الأحكام السلطانية للماوردي - (101) حقوق الله تعالى – ما تعلق بالمحظورات (7)
ابن عائشة رأى رجلًا يكلم امرأة في طريقها، فقال له: إن كانت حرمتك إنه لقبيح بك أن تكلمها بين الناس، وإن لم تكن حرمتك فهو أقبح.
الباب العشرون: في أحكام الحسبة
حقوق الله تعالى – ما تعلق بالمحظورات (7)
فصل:
وأما ما تعلق بالمحظورات فهو أن يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « »[1].
فيقدم الإنكار ولا يعجل بالتأديب قبل الإنكار.
حكي إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء، فرأى رجلًا يصلي مع النساء فضربه بالدرة، فقال الرجل: والله إن كنت أحسنت لقد ظلمتني، وإن كنت أسأت فما علمتني، فقال عمر: لا أقتص اليوم، قال: فاعف عني. قال: لا أعفو، فافترقا على ذلك، ثم لقيه من الغد فتغيّر لون عمر، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، كأنِّي أرى ما كان مني قد أسرع فيك؟ قال: أجل، قال: فأشهد الله أني قد عفوت عنك.
وإذا رأى وقفه رجل مع امرأة في طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الريب لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار، فما يجد الناس بدًّا من هذا.
وإن كانت الوقفة في طريق خال، فخلو المكان ريبة فينكرها، ولا يعجل بالتأديب عليهما حذارًا من أن تكون ذات محرم، وليقل: إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الريب، وإن كانت أجنبية فخف الله تعالى من خلوة تؤديك إلى معصية الله تعالى؛ وليكن زجره بحسب الأمارات.
حكى أبو الأزهر أنَّ ابن عائشة رأى رجلًا يكلم امرأة في طريقها، فقال له: إن كانت حرمتك إنه لقبيح بك أن تكلمها بين الناس، وإن لم تكن حرمتك فهو أقبح، ثم ولَّى عنه وجلس للناس يحدثهم، فإذا برقعة قد ألقيت في حجره مكتوب فيها "من الكامل":
إن التي أبصرتني *** سحرًا أكلمها رسول
أدت إليّ رسالة *** كادت لها نفسي تسيل
من فاتر الألحاظ بجـ *** ـذب خصره ردف ثقيل
متنكبًا قوس الصبا *** يرمي وليس له رسيل
فلو أن أذنك بيننا *** حتى تسمع ما تقول
لرأيت ما استقبحت من *** أمري هو الحسن الجميل
فقرأها ابن عائشة ووجد مكتوبًا على رأسها أبو نواس[2]، فقال ابن عائشة: ما لي وللتعويض لأبي نواس، وهذا القدر من إنكار ابن عائشة كافٍ لمثله، ولا يكون لمن ندب للإنكار من ولاه الحسبة كافيًا، وليس فيما قال أبو نواس تصريح بفجور؛ لاحتمال أن يكون إشارة إلى ذات محرم، وإن كانت شواهد حاله وفحوى كلامه ينطقان بفجوره وريبته، فيكون من مثل أبي نواس منكرًا، وإن جاز أن يكون من غيره منكرًا. فإذا رأى المحتسب في هذا الحال ما ينكره تأنَّى وتفحص وراعى شواهد الحال، ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار، كالذي رواه ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف بالبيت إذ رأى رجلًا يطوف وعلى عاتقه امرأة مثل المهاة يعني حسنًا وجمالًا وهو يقول [من السريع] :
قدت لهذي جملًا ذلولًا *** موطأ أتبع السهولا
أعدلها بالكف أن تميلا *** أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذاك نائلًا جزيلا
قال له عمر رضي الله عنه: يا عبد الله، من هذه التي وهبت لها حجك؟ فقال: امرأتي يا أمير المؤمنين، وإنها حمقاء مرغامة، أكول قمامة، لا يبقى لها خامة. فقال له: ما لك لا تطلقها؟ قال: إنها حسناء لا تفرك، وأم صبيان لا تترك. قال: فشأنك بها.
قال أبو زيد: المرغام المختلط، فلم يقدم عليه بالإنكار حتى استخبره، فلما انتفت عنه الريبة لان له.
وإذا جاهر رجل بإظهار الخمر، فإن كان مسلمًا أراقها عليه وأدابه، وإن كان ذميًّا أدبه على إظهارها.
واختلف الفقهاء في إراقتها عليه، فذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تراق عليه؛ لأنها عنده من أموالهم المضمونة في حقوقهم، ومذهب الشافعي أنها تراق عليهم؛ لأنها تضمن عنده في حق مسلم ولا كافر.
وأما المجاهرة بإظهار النبيذ، فعند أبي حنيفة أنه من الأموال التي يقر المسلمون عليها، فيمتنع من إراقته، ومن التأديب على إظهاره. وعند الشافعي أنه ليس بمال كالخمر، وليس في إراقته غرم، فيعتبر والي الحسبة بشواهد الحال فيه، فينتهي فيه عن المجاهرة، ويزجر عليها إن كان لمعاقرة، ولا يريقه عليه إلا أن يأمره بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد؛ لئلَّا يتوجه عليه غرم إن حوكم فيه.
وأما السكران إذا تظاهر بسكره وسخف بهجره أدبه على السكر والهجر تعزيزًا لا حدًّا؛ لقة مراقبته وظهور سخفه.
وأما المجاهرة بإظهار الملاهي المحرَّمة، فعلى المحتسب أن يفصلها حتى تصير خشبًا؛ لتزول عن حكم الملاهي، ويؤدّب على المجاهرة بها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي.
وأما اللعب فليس يقصد بها المعاصي، وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد. وفيها وجه من وجوه التدبير تقارنه معصية بتصوير ذوات الأزواج ومشابهة الأصنام، فللتمكين منها وجه، وللمنع منها وجه، وبحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره.
قد دخل النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة رضي الله عنها وهي تلعب بالبنات فأقرها ولم ينكر عليها.
وحكي أن أبا سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي تقلّد حسبة بغداد في أيام المقتدر، فأزال سوق الدادي ومنع منها، وقال: لا يصلح إلّا النبيذ المحرم، وأقر سوق اللعب ولم يمنع منها، وقال: قد كانت عائشة رضي الله عنها تلعب بالبنات بمشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليها؛ وليس ما ذكره من اللعب بالبعيد من الاجتهاد.
وأما سوق الدادي فالأغلب من حاله أنّه لا يستعمل إلا في النبيذ، وقد يجوز أن يستعمل نادرًا في الدواء وهو بعيد، فبيعه عند من يرى إباحة النبيذ جائز لا يكره، وعند من يرى تحريمه جائز لجواز استعماله في غيره، ومكروه اعتبارًا بالأغلب من حاله، وليس منع أبي سعيد منه؛ لتحريم بيعه عنده. وإنما من المظاهرة بإفراد سوقه، والمجاهرة ببيعه إلحالقًا له بإباحة ما اتفق الفقهاء على إباحة مقصده؛ ليقع لعوام الناس الفرق بينه وبين غيره من المباحات، وليس يمتنع إنكار المجاهرة ببعض المباحات، كما ينكر المجاهرة بالمباح من مباشرة الأزواج والإماء.
وأما ما لم يظهر من المحظورات، فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار حذرًا من الاستتار بها، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «
»[3].فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارات دلت، وآثار ظهرت، فذلك ضربان:
أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل: أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلًا خلا بامرأة ليزني بها، أو برجل ليقتله، فيجوز له في مثل هذه الحالة أن يتجسَّس ويقدم على الكشف والبحث، حذرًا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم، وارتكاب المحظورات، وهكذا لو عرف ذلك من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف، والبحث في ذلك، والإنكار، كالذي كان من شأن المغيرة بن شعبة.
فقد روي أنه كان تختلف إليه بالبصرة امرأة من بني هلال يقال لها أم جميل بنت محجن ابن الأفقم، وكان لها زوج من ثقيف يقال له: الحجاج بن عبيد، فبلغ ذلك أبا بكر بن مسروح، وسهل بن معبد، ونافع بن الحارث، وزياد بن عبيد، فرصدوه حتى إذا دخلت عليه هجموا عليهما، وكان من أمرهم في الشهادة عليه عند ما هو مشهور، فلم ينكر عليهم عمر رضي الله عنه هجومهم، وإن كان حدهم القذف عند قصور الشهادة.
والضرب الثاني: ما خرج عن هذا الحد وقصر عن حد هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه.
حكي أن عمر رضي الله عنه دخل على قومه يتعاقرون على شراب، ويوقدون في أخصاص، فقال: نهيتكم عن المعاقرة فعاقرتم، ونهيتكم عن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، قد نهاك الله عن التجسس فتجسست، ونهاك عن الدخول بغير إذن فدخلت، فقال عمر رضي الله عنه: هاتان بهاتين وانصرف ولم يتعرض لهم. فمن سمع أصواتًا ملأة منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليه بالدخول؛ لأن المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عما سواه من الباطن.
__________
(1) صحيح: (رواه الترمذي في (كتاب صفة القيامة، والرقائق [2518])، والنسائي في (كتاب الأشربة [5711]، والدارمي في (كتاب البيوع [2532])، وأحمد [27819])، وصححه الشيخ الألباني).
(2) هو الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح، أبو علي الحكمي المعروف بأبي نواس، كان جده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان. ولد أبو نواس بالبصرة، ونشأ بها، ثم خرج إلى الكوفة مع والبة بن الحبابئ، ثم صار إلى بغداد، هكذا قال محمد بن داود بن الجراح في كتاب الورقة. وقال غيره: إنه ولد بالأهواز، ونقل منها وعمر سنتان.
(3) صحيح: (رواه مالك في (الموطأ- كتاب الحدود [1562]).
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: