ثلاثة أنهار لمغفرة الذنوب
"لأهلِ الذنوبِ ثلاثةُ أنهارٍ عظامٍ يتطهرون بها في الدنيا؛ فإن لم تفِ بطُهرهم طُهّروا في نهر الجحيم يوم القيامة"
بسم الله المتفضل على عباده، القائل في كتابه: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]، فهو سبحانه الغفور التواب الرحيم الذي رغّب عباده في التوبة قائلًا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وقد منّ الله سبحانه وتعالى على عباده الموحدين بأمورٍ تكفّر عنهم سيئاتهم وتطهرهم من ذنوبهم في الحياة الدنيا.. حتى إن قدموا عليه عز وجل يوم القيامة قدموا عليه بصحائف نقية وبميزانٍ ثقيل فدخلوا الجنة بغير عذاب بوعدٍ منه سبحانه وتعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: "فلأهلِ الذنوبِ ثلاثةُ أنهارٍ عظامٍ يتطهرون بها في الدنيا؛ فإن لم تفِ بطُهرهم طُهّروا في نهر الجحيم يوم القيامة: نهر التوبة النصوح، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها، ونهر المصائب العظيمة المكفرة. فإذا أراد الله بعبده خيرًا أدخله أحدَ هذه الأنهارِ الثلاثة فوَردَ القيامة طيبًا طاهرًا فلم يحتج إلى التطهير الرابع" (مدارج السالكين). فهذه هي الأمور التي تكفر الذنوب وتذهب بالسيئات وهي: التوبة النصوح، والحسنات الكثيرة، والمصائب والابتلاءات التي يُبتلى بها العبد المؤمن.
فأما (التوبة النصوح) فهي التوبة الصادقة الخالصة، والمقصود بها أن يتوب العبد من ذنوبه وأن يعزم على عدم العودة للذنب مرةً أخرى؛ قال الحسن البصري رحمه الله: "هي أن يكون العبد نادمًا على ما مضى، مُجمعًا على أن لا يعود فيه". وهذه التوبة لا بد أن يجمعَها أربعةُ أشياء وهي: "الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الإخوان" (مدارج السالكين).
وكي تكون توبةً نصوحًا أي صادقةً وخالصةً لله تعالى فيجبُ أنْ تتضمن ثلاثةَ أشياء:
"الأول: تعميمُ جميعِ الذنوبِ واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبًا إلا تناولته،
والثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرًا بها،
الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده" (مدارج السالكين).
فهذا هو النهر الأول لتطهير الذنوب في الدنيا، ولزم كل واحدٍ منا أن يتوب تلك التوبة النصوح كما أمرنا الله سبحانه وتعالى فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8]. فمن تاب تلك التوبة كان وعدًا على الله أن يكفر عنه سيئاته ويدخله الجنة بكرمه سبحانه وفضله.
وأما (الحسنات المستغرقة للأوزار) فهي قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فالحسنات الكثيرة تمحو السيئات الكثيرة وترفع الدرجات؛ وأفضل الحسنات هي التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالفرائض التي افترضها علينا من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ وحجٍ. قال صلى الله عليه وسلم: « » قالوا: لا يَبقى من درنِه شيٌء. قال: « » (أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ له).
وأما (المصائب العظيمة المكفرة) فهي تلك الابتلاءات والمحن التي تصيب المؤمن فيصبر عليها فيتطهر بها من ذنوبه وآثامه وتكون الجنة جزاءه كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح الجامع). والمؤمن لا يتبرم من قضاء الله وقدره بل يسعد بالبلاء لأن فيه الخير كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: « » (مسلم:2999).
فالموفَّق هو الذي يهديه ربه إلى تلك الأنهار الثلاثة فيسبح ويغتسل بإحداها أو بها كلها ليتطهر من ذنوبه في الدنيا قبل أن يعاقب بها يوم القيامة في النار؛ قال صلى الله عليه وسلم: « » (السلسلة الصحيحة:1220).
وفقني الله وإياكم إلى توبةٍ نصوح، وعملٍ صالحٍ مقبول.
- التصنيف:
- المصدر: