فرنسا والمهمة الفاشلة في مالي

منذ 2014-12-21

ورغم موافقة الولايات المتحدة على طلب فرنسا بتوفير مساعدات تصل إلى 20 مليون دولار؛ لتغطية التكاليف العسكرية للقوات الفرنسية الموجودة في مالي، لكن هذا المبلغ لن يفيد في تحقيق الهدف الفرنسي بالقضاء على الجماعات الإسلامية في شمال مالي، خاصة أن التقارير الأمنية تفيد بأن هذه الجماعات تتمتع بقدرات عسكرية وتسليحية كبيرة، كما أنها على دراية كاملة بدروب الجبال في المنطقة التي تتميز بوعورتها الشديدة، علاوة على أن هذه الجماعات لها امتداد في بعض الدول المجاورة مثل موريتانيا والجزائر وبعض الدول الإفريقية.

نشرتْ مجلة فورين بوليسي الأمريكية تقريرًا مؤخرًا للباحث الأمريكي المتخصِّص في الشأن الإفريقي "فيليب كارتر" تحت عنوان:

"The French Connection، Why is the United States paying for its ally's adventures in Africa?

أي: "التدخل الفرنسي، لماذا زجَّت الولايات المتحدة بحليفتها للمغامرة في إفريقيا؟ "، أشار فيه إلى أن فرنسا تقوم في الوقت الحالي بحملة عسكرية في شمال مالي؛ بهدف التصدِّي للجماعات الإسلامية الراغبة في السيطرة على باقي الأراضي الماليَّة، خاصةً مع ضَعفِ حكومة مالي عن كبْح جماح التفوُّق الإسلامي في الشمال.

خِداع أمريكي وتورط فرنسي:

اللافت للنظر أن الولايات المتحدة التي حذَّرت - عن طريق تقارير أجهزة الاستخبارات فيها - من قدرة الحركات الإسلامية التي تُسيطِر على شمال مالي - تمثِّل حوالي ثلثَي مساحة الدولة الإفريقية - مِن الإطاحة بالحكومة المركزية في موباكو، وإقامة دولة إسلامية تَحتكِم إلى الشريعة الإسلامية في الشمال على الأقل، لم تُفكِّر في التدخل المباشر في تلك الحرب، مكتفيَة بتقديم الدعم الفني واللوجستي للقوات الفرنسية.

لكن الواضح أن هناك خلافًا في الوقت الراهن بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيِّين، حول تَكلِفة العمليات العسكرية الخارجية، في الوقت الذي تتصاعد فيه حِدَّة الأزمات الاقتصادية والماليَّة التي تضرب معظم دول الاتحاد الأوروبي.

لكن الظروف الحالية تفرض على كل دولة أن تحدِّد أولوياتها وأهدافها من جراء شنِّ أي عمليات عسكرية خارج أراضيها، فواشنطن لعقود ماضيَة اتَّبعت سياسة دفاعيةً قويةً؛ عن طريق تقوية مؤسَّساتها العسكرية المُختلِفة، وتوفير الدعم المالي اللازم لها، لكن فرنسا ما زالت أقل من الولايات المتحدة في هذا الإطار، فباريس تُنفق 2. 2% من الناتج القومي الإجمالي على الدِّفاع، بينما تزيد النسبة في الولايات المتحدة إلى 4. 7%، وهي النسبة التي مكَّنت فرنسا من المشاركة بقوات عسكرية في أفغانستان وليبيا، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع تحمُّل نفقات هذه القوات وحدها لأسابيع أو شهور.

ورغم موافقة الولايات المتحدة على طلب فرنسا بتوفير مساعدات تصل إلى 20 مليون دولار؛ لتغطية التكاليف العسكرية للقوات الفرنسية الموجودة في مالي، لكن هذا المبلغ لن يفيد في تحقيق الهدف الفرنسي بالقضاء على الجماعات الإسلامية في شمال مالي، خاصة أن التقارير الأمنية تفيد بأن هذه الجماعات تتمتع بقدرات عسكرية وتسليحية كبيرة، كما أنها على دراية كاملة بدروب الجبال في المنطقة التي تتميز بوعورتها الشديدة، علاوة على أن هذه الجماعات لها امتداد في بعض الدول المجاورة مثل موريتانيا والجزائر وبعض الدول الإفريقية.

وكما هو معروف يعتمد سلاح الجو الأمريكي على طائرات من طراز C-17 للقيام بعمليات عسكرية عبر الحدود؛ حيث أنفقت واشنطن خلال السنوات الثلاث الماضية نحو 225 مليون دولار؛ لتوفير عدد كافٍ من هذا هذه الطائرات؛ للقيام بهجمات أو عمليات جوية حول العالم في حالات الضرورة؛ حيث تصل تكلفة الطاقم المرافق للطائرة - علاوةً على التكاليف الفنية - إلى نحو 385 ألف دولار في العام، ونحو 12 ألف دولار في ساعة طيران واحدة، لكن فرنسا تَفتقِر إلى هذه الطائرات المتقدِّمة؛ مما يُصعِّب مهمَّةَ قواتها في مالي.

وفي السنوات الماضية، طلبت الولايات المتحدة من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) المشاركةَ في تحمُّل تكاليف العمليات العسكرية الأمريكية في الخارج، سواء في أفغانستان والعراق، لكن الدول الأوروبية؛ مثل فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وبولندا، بالإضافة إلى أستراليا وكندا، رفضت الطلب الأمريكي؛ مما جعل واشنطن تكتفي بالمساعدة اللوجستية لأيِّ عمليات تقوم بها هذه الدول في الخارج؛ مثل الوضع الفرنسي الحالي في مالي.

مهمة فاشلة بامتياز:

العدوان الفرنسي على الجماعات الإسلامية في شمال مالي لن يتوقف تأثيرُه على المنطقة وحدها، لكنه قد يمتدُّ إلى ضرب أهداف أوروبية وفرنسية، سواء داخل الدول الأوروبية نفسها، أو تهديد مصالحها في الخارج؛ لاسيما أن هذه الجماعات لديها شبكة علاقات قوية بغيرها من التنظيمات الإسلامية التي تستطيع اختراق الدول الأوروبية والغربية والقيام بهجمات ردًّا على الهجوم الفرنسي.

فرنسا وحدها لا تستطيع تحقيق نجاح ملموس في مهمَّتها العسكرية في مالي؛ فسياسةُ التقشُّف التي تتبعها باريس منذ فترة لمواجَهة أزمتها المالية، والضرائب التي تموِّل هذه العملية العسكرية، والتي يتحمَّلها المواطن الفرنسي - لا تستطيع الاستمرار في حرب غير واضحة المعالم والأهداف، والتي تزيد كلفتها الاقتصادية والعسكرية والبشرية كل يوم، خاصة مع رفض العديد مِن الدول الأوروبية التورُّط في مالي، وإن كانت فرنسا تُحاول إحياء مُستعمَراتها القديمة في القارة السمراء؛ فإنها غير قادرة على تحمُّل فترة طويلة مِن العمل العسكري.

وتَزعُم فرنسا أن الجماعات الإسلامية في شمال مالي تمثِّل تهديدًا إستراتيجيًّا لمصالحها في إفريقيا، وهذه الادعاءات خالية تمامًا من الصحة؛ فباريس ليس لديها أي دليل على صدق هذه المزاعم، وليس لديها دليل على أن هذه الجماعات تخطِّط للقيام بهجمات ضدها أو ضد الولايات المتحدة، وبالتالي لم تتشجَّع واشنطن للدخول في مواجهة عسكرية مع هذه الجماعات، لكن فرنسا في الحقيقة أرادت أن تَلفِت نظر الرأي العام داخلها بعيدًا عن مشاكلها الاقتصادية الطاحنة؛ عن طريق الدخول في حرب مع هذه الجماعات تدَّعي أنها تمثِّل تهديدًا لفرنسا، وهو نفس السيناريو الذي اتبعه الرئيس الأمريكي باراك أوباما لتبرير التصعيد العسكري في أفغانستان عام 2009، وكانت النتيجة فشل القوات الأمريكية وقوات التحالف في القضاء على تنظيم القاعدة أو نشر الأمن في الدولة التي تُعاني مِن الاحتلال منذ 2001.

لكن المؤكَّد أن الحرب الفرنسية في مالي - والتي لا تَحظى بقَبول كبير في أوساط الرأي العام الفرنسي والأوروبي والأمريكي كذلك - تسعى فرنسا مِن ورائها إلى تقوية النفوذ المفقود للحكومة المركزية في موباكو؛ لمُحاولة السيطرة على الموارد الطبيعية في الدول الإفريقية، لكن نجاح هذه المهمَّة مُقترِن بشروط واعتبارات عديدة، لا تتوفَّر لدى باريس في الوقت الحالي؛ مما يجعل المرء يجزم بأنها حرب فاشلة، سواء في التوقيت أو الأهداف والنتائج.



أحمد حسين الشيمي

  • 0
  • 0
  • 6,393

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً