قُبِل المهر ... وزُفَّت العروس

منذ 2001-04-16
روي أنه كان في البصرة نساءٌ عابدات ، و كانت منهن أم إبراهيم الهاشمية ، فأغار العدو على ثغرٍ من ثغور المسلمين ، فانتدب الناس للجهاد ، فقام عبد الواحد بن زيد البصري في الناس خطيباً ، فحظّهم على الجهاد ، و كانت أم إبراهيم هذه حاضرةً في مجلسه ، و تمادى عبد الواحد في كلامه ، ثم وصف حور العين و ذكر ما قيل فيهن ، و أنشد في وصف حوراء :

غادة ذات دلالٍ و مــرح *** يجد الناعت فيها ما اقترحْ
خُلِقَت من كل شيء حسـنٍ *** طيّبٍ ، فاللَّيت فيها مطَّرحْ
زانها الله بوجهٍ جمعـــت *** فيه أوصافٌ غريباتُ الُملَح
ْ و بعينٍ كحلها من غنجها *** و بخدٍ مسكه فيه رَشَحْ
ناعمٌ تجري على صفحتــه *** نضرةُ المُلك و لألاءُ الفرحْ

فماج الناس بعضهم في بعض ، و اضطرب المجلس ، فوثبت أم إبراهيم من وسط الناس ، وقالت لعبد الواحد : " يا أبا عبيد ، ألست تعرف ولدي إبراهيم ، و رؤساء أهل البصرة يخطبونه على بناتهم ، و أنا أضن به عليهم ، فقد و الله أعجبتني هذه الجارية ، و أنا أرضاها عروسا لولدي ، فكرر ما ذكرت من حسنها و جمالها "..

فأخذ عبد الواحد في وصف الحوراء ، ثم أنشد :

تولًّد نورُ النور من نور وجههــــا *** فمازج طيب الطّيبِ من خالص العطرِ
فلو وطئت بالنعل منها على الحصى *** لأعشبت الأقطار من غير ما قَطْرِ
و لو شئتَ عَقْدُ الخِصْرِ منها عقدتُـه *** كغصنٍ من الريحان ذي ورقٍ خضرِ
و لو تفلتْ في البحر شهدَ رضابَهـا *** لطاب لأهل البَّر شربٌ من البحرِ

فاضطرب الناس أكثر ، فوثبت أم إبراهيم ، و قالت لعبد الواحد : " يا أبا عبيد ، قد و الله أعجبتني هذه الجارية و أنا أرضاها عروساً لولدي ، فهل لك أن تزوّجه منها ، و تأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار ، و يخرج معك في هذه الغزوة ، فلعل الله يرزقه الشهادة ، فيكون شفيعا لي و لأبيه يوم القيامة ؟ " ..

فقال لها عبد الواحد : " لئن فعلتِ ، لتفوزنّ أنتِ و ولدكِ و أبو ولدكِ فوزاً عظيماً " . فنادت ولدها : " يا إبراهيم " ، فوثب من وسط الناس ، و قال لها : " لبيك يا أماه " ، قالت : " أي بني ، أرضيتَ بهذه الجارية زوجةً لك ، ببذل مهجتكَ في سبيل الله ، و تركِ العود من الذنوب ؟ "

فقال الفتى : " إي و الله يا أماه .. رضيتُ أي رضى " ، فقالت : " اللهم إني أشهدك أني زوجت ولدي بهذه الجارية ، ببذل مهجته في سبيلكَ ، و تركِ العود في الذنوب ، فتقبله مني يا أرحم الراحمين " .

ثم انصرفتْ ، فجاءت بعشرةِ آلافِ دينار ، و قالت : " يا أبا عبيد ، هذا مهر الجارية تجهّزْ به و جهّزِ الغزاةَ في سبيل الله " ، و انصرفتْ فاشترتْ لولدها فرساً جيداً و استجادتْ له سلاحاً ، فلما خرج إبراهيم يعدو و القراء حوله يقرءون : " إِنَّ الله اشتَرَى مِنَ الُمؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بَأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ " ، فلما أرادت أم إبراهيم فراقَ ولدِها ، دفعتْ إليه كفناً و حنوطاً ، و قالت له : أي بني ، إذا أردت لقاءَ العدو فتكفّنْ بهذا الكَفَن ، و تحنًّطً بهذا الحنوط ، و إياك أن يراك الله مقصراً في سبيله ، ثم ضمَّتْه إلى صدرها و قبَّلَتْ ما بين عينيه و قالت : يا بني ، لا جمع الله بيني و بينك إلا بين يديه في عرصاتِ يوم القيامة !!

قال عبد الواحد : فلما بلغنا بلاد العدو ، و برز الناس للقتال ، برز إبراهيمُ في المقدمة فقتل من العدوِّ خلقاً كثيراً ، ثم اجتمعوا عليه فقتلوه ..

فلما أردنا الرجوعَ إلى البصرة ، قلت لأصحابي : " لا تخبروا أم إبراهيم بخبر ولدها حتى ألقاها بحسن العزاء ، لئلا تجزعْ فيذهب أجرها "..

قال فلما وصلنا البصرة خرج الناس يتلقوننا ، و خرجت أم إبراهيم فيمن خرج ، فلما أبصرتْني قالت : " يا أبا عبيد ، هل قُبِلَتْ مني هديتي فَأُهَنَّأ ، أم رُدَّتْ عَلَيَّ فَأُعَزَّى ؟" .. فقلتُ لها : " قد قُبِلَتْ و الله هديتكِ ، إن إبراهيم حي مع الشهداء - إن شاء الله - " ، فخرَّتْ ساجدةً لله شكراً ، و قالت : " الحمد لله الذي لم يخيِّب ظني ، وتَقَبَّلَ نُسُكي مِنِّي " .. و انصرفت ..

فلما كان من الغد أتت المسجد ، فقالت : " السلام عليكَ يا أبا عبيد ، بُشراكَ..بُشراكَ "، فقال : " لا زلتِ مبشِّرَةً بخير " ، فقالت : " رأيتُ البارحةَ ولدي إبراهيم في روضةٍ حسناءَ ، و عليه جبةٌ خضراءَ ، و هو على سريرٍ من لؤلؤٍ ، و على رأسه إكليلٌ ، و هو يقول لي :

" يا أمَّاه .. أبشري ..
فقد قُبِلَ المَهْرُ ..
وَ زُفَّتِ العروس " ..
  • 15
  • 0
  • 64,894
  • حفيدة عائشة(مى)

      منذ
    [[أعجبني:]] اعجبتنى كلها
  • Tamer Kamoon

      منذ
    [[أعجبني:]] هكذا الامهات فهكذا الابناء خير ايناء
  • محمد

      منذ
    [[أعجبني:]] كيف ان هذه المرأة وولدهايبذلان النفس والنفيس فى سبيل الفوزبهذه العروس
  • مزون

      منذ
    [[أعجبني:]] المقالة رائعة و أتمنى أن تكون كل هذه الأمهات مثل هذه الأم و صدق الشاعر حين قال الأم مدرسة إذا أعدتها أعدت شعباً طيب الأعراق و صدق من قال وراء كل رجل عظيم إمرأة عظيمة فهنيئاً لهذه الأمو لولدها و أتمنى إن شاء الله أن أكون مثلها
  • nada

      منذ
    [[أعجبني:]] أعجبنى حسن تصرف المرأة ويا ليت كل النساء مثلها فى التضحية والفداء ولو بأقل من ذلك فإن الأمهات الآن أصبحن من العقبات التى تقف حجر عثرة فى سبيل التزام الأبناء واللهم انى اسألك زوجة مثل هذه المرأة تشجع ابنى وتشجعنى على العبادة والجهاد ولا تقف فى سبيل ذلك والله ولى ذلك ومولاه وشكرا
  • nada

      منذ
    [[أعجبني:]] أزجيت البضاعة . وجزيت خيرا
  • شيماء علي

      منذ
    [[أعجبني:]] دائماً أنتم في المقدمة ، ودائما أنتم مفتاح كل خير ، ورزقنا الله وإياكم الفردوس الأعلى ، إن شاء الله .
  • nada

      منذ
    [[أعجبني:]] المقالة كلها جميلة اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك .

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً