الاحتجاجات والمظاهرات
كَثُرَ الكلام، وكَثُرَ القائلون بإن المظاهرات -وغيرها من أساليب التعبير عن الرأي- هي أساليب مستوردة من بلاد الكفر، وهو تقليد أعمى، واتباع بالباطل للكافرين.
المظاهرة في اللغة: المعاونة، والتظاهر: التعاون. (1)
المظاهرة في الاصطلاح: إعلان رأي، وإظهار عاطفة في صورة جماعية. (2)
كَثُرَ الكلام، وكَثُرَ القائلون بإن المظاهرات -وغيرها من أساليب التعبير عن الرأي- هي أساليب مستوردة من بلاد الكفر، وهو تقليد أعمى، واتباع بالباطل للكافرين.
يقول الشيخ محمد بن شاكر الشريف: "وقد وجدنا في التاریخ ما یستدل به علي معرفة المسلمین بذلك الأمر، وأنھم مارسوه فعلًا، وإن لم یطلقوا علیه الاسم نفسه- مما یدل علي خطأ تعمیم القول: إن ھذه الأسالیب مقتبسة من الكفار وأن القیام بھا الآن ھو من المشابھة لھم" (3).
وحتى وإن فرضنا جدلًا أن هذه الأشياء مأخوذة من الكافرين فهل يكون حرامًا لهذه العلة؟!
فالأصل في الأمور الإباحة كما قال الأصوليون، وطالما أن الأصل فيها الإباحة لعدم وجود نص بتحريمها؛ فالحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أولى الناس بها.
فالنبي صلي الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب أشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق، ولم يعهد العرب الخنادق في حروبهم، وسيدنا عُمر أخذ نظام الخراج من الفرس، ونظام الدواوين من دولة الروم، فهل كان هذا تقليد للكافرين، وتشبهًا بهم.
والمظاهرات السلمية تُسْتَخدم كوسيلة لتغيير منكرات الحكام، وهذا القول ينبني علي أصول منها:
1- أنها نوع من أنواع تغيير المنكر باللسان، والنبي قد أمرنا بذلك فقال ((من رأي منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (أخرجه مسلم: 49).
2- أن المظاهرات السلمية تعد من النصيحه للحكام، والتي بُني عليها الدين، لقول النبي صلي الله عليه وسلم ((الدين النصيحة ثلاثًا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)) (رواه مسلم).
3- أن المظاهرات خَلَت من المخالفات الشرعية، ولم تتعارض مع أصل من أصول الدين، ولا حكم من أحكامه، فليس هناك مسوغ لحرمان الأمة من استخدامها. (4)
السوابق التاريخية للمظاهرات السلمية:
فمن ذلك ما قام به المسلمون لمَّا أظھر الشیعة سَب، ولعن الصحابة رضوان لله علیھم، وفي ھذا یقول ابن الجوزي: "واجتمع في یوم الخمیس، رابع عشر المحرم خلق كثیر من الحربیة والنصریة، وشارع دار الرقیق، وباب البصرة، والقلائین، ونھر طابق، بعد أن
أغلقوا دكاكینھم، وقصدوا دار الخلافة، وبین أیدیھم الدعاة، والقراء، وھم یلعنون أھل الكرخ؛ لكونھم كانوا یسبون الصحابة، وازدحموا على باب الغربة، وتكلموا من غیر تحفظ في القول، فراسلھم الخلیفة ببعض الخدم؛ إننا قد أنكرنا ما أنكرتم وتقدمنا بأن لا یقع معاودة...". (5)
فھذه ولا شك مظاھرة حیث أغلق كثیر من الناس دكاكینھم، واجتمعوا ومعھم الدعاة والقراء، وتوجھوا لدار الخلافة، وھم یعلنون مطالبھم.
قال ابن كثیر: "یوم عاشوراء أغلق أھل الكرخ دكاكینھم وأحضروا نساء، فنحن على الحسین كما جرت به سالف عادات بدعھم المتقدمة، فحین وقع ذلك أنكرته العامة، وطلب الخلیفة أبا الغنائم نقیب الطالبیین، وأنكر ذلك علیه، فاعتذر بأنه لم یعلم بذلك، وأنه حین علم به أزاله، وتردد أھل الكرخ إلى الدیوان، یعتذرون من ذلك، ویتنصلون منه، وخرج التوقیع بكفر من یسب الصحابة، ویظھر البدع". (6)
ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في حوادث سنة أربع وثمانین ومائتین قال: "وفي ھذه السنة أخذ نصراني، فشُھد علیه أنه شتم النبي صلي لله علیه وسلم، فحُبس، ثم اجتمع من الغد العوام بسبب النصراني، فصاحوا بالقاسم بن عُبید الله، وطالبوه بإقامة الحد على النصراني، فلما كان یوم الأحد لثلاث عشرة بقیت من الشھر اجتمع أھل باب الطاق، وما یلیھا من الأسواق، ومضوا إلي دار السلطان، فلقیھم أبو الحسین بن الوزیر، فصاحوا به، فأعلمھم أنه قد أنھى خبره إلي المعتضد، فكذبوه وأسمعوه ما كره، ووثبوا بأعوانه حتي ھربوا منھم، ومضوا إلى دار المعتضد، فدخلوا من الباب الأول والثاني، فمنعوا فوثبوا علي من منعھم، فخرج إلیھم من سألھم عن خبرھم، فأخبروه فكتب به إلى المعتضد، فأدخل إلیه جماعة منھم، وسألھم عن الخبر، فذكر له فأرسل إلى یوسف القاضي، لینظر في الأمور، فمضى معھم الرسول إلي القاضي، فكادوا یقتلونه، ویقتلون القاضي؛ من كثرة الزحام، حتي دخل القاضي بابًا، وأُغلق دونھم. (7)
ومن ذلك ما قام به العامة مع الدیلم ففي سنة ثلاثمائة وتسعة وعشرين من الهجرة، وفي شوال؛ اجتمعت العامة في جامع دار السلطان، وتظلمت من الدیلم، ونزولھم في دورھم بغیر أجرة، وتعدیھم علیھم في معاملاتھم، فلم یقع إنكار لذلك، فمنعت العامة الإمام من الصلاة، وكسرت المنبرین، وشعث المسجد، ومنعھم (الدیلم) من ذلك، فقتل من (الدیلم) جماعة". (8)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
(1) الصحاح للجوهري.
(2) المعجم الوسيط.
(3) الحسبة السياسية والفكرية: 137.
(4) فقه التعامل مع منكرات الحكام: 246-بتصرف.
(5) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 12\370.
(6) البداية والنهاية: 12\114.
(7) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 16\95.
(8) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 14\7.
بقلم: أحمد عز الدين.
______________________________
ملاحظة للتحرير: ومن الضوابط الشرعية التي يجب اعتبارها بدقة؛ حساب المصالح المرجوة، والمفاسد المتوقعة قبل القيام بالعمل.