ماذا أعددت لعامك الجديد

منذ 2014-10-22

ها هو العام الجديد ينزل بنا مستحضرين فضل الله علينا بمد أعمارنا، متذكرين من مضى من الأموات الذين انقطعت آمالهم، وارتهنوا بأعمالهم، فبادر عمرك قبل الفوات.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، سخر الشمس والقمر وجعلها آيتان على بديع صنعه وكمال قدرته وجلال سلطانه، أحمده سبحانه وأثني على كمال إحسانه، والصلاة والسلام على خير من تدبر وتفكر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أما بعد فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله.

عباد الله،

في توالي الأعوام عبرًا وتذكرة للمتذكرين، وفي أفول الأزمنة آيات للمتبصرين، سنوات تمضي على العباد، وأيامًا وشهورًا تنقضي من الأعمار، والعاقل من جعل هذه الآيات سبيلًا للتفكر، وميدان رحبًا للتبصر.

أي غفلة أعظم من تمر الأعوام وتنقص الأعمار ولا تتأثر النفوس، ولا تتعظ القلوب.

إن دخولك في عام جديد أيها المسلم يعني زوال عامًا بأكثر من ثلاثمائة يوم قد مضى من عمرك، به ابتعدت عن دنياك، وقربت من قبرك، وآذان بلوغك الحساب، فينبغي أن يكون لهذا أثرًا في النفس، ومراجعة في الحسابات -على أننا لا نعتقد أن لنهاية العام مزية أوله أحكام خاصة، بل هو تأريخ اصطلح عليه صحابة النبي عليه الصلاة والسلام لضبط أمور الناس- ولكنه في الوقت ذاته حَدَثٌ يتذكر به الإنسان، وأنه إيذانًا بانقضاء الزمان وذهاب الأجيال، وزوال الدنيا ونهاية الأعمار، ولكن لما رانت الغفلة على القلوب، وأثقل حب الدنيا كواهل النفوس ركنا لها، وظننا أننا فيها مخلدون.

والمتأمل في آي القرآن وهي تتحدث عن الحياة الدنيا يجد وصفًا صادقًا لها... وتحذيرًا للعباد من الإغترار بها، ونهيًا عن الركون إليها لأنها متاع الغرور، يقول سبحانه: {وَاضْرِ‌بْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْ‌ضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُ‌وهُ الرِّ‌يَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرً‌ا . الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ‌ عِندَ رَ‌بِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ‌ أَمَلًا} [الكهف:45-46] فهي الظل الزائل، والطيف الزائر، وهي متاع الغرور الذي اغتر به أقوام ندموا على غرورهم بعدما عاينوا حقائق الأشياء في زمان لم ينفع فيه الندم، ولم تجدِ فيه الحيلة.

ويقول سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُ‌هُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ‌ يَتَعَارَ‌فُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ‌ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّـهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس:45]. فكما أنهم كانوا إذا التقوا لم يمضُ عليهم إلا ساعة من نهار ثم يفترقون، فكذلك هي الدنيا في مقدار زمانها.

ولذا ذكر الله حال أعدل الأقوال وأنصفها لحقيقة الدنيا ساعة اجتماع المجرمين للحساب فقال سبحانه { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ‌ ۚ وَنَحْشُرُ‌ الْمُجْرِ‌مِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْ‌قًا . يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرً‌ا . ن نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِ‌يقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:102-104].

فالناصح لنفسه من عرف حقيقة الدنيا ولم يركن لها، بل جعلها سببيلًا إلى الفوز بالنعيم المقيم في جنة رب العالمين. والدنيا لا تُذم لذاتها وإنما لصنيع أهلها فيها، فمن كسب مرضات الله، وكسب الحسنات إنما حصلها حال بقائه في الدنيا. وكذا الشريعة الغراء لم تأمر أتباعها بتركها، وإنما نهتهم عن الركون لها والإغترار بزهرتها الفانية.

 

عباد الله،

من نظر إلى هذه الأزمنة التي نعيشها رأى كثرة الفتن، وكثرة المصائب التي حلت ببني الإسلام، وأطلت علينا من كل مكان، ولقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه ومن الفتن ووصف لنا ما يقينا من شرها، جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا» ففي هذا الحديث يرشدنا المصطفى عليه الصلاة والسلام -وهو خير من نصح- بالمبادرة إلى العمل لأن بها الحصن الحصين من الفتن، والسياج الحافظ من الإحن.

كم يحدث لأناس من تحولات وتغيرات بسبب بعدهم عن منهج ربهم، وتقصيرهم فيما أوجب الله عليهم.
كم تغير من خلق كانوا من أهل الإستقامة والصلاح فنكصوا على أعقابهم، وارتدوا على أدبارهم خائبين خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

ولقد أظلت في هذه الأزمنة فتنٌ ما عهدناها من قبل، فُتن بها أناسٌ من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ورأينا للأسف الشديد دفاعًا مستميتًا في سبيل غرسها في الأمة لأناس فُتنوا بما عليه الكفار فأرادوا تصديره لأهل الإسلام، وعند هذه الفتن وغيرها تعظم الحاجة لهذا الدعاء العظيم (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) لأن المرء يرى هذا التساقط المخيف، وذلك الإنجراف المنذر بالشؤم خلف التيارات الهدامة التي تُدعم وتُزخرف لها الأقوال لتزيينها لتروجها بين المسلمين.

 

أيها المؤمنون

هذه الأيام هي بداية عام هجري جديد لكل واحد منا، ينظر الله إليه وهو أعلم ليرى ما هو صانع. وعودة قليلة للوراء سنين قليلة بل وأشهر قريبة وأيام يسيرة، يتذكر كل واحد منا كم فقد خلالها من عزيز وحبيب، وصديق وقريب، كان في عمره ويعيش معه، يحيا سويًا بآمال عريضة خططوا فيها لمستقبلهم وحياتهم، فإذا يد المنون تخترم هذه الأماني، وتخترق تلك الآمال، ليصبح أحدهم خبرًا بعد عين، وأثرًا بعد ذات، وبقينا أنا وأنت بعدهم زمنًا لا ندري متى ينقضي آخره وعلى أي حال سيكون رحيلنا؟ اللهم إنا نسألك حسن الختام.

إن بقاء المرء يومًا واحدًا نعمة وهبة من الله فكيف بأشهر وأعوام يتزود منها خيرًا كثيرًا، وزادًا عظيمًا، جاء في الحديث الصحيح: «ليس أفضل عند مؤمن يعمر في الإسلام لتكبيرة أو تحميدة أو تسبيحة أو تهليلة» فاحمد الله على هذه النعمة واغتنمها فيما يقربك من الله تعالى، فاليوم عمل بلا حساب وغدًا حساب بلا عمل.

ثم اعلم أن كل يوم من أيام أعمارنا إما يحصل لأحدنا تحصيل خير فيه واكتساب منقبة، أو يكون شؤم عليه وحجة يُحاسب عليها يوم يقف بين يدي ربه عز وجل، فلا وقوف في الطريق البتة فالمرء إما في تقدم في اكتساب الصالحات، أو متأخر مفرط تلحقه الحسرات، قال تعالى  {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ‌} [المدثر:37].

 

عباد الله

إن من صفات المؤمن الحق أن يكون عالي الهمة، رفيع الرغبة في تحقيق معالي الأمور التي تنفع صاحبها في الدارين جاء في الحديث «إن الله تعالى يحب معالي الأمور، وأشرافها، ويكره سفسافها» (الجامع الصغير).

فهو لا يرضى بالدون إذا كان قادرًا على تحقيق المعالي، ولا تطاوعه نفسه على أن يكون في مؤخرة الركب وهو قادر على أن يكون في المقدمة، ولما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بعدد أبواب الجنة وأنها ثمانية نهضة نفس أبي بكر الصديق التواقة إلى أعلى المنازل فتمنى الدخول من الأبواب كلها، جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة». فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم».

فانظر إلى الهمة وتأمل في هذا السمو، ولعل هممنا مع بداية العام أن تعلوا وترتفع لبلوغ أعلى المنازل، وتصل إلى أعلى الدرجات، ولقد كان رسول الهدى عليه الصلاة والسلام يربي أصحابه على الهمم العالية فكان يقول لأصحابه: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها وسط الجنة وأعلاها وفوقها عرش الرحمن ومنها تفجير أنهار الجنة » (صححه الألباني).

وبداية هذا العام الجديد فرصة لتربية النفس وتعويدها على طاعات ربما كانت في تكاسل عنها، واعلم أن هذه الطاعات والعبادات هي خير زاد لك إذا رحلت من دنياك.

ولعل من أعظمها المحافظة على صلاة الجماعة فكن من المسارعين لها، السابقين لدخول المسجد وفي التهجير ففي (صحيح مسلم) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النّاسُ مَا فِي النّدَاءِ وَالصّفّ الأَوّل، ثُمّ لَمْ يَجِدُوا إِلاّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا. وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصّبْحِ، لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».

داوم على السنن الرواتب وهي ثنتي عشرة ركعة في كل يوم يُبنى لك بها بيتٌ في الجنة، فعن أم حبيبة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر» (قال الترمذي حسن صحيح).

وتأمل في حال الرواة لهذا الحديث، المتاجرين مع ربهم، قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عنبسة فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة وقال عمرو بن أوس ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة وقال النعمان بن سالم ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس، فلعلك تكون مثلهم أيها المؤمن وتقول: ما تركتهن منذ سمعتها يوم كذا.

سمة الشرف للمؤمن لعلك أن تكون من أهلها بالمحافظة على صلاة الليل ولو بركعات يسيرة وفي الحديث: «.. واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس» (رواه الحاكم والبيهقي وحسنه المنذري والألباني).

اجعل لك وردًا من القرآن تقرأه كل يوم لا تُخل به وليكن جزاءًا من القرآن لتختم كتاب ربك في كل شهر مرة ولقد كان صحابة نبيك عليه الصلاة والسلام يختمون القرآن الكريم في كل أسبوع مرة فلا أقل من أن تختمه كل شهر مرة.

عود نفسك على أذكار الصباح والمساء فإنها الحصن الحصين لك من كل شر وفيها من الحسنات ما تفضل به الله على عباده. ليكن لك نصيب من صيام النافلة ولو كل شهر ثلاثة أيام.

تعاهد رحمك بالصلة وجيرانك بالزيارة ومرضى المسلمين بالعيادة وجاهد النفس لفعل هذه الأعمال وغيرها من أعمال البر والإحسان.

يا من يرجو الخير لنفسه، مع بداية العام جميل للمؤمن أن يقف نفسه وقفة صادقة لينظر لإيمانه هل في ازدياد أم نقصان؟

حريٌ به أن يكون متبصرًا في الأمور التي كانت سببًا في زيادة إيمانه فيرعاها ويداوم عليها، ويتأمل في الأسباب التي كانت سببًا في ضعف إيمانه فيجاهد نفسه في الإبتعاد عنها والحذر منها.

إن الترقية الإيمانية من أهم مطالب المؤمنين الصادقين مع ربهم وهي التي ترفع صاحبها عند ربه، وتبلغه الدرجات العلى. وما ارتفع من ارتفع ممن سبق وكان لهم قدم الصدق في تاريخ الأمة والثناء من الناس إلا بإيمانهم وتقواهم، كانوا شديدي المراقبة لقلوبهم، عظيمي الصدق في المحاسبة، على يقين أنه لا نجاة إلا بالصدق مع النفس والنصح لها والعمل على ترقية الإيمان وتقوية الإخلاص.

كم يشكوا كل واحد منا من ضعف الصلة بالله، وقلة الخشوع في الصلاة، وجشع النفس وعدم قدرتها على الإنفاق، وعدم صبره على الصيام وقيام الليل وتلاوة القرآن والجلوس للذكر والدعاء والمناجاة، فجدير بنا أن نجتهد في التخلص من كل خلق مذموم وعادة سيئة، ولو فشلنا نعود مرة أخرى حتى وان استغرق الأمر عمرنا كله.

يا موفق

ها هو العام الجديد ينزل بنا مستحضرين فضل الله علينا بمد أعمارنا، متذكرين من مضى من الأموات الذين انقطعت آمالهم، وارتهنوا بأعمالهم، فبادر عمرك قبل الفوات.

بارك الله لي ولكم...

 

عادل بن عبد العزيز المحلاوي

  • 7
  • 1
  • 4,541

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً