الأحكام السلطانية للماوردي - (88) مدخل في أحكام الجرائم (1)

منذ 2014-11-04

الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحدّ أو تعزيز، ولها عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية.

الباب التاسع عشر: في أحكام الجرائم

مدخل في أحكام الجرائم (1)

 

الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحدّ أو تعزيز[1]، ولها عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية.

فأمَّا حالها بعد التهمة وقبل ثبوتها وصحتها فمعتبر بحال النظر فيها، فإن كان حاكمًا رفع إليه رجل قد اتُّهم بسرقة أو زنًا، لم يكن لتهمة بها تأثير عنده؛ ولم يجز أن يحبسه لكشف ولا استبراء، ولا أن يأخذه بأسباب الإقرار إجبارًا، ولم يسمع الدعوى عليه في السرقة إلَّا من خصم مستحق لما قرف، وراعى ما يبدو من إقرار المتهوم أو إنكاره؛ إن اتهم بالزنا لم يسمع الدعوى عليه إلَّا بعد أن يذكر المرأة التي زنى بها، ويصف ما فعله بها مما يكون زنًا موجبًا للحدِّ، فإن أقرَّ حده بموجب إقراره، وإن أنكر وكانت بينة سمعها عليه، وإن لم تكن أحلفه في حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى إذا طلب الخصم اليمين[2].

وإن كان الناظر الذي رفع إليه هذا المتهوم أميرًا، أو من أولاد الأحداث والمعاون، كان له مع هذا المتهوم من أسباب الكشف والاستبراء ما ليس للقضاة والحكام، وذلك من تسعة أوجه يختلف بها حكم الناظرين:

أحدها: أنه لا يجوز للأمير أن يسمع قرف[3] المتهوم من أعوان الإمارة من غير تحقيق للدعوى المقررة ويرجع إلى قولهم في الإخبار عن حال المتهوم، وهل هو من أهل الريب؟

وهل هو معروف بمثل ما قرف به أم لا؟ فإن برؤوه من مثل ذلك خفت التهمة، ووضعت وعجل إطلاقه ولم يغلظ عليه، وإن قرفوه بأمثاله وعرفوه بأشباهه غلظت التهمة وقويت واستعمل فيها من حال الكشف ما سنذكره، وليس هذا للقضاة.

والثاني: أن للأمير أن يراعي شواهد الحال، وأوصاف المتهوم في قوة التهمة وضعفها، فإن كانت التهمة زنا، وكان المتهوم مطيعًا للنساء ذا فكاهة وخلابة قويت التهمة، وإن كان بضده ضعفت، وإن كانت التهمة بسرقة، وكان المتهوم بها ذا عيارة[4]، أو في بدنه آثار ضرب، أو كان معه حين أخذ منقب قويت التهمة، وإن كان بضده ضعفت وليس هذا للقضاة أيضًا.

والثالث: أنَّ للأمير أن يجعل حبس المتهوم للكشف والاستبراء، واختلف في مدة حبسه لذلك، فذكر عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي أن حبسه للاستبراء، والكشف مقدَّر بشهر واحد لا يتجاوزه. وقال غيره: بل ليس بمقدر، وهو موقوف على رأي الإمام واجتهاده وهذا أشبه[5]، وليس للقضاة أن يحبسوا أحدًا إلا بحق وجب.

والرابع: أن يجوز للأمير مع قوة التهمة أن يضرب المتهوم ضرب التعزيز لا ضرب الحد؛ ليأخذه بالصدق عن حاله فيما قرف به واتهم، فإن أقر وهو مضروب، اعتبرت حالة فيما ضرب عليه، فإن ضرب لم يكن لإقراءه تحت الضرب حكم، وإن ضرب ليصدق عن حالة وأقرَّ تحت الضرب قطع ضربه واستعيد إقراره، فإذا أعاده كان مأخوذًا بالإقرار الثاني دون الأول، فإن اقتصر على الإقرار ولم يستعده لم يضيق عليه أن يعمل بالإقرار الأول، وإن كرهناه.

والخامس: أنه يجوز للأمير فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجز عنها بالحدود ان يستديم حبسه إذا استضرَّ الناس بجرائمه حتى يموت بعد أن يقوم بقوته وكسوته من بيت المال؛ ليدفع ضرره عن الناس، وإن لم يكن ذلك للقضاة.

والسادس: أنه يجوز للأمير إحلاف المتهوم استبراء لحاله، وتغليظًا عليه في الكشف عن أمره في التهمة بحقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، ولا يضيق عليه أن يجعله بالطلاق والعتاق والصدقة كالإيمان بالله في البيعة السلطانية[6]، وليس للقضاة إحلاف أحد على غير حق، ولا أن يجاوز الإيمان بالله إلى الطلاق أو العنق.

والسابع: أن للأمير أن يأخذ أهل الجرائم بالتوبة إجبارًا، ويظهر من الوعيد عليهم ما يقودهم إليها طوعًا، ولا يضيق عليهم الوعيد بالقتل فيما لا يجب فيه القتل؛ لأنه وعيد إرهاب يخرج عن حد الكذب إلى حيز التعزيز والأدب، ولا يجوز أن يحقق وعيده بالقتل، فيقتل فيما لا يجب فيه القتل.

والثامن: أنَّه لا يجوز للأمير أن يسمع شهادات أهل الملل، ومن لا يجوز أن يسمع منه القضاة إذا كثر عددهم.

والتاسع: أن للأمير النظر في المواثبات، وإن لم توجد غرمًا ولا حدًّا، فإن لم يكن بواحد منهما أثر سمع قول من سبق بالدعوى، وإن كان بأحدهما أثر فقد ذهب بعضهم إلى أنه يبدأ بسماع دعوى من به الأثر ولا يراعي السبق. والذي عليه أكثر الفقهاء أنَّه يسمع قول أسبقهما بالدعوى، ويكون المبتدئ بالمواثبة[7] أعظمهما جرمًا وأغلظهما تأديبًا، ويجوز أن يخالف بينهما في التأديب من وجهين:

أحدهما: بحسب اختلافهما في الاقتراف والتعدي.

والثاني: بحسب اختلافهما في الهيبة والتصاون، وإذا رأى من الصلاح في ردع السفلة أن يشهّرهم وينادي عليهم بجرائمهم ساغ له ذلك، فهذه أوجه يقع بها الفرق في الجرائم بين نظر الأمراء والقضاة في حال الاستبراء وقبل ثبوت الحد لاختصاص الأمير بالسياسة، واختصاص القضاة بالأحكام.

 

فصل:

وأما بعد ثبوت جرائمهم، فيستوي في إقامة الحدود عليهم أحوال الأمراء والقضاة، وثبوتها عليهم يكون من وجهين: إقرار وبينة، ولكل واحد منهما حكم يذكر في موضعه.

والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر به لما في الطمع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرًا من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضيحة؛ ليكون ما حظر من محارمه ممنوعًا، وما أمر به من فروضه متبوعًا، فتكون المصلحة أعمّ والتكليف أتم، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

يعني في استنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة، وكفِّهم عن المعاصي وبعثهم على الطاعة.

وإذا كان كذلك فالزواجر ضربان: حد وتعزيز:

فأما الحدود فضربان:

أحدهما: ما كان من حقوق الله تعالى.

والثاني: ما كان من حقوق الآدميين.

فأما المختصة بحقوق الله تعالى فضربان:

أحدهما: ما وجب في ترك مفروض.

والثاني: ما وجب في ارتكاب محظور، فأما ما وجب في ترك مفروض كتارك الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها يسأل عن تركه لها، فإن قال: لنسيان أمر بها قضاء في وقت ذكرها ولم ينتظر بها مثل وقتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فذلك وقتها لا كفارة لها غير ذلك»[8]. وإن تركها لمرض صلاها بحسب طاقته من جلوس أو اضطجاع، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة من الآية:286].

وإن تركها جاحدًا لوجوبها كان كافرًا، حكمه حكم المرتدِّ يقتل بالردة إذا لم يتب، وإن تركها استثقالًا لفعلها مع اعترافه بوجوبها، فقد اختلف الفقهاء في حكمه، فذهب أبو حنيفة إلى أنه يضرب في وقت كل صلاة ولا يقتل، قال أحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب الحديث: يصير بتركها كافرًا يقتل بالردة. وذهب الشافعي إلى أنه لا يكفر بتركها، ولا يقتل حدًّا، ولا يصير مرتدًّا، ولا يقتل إلَّا بعد الاستتابة، فإن تاب وأجاب إلى فعلها ترك وأمر بها، فإن قال: أصليها في منزلي وكلت إلى أمانته، ولم يجبر على فعلها بمشهد من الناس، وإن امتنع من التوبة، ولم يجب إلى فعل الصلاة قتل بتركها في الحال على أحد القولين، وبعد ثلاثة أيام في القول الثاني، ويقتله بسيف صبرًا. وقال أبو العباس بن سريج[9]: يقتله ضربًا بالخشب حتى يموت ويعدل عن السيف الموحَّى؛ ليستدرك التوبة بتطاول المدى.

واختلف أصحاب الشافعي في وجوب قتله بترك الصلوات الفوائت إذا امتنع من قضائها، فذهب بعضهم إلى أن قتله بها كالموقتات، وذهب آخرون إلى أنه لا يقتل بها لاستقرارها في الذمة بالفوات، ويصلَّى عليه بعد قتله، ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه منهم ويكون ماله لورثته.

فأما تارك الصيام فلا يقتل بإجماع الفقهاء، ويحبس عن الطعام والشراب مدة صيام شهر رمضان، ويؤدب تعزيزًا، فإن أجاب إلى الصيام ترك، ووكل إلى أمانته، فإن شوهد آكلًا عزِّر ولم يقتل.

وأما إذا ترك الزكاة فلا يقتل بها، وتؤخذ إجبارًا من ماله، ويعزَّر إن كتمها بغير شبهة، وإن تعذر أخذها لامتناعه حورب عليها، وإن أفضى الحرب إلى قتله حتى تؤخذ منه كما حارب أبو بكر الصديق مانعي الزكاة.

وأما الحجّ ففرضه عند الشافعي على التراخي ما بين الاستطاعة والموت، فلا يتصور على مذهبه تأخيره عن وقته، وهو عند أبي حنيفة على الفور، فيتصور على مذهبه تأخيره عن وقته، ولكنه لا يقتل به ولا يعزَّر عليه؛ لأنه يفعله بعد الوقت أداء لا قضاء، فإن مات قبل أدائه حج عنه من رأس ماله.

وأما الممتنع من حقوق الآدميين من ديون وغيرها فتؤخذ منه جبرًا إن أمكن، ويحبس بها إذا تعذّرت، إلَّا أن يكون بها معسرًا، فينظر إلى ميسرة، فهذا حكم ما وجب بترك المفروضات.

واما ما وجب بارتكاب المحظورات فضربان:

أحدهما: ما كان من حقوق الله تعالى وهي أربعة: حد الزنا، وحد الخمر، وحد السرقة، وحد المحاربة.

والضرب الثاني: من حقوق الآدميين شيئان: حد القذف بالزنا، والقذف في الجنايات، وسنذكر كل واحد منهما مفصَّلًا.

__________

(1) التعزيز: ضرب دون الحد لمنع الجانى من المعاودة وردعه عن المعصية (اللسان: [4/ 561]).

(2) قلت: وهذا كلام في غاية الجودة والدقة سبق به المصنف رحمه الله واضعي القوانين والدساتير بمئات السنين.

(3) قرف: الذنب وغيره يقرفه قرفًا واقترفه: اكتسبه. والاقتراف: الاكتساب. اقترف أي اكتسب، واقترف ذنبًا أي: أتاه وفعله. وفي الحديث: رجل قرف على نفسه ذنوبًا أي كسبها. ويقال: قرف الذنب واقترفه إذا عمله. وقارف الذنب وغيره: داناه ولاصقه (اللسان: [9/ 280]).

(4) رجل عيَّار أي: كثير التطواف والحركة ذكي، وعيّره كذا من التعبير أي: التوبيخ والعامة تقول: عيره بكذا، والعار: السبة والعيب (مختار الصحاح: [194]).

(5) قلت: بل الأشبه الأول خاصة في عصور يشيع فيها الظلم والاستبداد.

(6) قال المرداوي: لا يحلف بطلاق، ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله وفاقًا للأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى، وحكاه ابن عبد البر رحمه الله إجماعًا (الإنصاف: [21/ 124]).

(7) المواثبة: المصاولة (الفائق ص [334]).

(8) صحيح: (رواه البخاري في كتاب (مواقيت الصلاة [597])، ومسلم في كتاب (المساجد ومواضع الصلاة [684])).

(9) هو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، الفقيه الشافعي؛ قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في حقه في كتاب الطبقات: كان من عظماء الشافعيين، وأئمة المسلمين، وكان يقال له: الباز الأشهب، ولي القضاء بشيراز، وكان يفضل على جميع أصحاب الإمام الشافعي، حتى على المزني، وإنَّ فهرست كتبه كانت تشتمل على أربعمائة مصنَّف، وقام بنصرة مذهب الشافعي ورد على المخالفين، وفرع على كتب محمد بن الحسن الحنفي.

 

الكتاب: الأحكام السلطانية

المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)

الناشر: دار الحديث  القاهرة

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة
  • 1
  • 0
  • 4,065
المقال السابق
(87) كاتب الديوان (8)
المقال التالي
(89) حد الزنا (2)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً