الشتاء فوائد وعوائد

منذ 2014-12-14

ولأجل أننا نزداد من الرهبة، ولنأخذ لأمرنا الأهبة: فلنعلم أن هذا البرد الذي يعتادنا إنما هو حكمة أحكم الحاكمين ومن رحمة أرحم الراحمين بنا وبنار الآخرة، أما وجه الرحمة بنا فإن البرد شدة وما يصيبنا منه مصيبة يكفر الله بها الذنوب.

إننا بحمد الله نتقلب صباح مساء بنعم من الله تترى، لا نستطيع لواحدة منها شكراً، ولا لعدِّها قدراً: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).

والنعم ثلاثة أصناف: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعر بها. [1]

وسنذكِّر أنفسنا في هذه الكلمات بنعمة حاضرة حاصلة لنا في هذه الأيام بالذات، وكثير منا لم يشعر بها أو يستشعرها؛ ألا وهي نعمة الدفء في الأبدان والمساكن والمساجد والمراكب وأماكن الدراسة والعمل وغير ذلك، قال ربنا - سبحانه وتعالى -: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) أي مما تتخذون من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها من الثياب والفرش والبيوت[2]، ولولا رحمة الله لأهلكتنا هذه العوارض.

ولأجل أن نعرف مدى ضعفنا وعجزنا عن القيام بمصالحنا ودفعنا للأذى عن أنفسنا لولا العون والإحسان من الله الكريم المنان؛ لأجل أن نعرف ذلك: فلننظر كم نلبس ونشتري من وسائل التدفئة من أخمص أقدامنا إلى مفارق رؤوسنا، ولننظر كم من الأموال التي تبذل لذلك، ثم لننظر كم من الأمراض والآفات التي تحصل بعد فعل الأسباب للوقاية من البرد..وحينها نوقن حقاً بقول ربنا الغني الحميد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ).

ولأجل أننا نزداد من الرهبة، ولنأخذ لأمرنا الأهبة: فلنعلم أن هذا البرد الذي يعتادنا إنما هو حكمة أحكم الحاكمين ومن رحمة أرحم الراحمين بنا وبنار الآخرة، أما وجه الرحمة بنا فإن البرد شدة وما يصيبنا منه مصيبة يكفر الله بها الذنوب.

وأما وجه الرحمة من الله بالنار فلما روى البخاري[3] ومسلم [4] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير).

وهذا البرد إذاً يذكرنا بالنار وأن عذابها شدة حرارة وشدة برودة، كما أنه يذكرنا بنعمة الله علينا في هذه النار في الدنيا: (أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ).

ومع حدوث هذه البرودة في الجو وتأثيرها على كل كائن حي، فإن الله برحمته وحكمته لم يجعل هذا البرد يأتي بغته بعد حرارة الجو مباشرة أو بوقت قصير بل كما قال ابن القيم - رحمه الله -: (فكر في دخول أحدهما - أي البرد والحر - على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأهلكها وبالنبات، كما لو خرج الرجل من حمام مفرط الحرارة إلى مكان مفرط في البرودة)[5] أ-هـ.

ومع هذا التدرج الذي ركبه الله في تعاقب فصلي الشتاء والصيف إلا أن كثيراً من الأبدان لا تتحمل البرد لا سيما في أول مجيئه، ولذا قال علي - رضي الله عنه -: (توقوا البرد في أوله وتلقَّوه في آخره) وقال أبو عوانة: (الشتاء أوله أضرُّ منه في أخره)[6].

وهذه سنة الله الجارية وحكمته السارية فلا نقول إلا ما يرضي الرب، ولكن بعض الناس ممن قل رضاه عن ربه وضعف إيمانه يتذمر في الشتاء إذا حل عليه، وفي الصيف إذا حل عليه كذلك.

يتمنى المرء في الصيف الشتاء * فإذا جاء الشتا أنكرهُ

فهو لا يرضى بحال واحد * قتل الإنسان ما أكفرهُ

ومن الأقوال الشنيعة التي نسمعها من أهل الجزع والتسخط قولهم: الشتاء عدو الدين وقولهم: البرد وجه ذئب، بل وسبهم وشتمهم إن أصابهم شدة برودة، أو ما علموا أن سبهم وقولهم ذلك من سب الدهر الذي هو سب لله - تعالى - واعتراض على حكمه القدري وحكمته البالغة: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).

إنه ومع هذا الأذى الذي يلحق ببني آدم وسائر المخلوقات إلا أن الله يسر بفضله نعمة المال التي ييسِّر الله بها من المخترعات والأجهزة ما ندفع به هذا الأذى والبأس والبرد القارس.

كما ألهمنا بالتجارب الثابتة والعلوم الطبيعية المساعدة ما يخفف حَّدة وشدة البرد مما يناسب في بلد دون بلد، لا سيما وأن الله بقدرته جعل باطن الجسم يسخن مع البرودة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (يختار الناس من ذلك - أي من الأطعمة - في الشتاء والبلاد الباردة مالا يختارونه في الصيف والبلاد الحارة، مع وجود المناسبة الداعية لهم؛ إذ كانوا يختارون في الحر من المأكل الخفيف والفاكهة ما يخف هضمه لبرد بواطنهم وضعف القوة الهاضمة، وفي الشتاء والبلاد الباردة يختارون من المآكل الغليظة ما يخالف ذلك لقوة الحرارة الهاضمة في بواطنهم.. )[7] أ-هـ.

ويريد بذلك - رحمه الله - أن الله ألهم أهل البلاد الباردة أو من حل عليهم الشتاء أن يأخذ بأسباب الوقاية من الأضرار، ولذا عقد - رحمه الله - في موضع آخر مقارنة بين الحجامة والفصد للعرق أيهما أنفع ثم قال: (فأهل البلاد الباردة لهم الفصاد، وقطع العروق، كما أن للبلاد الحارة الحجامة)[8].

قد يكره العباد أمراً وفي طياته من الخير الكثير الكثير، مصداقاً لقول ربنا - سبحانه -: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

وإن هذا البرد مهما اشتد في الشتاء فإنه خير حتى لقد قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: (خير صيفكم أشده حراً، وخير شتائكم أشده برداً)[9].

فمن الخير في حلول الشتاء: أن سنة الله جرت بعد وقوع العذاب على الأمم التي حق عليهم العذاب، ولذا قال قتادة: (لم ينزل عذاب قط من السماء على قوم إلا عند انسلاخ الشتاء)[10].

قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: (تعذيب الله لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة كقوم عاد كانت في الوقت المناسب وهو آخر الشتاء)[11].

ومن الخير في حلول الشتاء: أن فتح الله رخصاً هي فيه أحوج كالمسح على الخفين، والجمع عند المطر والريح الباردة فالحمد لله على تخفيفه وتيسيره.

ومن نعمة الله علينا في الشتاء: تيسير عبادتين جليلتين فيه وهما الصيام والقيام في الليل، ولذا جاء عند الإمام أحمد وابن أبي شيبة بسند حسن أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)[12]، وقال بعض السلف: (الشتاء ربيع المؤمن؛ طال ليله فقامة، وقصر نهاره فصامه).

وما دام هذا التيسير بهذه المثابة فلنغتنم طول ليل الشتاء بشيء من قيام الليل ولو قبيل الفجر، وقصر نهاره بشيء من الصيام ولو كان يوم اثنين.

ومن نعمة الله الظاهرة للعيان في الشتاء: ستر العورات وقلة منكرات الأعراض لهذا السبب الظاهر غالباً.

ومنها: أنه يدعونا لنتذكر إخواننا الفقراء والضعفاء الذين بلغ بهم الجهد أن يلتحفوا الخضراء ويفترشوا الغبراء، يوم أن ملأنا بيوتنا بالفرش الوثيرة والملابس الكثيرة.

وقد أحسن على نفسه من لا يرمي شيئاً من ملابس الشتاء إلا ويضعها في يد محتاج إليها يعلم أنه سيلبسها لا تخلصاً منها.

ومن لم يجد زائداً على حاجته من لوازم الشتاء فليتألم لألم إخوانه، وليدع الله أن يكشف كربتهم.

دخل أصحاب بشر الحافي عليه في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض، فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟! فقال ذكرت الفقراء وبَرْدهم، وليس لي ما أواسيهم، فأحببت أن أواسيهم في بَرْدهم)[13].

وثمت أمران في هذا الصدد:

أولاهما: أن على الراعي في البيت رجلاً أو امرأة تفقد حوائج أهل بيته في الشتاء، فلقد ذكر الفقهاء أن الرجل يجب عليه نفقة زوجته وأولاده لاسيما كسوة في أول الصيف وأخرى أول الشتاء بحسب ما جرت به عادة الناس من الكفاية بالمعروف زماناً ومكاناً وحالاً[14] وهذا لا يدعو إلى الإسراف وشراء مالا يحتاجه.

الثاني: أن نتفقد حوائج الجيران من أهل الحي، ومن زملاء المهنة فإن كان عندنا سعة من المال وإلا فلندلَّ المحسنين عليهم والدال على الخير كفاعله.

[1] الفوائد ص(192).

[2] تفسير السعدي/سورة النحل 5.

[3] (537).

[4] (617).

[5] مفتاح دار السعادة (1/215).

[6] فيض القدير للمناوي.

[7] الفتاوى (20/418).

[8] الفتاوى(25/257).

[9]. فيض القدير للمناوي.

[10] فيض القدير للمناوي.

[11] الفتاوى (35/176).

[12] صحيح الجامع (3868).

[13] الفوائد لابن القيم ص 191.

[14] الفتاوى(34/86).

  • 2
  • 2
  • 16,693

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً