لو كل الصبيان مثلك
وقد كان الإمام النووي رحمه الله على جانب من الزهادة والعبادة والورع والتحري، وكان لا يضيع شيئًا من أوقاته
وأنت تقلب صفحات تاريخ الإسلام، توقفك همم لقمم لا تقدر إزائها إلا الوقوف مشدوهًا: كهمة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، همم الصحابة، همم التابعين، همم السلف، همم العلماء والصالحين، همم القادة.
ومن عجائب ما قرأت همة صبي من الصبيان؛ ليس كباقي صبيان زمانه؛ فلما تميز صار مُقَدَّم أهل زمانه.
ذكر ابن داود العطار عن ياسين بن يوسف المراكشي قال: "رأيت الشيخ محيي الدين؛ وهو ابن عشر سنين بنوى، والصبيان يُكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي، لإكراههم، ويقرأ القرآن في هذه الحالة، فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن، فوصيته به، وقلت له: هذا الصبي يُرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه، إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام" (طبقات الشافعية الكبرى؛ للسبكي: 8/396-397).
ترى لمَّا كبر هذا الغلام كان من؟
صار إمام أهل زمانه؛ وصاحب أشهر شروح صحيح (مسلم)؛ إنه النووي رحمه الله.
هو محي الدين بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الحازمي، العالم محي الدين أبو زكريا النووي الدمشقي، الشافعي شيخ المذهب، وكبير الفقهاء في زمانه، ولد بنوى سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وبلده نوى قرية من قرى حوران بالشام، قَدُمَ دمشق سنة تسع وأربعين وستمائة، وقد حفظ القرآن، فشرع في قراءة كتاب (التنبيه)، فيقال إنه قرأه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع العبادات من المذهب في بقية السنة، ثم لزم المشايخ تصحيحًا وشرحًا، فكان يقرأ في كل يوم اثنى عشر درسًا على المشايخ.
ثم اعتنى بالتصنيف، فجمع شيئًا كثيرًا، منها ما أكمله، ومنها ما لم يكمله، فما كَمُلَ شرح (مسلم)، و(الروضة)، و(المنهاج)، و(رياض الصالحين)، و(الأذكار)، و(التبيان)، و(تحرير التنبيه وتصحيحه)، و(تهذيب الأسماء واللغات) وغير ذلك، ومما لم يتممه، ولو كمل لم يكن له نظير في بابه، شرح (المهذب)؛ الذي سماه (المجموع)، وصل فيه إلى كتاب الربا، فأبدع فيه وأجاد وأفاد وأحسن الانتقاد، وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره، وحرر الحديث على ما ينبغي، والغريب واللغة، وأشياء مهمة لا توجد إلا فيه.
وقد كان الإمام النووي رحمه الله على جانب من الزهادة والعبادة والورع والتحري، وكان لا يضيع شيئًا من أوقاته، وحج في مدة إقامته بدمشق، وكان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، توفي في ليلة أربع وعشرين من رجب سنة خمس وسبعين وستمائة.
هذه جملة مما ذكره الحافظ ابن كثير في ترجمته له في كتاب البداية والنهاية، الجزء الثالث عشر.
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: