محكمة

منذ 2014-10-28

قيل للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي: "ألا تؤلف كتابًا في أدب القضاء؟ فقال: اعدل ومدَّ رجليك في مجلس القضاء، وهل للقاضي أدبٌ غير الإسلام؟!".

محكمة كلمة يُشاب لسمعها الولدان، وينخلع لهولها الوجدان.

يدخل القاضي والناس قيام يشير لهم فيجلسون، ويدبُّ بِمَطْرقته فينصتون، ثم ينادي الحاجب والكل متأهبون: قضية رقم ثلاث وسبعون لعام ألفين وثلاثة عشر -73/2013-

قام رجل يلبس جلباباً أسوداً بكل كياسة وانضباط: حاضر عن المتهمات.

على اليمين سياج من الحديد من خلفه فتايات يلبسن جلباباً أبيضاَ تري على وجوههن الآمال وترتسم على الشفاه البسمات، ويبدو من حركاتهن الثبات وكأنهن غير مكترثات.

القاضي ينادي على المتهمات بأسمائهن، وهن يجبن برفع أيدهن بأربعة أصابع: موجودات.

القاضي: النيابة ما قولكم في المتهمات، وما عندكم من اتهمات. خذوا راحتكم في السرد والتوضيح؛ فيبدو عليهن سمات الإرهاب -ويهز رأسه متوعدَا-.

النيابة بصوت رخيم عذب وقسمات وجه الخائف على البلاد والعباد: سيادة القاضي حضرات المستشارين جئتكم اليوم ينبأ عظيم وخبر جليل.

في جنح النهار وعلى مرمى من الأبصار تمكن رجال الشرطة البواسل بمساندة الجند الأغاور وبمعاونة أجهزة المخابرات والأمن القومي من القبض على مجموعة من الإرهابيات يزعزعن أمن البلاد ويثرن الرعب بين العباد. قُبض عليهن متلبسات بجرمهن، وحرزت الأدلة والثبوتات، فكان معهن بالونات صفراء فاقع لونهن يثرن الهياج، وبعضهن يعلقن دبوس رابعة تحتقر الإنجازات، وعلى أجهز الحاسوب والموبايلات أغاني تدعو إلى الطائفية وتقول مصر إسلامية ويتناسون أن مصر علمانية بالفطرة، وعندنا الشهود من رجالنا المخلصين، وعندنا السيديهات، ونستشعر أنهن ينتمين للمحظورات فهن لسن وطنيات، ولذا أطالب بأقصى العقوبات؛ ليكن عبرة لمن تسول له نفسه الخروج عن الطاعة والمطالبة بديمقراطية لا استعداد لها أو كرامة نحن ملاكُها أو حرية نحن أسيادُها أو معايش وقد جف ضرعها وقالها زعيمنا المفوه مفييييييش أنا مش قادر أديك.

ننظر إلى سيفكم البتار ليقطع دابر الثوار ونهنأ نحن بالأمن والاستقرار.

المحكمة: الدفاع، هل هناك من دفوع بعدما تبين للجموع جرم تلك اللئيمات أسرعوا بعرض ما عندكم وأوجزوا فالوقت وقتكم.

الدفاع: سيادة القاضي حضرات المستشارين بداية أطعن في الإجراءات وما ترتب عليها من استدلالات كما أطعن بعدم نزاهة الشهود لأن هناك خصومات و...

المحكمة -مقاطعة الدفاع-: وصلت الفكرة واتضحت الرؤيا.

حكمت المحكمة بسبعة عشر سنة على المتهمات ولا عذر للفتيات ولا شفاعة للصغيرات.

هل شاخ الشامخ أم الشامخ شاخ؟

هل نحن في دولة عدل؟ فالظلم فاح

أيها الناس أحزروا فالهلاك لاح

بقضايا إفك وأحكام فيها براح

قال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]

عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا» (مسلم برقم [1827]).

قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين».

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحدٌ في الجنة، رجلٌ عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجلٌ قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجلٌ عرف الحق، وجار في الحكم، فهو في النار».

قرأ الحسن البصري قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78-79]، وقال: لولا ما ذكر الله من أمر هذين، لرأيت أنَّ القضاة هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده.

 جاء أنَّ قريشًا أهمَّهم شأنُ المرأةِ المَخزومِيَّةِ التي سرقَتْ، فقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فيها رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقالوا: ومَن يَجتَرِئُ عليه إلا أسامةُ بنُ زيدٍ، حِبُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فكلَّمه أسامةُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أتَشفَعُ في حَدٍّ من حُدودِ اللهِ». ثم قام فاختَطَب ثم قال: «إنما أَهلَك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرَق فيهمُ الشريفُ ترَكوه، وإذا سرَق فيهمُ الضعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايمُ اللهِ لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سَرقَتْ لقطَعتُ يدَها» (البخاري ص [3475]).

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته إلى أبي موسى الأشعري: "آس بين الناس في مجلسك، وفي وجهك، وقضائك؛ حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك، ولا ييئس ضعيفٌ من عدلك".

قيل للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي: "ألا تؤلف كتابًا في أدب القضاء؟ فقال: اعدل ومدَّ رجليك في مجلس القضاء، وهل للقاضي أدبٌ غير الإسلام؟!".

وفي سيرة أبي عبد الله محمد بن عيسى أحد قضاة قرطبة، أنه التزم الصرامة في تنفيذ الحقوق، والحزامة في إقامة الحدود، والكشف عن البيان في السر، والصدع بالحق في الجهر، ولم يهب ذا حرمة، ولا داهن ذا مرتبة، ولا أغضى لأحدٍ من أرباب السلطان وأهله، حتى تحاموا حدة جانبه، فلم يجسر أحدٌ منهم عليه.

 

 

محسن العزازي

كاتب إسلامي

  • 31
  • 0
  • 4,211

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً