«تفرَّغ لعبادتي»
جاء في بعض الأحاديث ما يدل على أهمية التفرّغ لعبادة الله تعالى وجمع القلب والهمّ على الله وحده دون شريك، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: ابن آدم! تفرّغ لعبادتي املأُ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأتُ صدرك شغلًا ولم أسدّ فقرك».
الحمد لله الكبير المتعال العزيز الحميد، الواحد الأحد الصمد المجيد، وصلى الله وسلم على عبده محمد النبي الأكرم والرسول الخاتَم، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الدين..
أما بعد:
فإن الخَلق كلهم عبيدُ لله الواحد القهار الذي قهرهم بتصرفه فيهم بما يشاء، والخلق عبيدُ لله مقهورون مربوبون إما طوعًا أو كرهًا، فأما من آمن بالله ورسله وسلك سبيلهم فهذا عبدٌ لله طوعًا وحبًا ورغبةً ورهبة، وأما من لم يؤمن بالله تعالى ورسله فقد تمرّد على الله وعلى دينه وشرعه ولكنه في حقيقة الأمر لا يخرج عن تصرف الله وقهره ومآله إليه، كما قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ . ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61-62].
فكل من لم يؤمن بالله فهو مربوبٌ له ومقهورٌ وعبدٌ له كرهًا، وسيرجع إلى الله وهو كاره لذلك الرجوع لما سيُلاقيه من العقوبة السيئة على سوء أعماله.
والمسلم ما دام قد رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبينا فإنه ينبغي أن يعبد الله تعالى حق عبادته ويطيعه في هذه الحياة الدنيا حتى يأتيه الموت وهو على رضوان من الله ورحمة، ولتحقيق رضا الله تعالى فعلى المسلم أن يزداد من التقوى والإيمان كل يوم وفي كل موقفٍ من مواقف حياته، وأن يتفرّغ لعبادة الله في كثيرٍ من أحيانه، وإن من التفرّغ لعبادة الله وقف هذه الحياة كلها لله وعمارتها بكل عمل صالح وهذا لا يقدر عليه إلا الخلص من المؤمنين الذين نذروا حياتهم لرب العالمين، ومن التفرّغ لعبادة الله التفرّغ للصلوات في أوقاتها مع الجماعة والتفرّغ لذكر الله وقيام الليل، ومن ذلك الاعتكاف في رمضان وفي غيره، مع بقاء الحياة كما هي عليه من حيث التكسب وطلب الرزق الحلال..
فليس معنى التفرّغ لعبادة الله تعالى أن نترك أعمالنا وأشغالنا ووظائفنا وتجاراتنا ثم نرحل إلى المساجد عاكفين! هذا لا يقوله عاقل؛ لأن الحياة سوف تتعطّل والله تعالى لن يرزق أحدًا إلا بسعيٍ وعمل، وإنما المقصود ألا ينسى المؤمن الدار الآخرة وعبادة الله عز وجل وينشغل بالدنيا انشغالًا كليًا بحيث تصبح الدنيا أكبر همّه ومبلغ عِلمه ومصدر سعيه! فهذا هو الشقاء والنكد والحرمان نسأل الله السلامة منه والعافية.
وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على أهمية التفرّغ لعبادة الله تعالى وجمع القلب والهمّ على الله وحده دون شريك، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى:20]، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »[1].
إن التأمّل في مثل هذه الأحاديث النبوية العظيمة تبعث في قلب المؤمن معاني إيمانية عظيمة، تجعله يُراجع كثيرًا من حساباته في خِضم ومُعترك هذه الحياة التي يشقى فيها كثيرٌ من الناس!
فعدم التفرّغ للعبادة شقاءٌ وحرمانٌ وهم، وضِيقٌ ونكد، وعاقبةٌ سيئة، وخاتمة غير مُرضية، ولهذا نجد أن كثيرًا من الأغنياء في العالم لا يَهنؤون بغناهم ولا يَسعدون بأموالهم رغم ما أُوتوه من بسطةٍ في العلوم والأجسام والأموال والأولاد، ولكن مع كل هذا لمَّا انقطعوا عن الله وانفصموا عن ربهم انفصامًا نكدًا عاقبهم الله تعالى بألوانٍ كثيرةٍ من العقوبات، وقد يصل الأمر بأكثرهم إلى الانتحار والتخلُّص من حياة الجحيم التي يكابدها في صدره الضيق الحرج.
إننا -معشر المسلمين- مُطالَبون جميعًا بالرجوع إلى الله والتوبة إليه بسبب البُعد الذي يُعانيه كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام وهم أبعد ما يكونون عن تعاليمه وأحكامه وأخلاقه، وهم أبعد ما يكونون عن طاعة الله وعبادته فضلًا عن التفرّغ للعبادة والطاعة، فالتفرّغ هو من صفات الصالحين والصِّدِّيقين وهم مبثوثون في كل زمانٍ ومكان، وهذه الأمة كلها خير لا يدرى أَخيرها في أولها أم في آخرها كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه أحمد، والترمذي، وغيرهما؛ وهو حديثٌ صحيح).
وفي معنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق: « ..» ما جاء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الترمذي، وابن ماجة، والدارمي وغيرهم؛ وهو حديثٌ صحيح).
والمقصود: أن يجعل الإنسان همّه الله والدار الآخرة وأن يتفرّغ لعبادة الله ما استطاع إلى ذلك سبيلًا..
والتفرّغ الذي نعنيه هنا هو: التفرّغ لله بالمستحبات والنوافل أما الفرائض والواجبات فكل مسلم مُلزَمٌ بأدائها، وقد جاء في الحديث الصحيح ما يدل على أن الله يحب من تفرّغ لعبادته وتزوّد من نوافل الطاعات، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البخاري في صحيحه).
ومعنى قوله: « ..» إلخ، أي: "توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه، ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله" ذكره ابن حجر في (فتح الباري عن الخطابي رحمه الله تعالى).
فالله أكبر! ما أرحم الله وأكرمه لمن تقرّب إليه وتفرغ لعبادته وفرّغ قلبه من كل حُبٍّ سوى الله، ومن كل خوفٍ سوى الله، ومن كل رغبةٍ سوى الله ومن كل رهبةٍ سوى الله، ما أعظم الله وأكرمه وأرحمه عندما يَعرف الإنسان طريقه وصراطه المستقيم، وما أقوى الله وأشدّه وأشدّ لعنته وغضبه وعقابه لمن انحرف عن صراطه المستقيم وضل ضلالًا بعيدًا!
نسأل الله بمَنِّه وكَرمه ورحمته ورضوانه وعفوه وفضله أن يجعلنا من عباده الصالحين المستقيمين على كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إنه خير مسؤول وخير مرجوٍ وخير مُعين.
والحمد لله رب العالمين.
------------------------------------
1- (رواه الحاكم في المستدرك، وهذا لفظه، ورواه الإمام أحمد، والترمذي وابن ماجة، وهو حديثٌ صحيح، صحّحه الألباني في مواضع عديدة من كتبه).