُشْرِكِينَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَرَمَى سَعْدٌ وَنَكَى؛ كَانَ أَوَّلَ مَنْ رَمَى سَهْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ "مِنَ الْوَافِرِ":

أَلَا هَلْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي *** حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي

أَذُودُ بِهَا أَوَائِلَهُمْ ذِيَادًا *** بِكُلِّ حَزُونَةٍ وَبِكُلِّ سَهْلِ

فَمَا يُعْتَدُّ رَامٍ فِي عَدُوٍّ *** بِسَهْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَبْلِي

وَذَلِكَ أَنَّ دِينَكَ دِينُ صِدْقٍ *** وَذُو حَقٍّ أَتَيْتَ بِهِ وَعَدْلِ

فَلَمَّا قَدِمَ اعْتَذَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَبَقَ إلَيْهِ وَتَقَدَّمَ فِيهِ.

__________

(1) صحيح: (رواه البخاري في كتاب (فرض الخمس [3142])، ومسلم في كتاب (الجهاد والسير [1751])).

(2) صحيح موقوفًا: (رواه ابن أبي شيبة في (مصنَّفه [33225])، وعبد الرزاق في (مصنفه [9689])، وابن أبي الجعد في (مسنده [588])، والطبراني في (الكبير [8203])، موقوفًا على قول عمر بن الخطاب، وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد [5/ 340])، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).

وقال الحافظ ابن حجر: حديث: «الغنيمة لمن شهد الوقعة»، والمشهور وقفه على عمر، أما المرفوع فلم أجده، وأما الموقوف فأخرجه ابن أبي شيبة والطبراني من حديث طارق بن شهاب أنَّ أهل البصرة غزوا نهاوند، فأمدهم أهل الكوفة القصة، وفيها فكتب عمر: إن الغنيمة لمن شهد الواقعة، وأخرجه البيهقي وقال: هذا هو الصحيح من قول عمر، وأخرجه ابن عدي من قول علي، ويعارضه حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبانًا على سرية من المدينة قِبَل نجد، فقَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما افتتحها إلى أن قال: فلم يقسم لهم، وهو في البخاري وأبي داود، وثبت في الصحيحين عن أبي موسى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَسَم لجعفر والأشعريين، قال: ولم يسهم لغيرنا (الدراية في تخريج أحاديث الهداية: [2/ 120]).

 

الكتاب: الأحكام السلطانية

المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)

الناشر: دار الحديث  القاهرة

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة
  • 1
  • 0
  • 7,319
المقال السابق
(59) النهي عن قتل الرهبان والسبي (3)
المقال التالي
(61) الجزية والخراج (1)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً