الموهبة والتقنية
ثمَّ لنعلم إنَّ العالم المتقدِّم تقنيَّا رغم كلِّ ما وصل إليه من معارف تقنية باهرة لا زال يشعر بالعجز في تقنياته ومعارفه لكنَّه إنما بهر الآخرين بها لأنهم في فقر مدقع من المعارف التقنية البسيطة التي يمكن تنميتها وتطويرها إذا صدقت النوايا وصحت العزائم.
يمكننا النظر للموهبة على أنَّها هي مبدع التقنية الرَّاقية ومنتجها ومثريها. وبغير المواهب المتميِّزة لا يكون هناك تقنيات مُميَّزة منتشرة بين النَّاس، ولا يُصبح المجتمع مجتمعًا تقنيًّا. ويمكن، أيضًا، أن ينظر للموهبة على أنَّها مستخدمٌ جيدٌ للتقنية المنجزة من قبل أناسٍ آخرين. وهذا الاستخدام الجيد قد يقود إلى إنجاز أعمالٍ جليلة أو تقنيات أخرى مثيلة أو رافدة أو مغايرة. ويمكن أن يقال، من منظورٍ آخر، أن التقنية هي التي تقدح جذوة الموهبة وتبرزها بعد أن كانت غائبة أو مهجورة. كلُّ هذه الآراء وما ماثلها واردٌ وممكنٌ فالقضية متشعبة ومتداخلة وليست يسيرة كما قد يتبادر إلى الذهن بادئ الأمر. وما دام الحال بهذا النوع من التداخل فإنَّه يمكننا أن نطرح آراءنا بوضوح ونستمع إلى آراء الآخرين بكلِّ أريحية وإنصاف.
ولهذا نقول أن الموهبة قدرة من الله يهبها من يشاء من عباده فتظهر في مناشط الحياة العامرة بين جماعة من النَّاس، بينما التقنية عملٌ من فعل الإنسان بقدرة الله. وإذا كان ما وهبه الله للإنسان أكثر مما يستطيع الإنسان عمله، ظهر لنا أن التقنية يمكن أن تكون عامل تقييد للموهبة أكثر منها عامل تحفيز وتطوير. فمهما بلغت التقنية من بلغ تظل عاجزة أن تفي بطموح العقل البشري المبدع الذي صوَّره الباري وأبدعه جلَّ في علاه.
إن من ينظر إلى تطوُّر التقنيات في عصرنا الحاضر يعلم دون ريب أن العجز ملازمٌ للإبداع البشري مهما بُهر به كثيرٌ من النَّاس لحسن إنجازه وكثرة عطائه. ولو أخذنا الحاسب الآلي مثالاً كونه الدَّعامة الأساس في تقنية المعلومات في عالم اليوم لتبين لنا صحة هذا الرأي بكلِّ وضوح. لقد كان حجم هذا الحاسب أول ما صنع في القرن الماضي مقاربًا لحجم المبنى العالي الصغير ووزنه بضعة أطنان. وعلى الرَّغم من العجز الهائل في هذا الجهاز العملاق الذي أظهرته لنا الأجهزة التالية له فقد كان ينظر إليه في حينه على أنَّه قمة التَّطوُّر الذي قد لا يُبدع مثله. وتدور الأيام وتزداد التقنية تقدمًا ويتناقص هذه الحجم الهائل للحاسب ليصل إلى بضع كيلوات أو أقل، ومع ذلك لا يزال العجز ملازمًا له لا ينفك عنه مهما بلغ من درجات الإتقان والمهارة. ألا ترى كيف يكاد هذه الحاسب أن يصل في حجمه إلى حجم عقل الإنسان ومع ذلك يعجز أن يعمل عمله أو يبدع إبداعه، رغم عظم إبداعاته في جوانب كثيرة من حضارتنا السائدة اليوم.
إن الانبهار بالتقنية قد يقتل الموهبة أو يجعلها تدور في فلكها فلا تأتي بجديد. ومن مساوئ هذا الإنبهار أن يصبح اللّهاث وراء كلِّ ما يستجد لدى الآخر هو جلَّ هم الموهبة وشغلها الشَّاغل، وبذلك تنسى واقع الحياة الدَّال على أن التقنيات لا حدود لها وليست محصورة بنمط معين كالنمط الذي يعيشه عالمنا الحاضر.
ولو عاد المرء إلى كثيرٍ من التقنيات المشهودة اليوم لوجدها لا تعدو كونها محاولة تقليد بعض القدرات المميزة في مخلوقات الله من حولنا وفي أنفسنا. فالحاسب الآلي نفسه جُرِّبت فيه محاكاة عقل الإنسان في نقل المعلومة عبر السوائل قبل اللجوء إلى الموصلات المعدنية الأخرى. وآلات التصوير طوِّرت في مجال من مجالات العلوم لتشابه عيني الإنسان في عملها. والأقمار الصناعية صنعت ليستعاض بها عن الأقمار الطبيعية في بعض أعمال الرَّصد والتحري وهكذا…
ثمَّ لنعلم إنَّ العالم المتقدِّم تقنيَّا رغم كلِّ ما وصل إليه من معارف تقنية باهرة لا زال يشعر بالعجز في تقنياته ومعارفه لكنَّه إنما بهر الآخرين بها لأنهم في فقر مدقع من المعارف التقنية البسيطة التي يمكن تنميتها وتطويرها إذا صدقت النوايا وصحت العزائم.
ظافر بن علي القرني
- التصنيف:
- المصدر: