دولة لا تؤمن بالإبداع
الإبداع ملكة راسخة في النفس والذهن، فكلما كان العقل مبدعًا كلما ازداد نضجًا وتوسعت أفق التفكير بداخله.
الإبداع ملكة راسخة في النفس والذهن، فكلما كان العقل مبدعًا كلما ازداد نضجًا وتوسعت أفق التفكير بداخله. والثقافة باعتبارها إنتاجًا إنسانيًا، فإنها تنطلق من الإبداع نفسه، لقد قالوا عنا شعب لا يبدع، وأرد عليهم، لأنه يؤطرنا نظام بكل مكوناته لا يؤمن أصلا بالإبداع.
بداية فإن العقل في حاجة ماسة إلى قدر كافٍ من الحرية كشرط أساسي لإنتاج الأفكار، وللحرية طبعًا حدود وضوابط، ولكن أتساءل أولا هل لها وجود فعلا في ساحتنا الفكرية والثقافية قبل الحديث عن هذه الحدود و الضوابط؟ في الواقع لا نرى إلا القيود، لقد أضحت حرية التعبير تشكل شبحًا ووهمًا لدى المثقفين المغاربة، وما قامت به الدولة ووزارتها الوصية من مجهودات جبارة كما قالوا من برتوكولات وإصلاحات لم تسمن ولم تغن من جوع، بل زادت الطين بلة خصوصًا عند ربط الأمر بالقضاء؛ بمعنى آخر، حرية التعبير أصبحت تعني الاعتقال والمحكمة ثم السجن.
إن الدول المتقدمة التي عرفت نهضة فكرية منذ قرون وبعضها دخلت العصر الجديد قبل القدوم عليه، أصبحت تعتمد على العقل كوسيلة للإنتاج لا غير، لأن العصر الجديد كما يتوقع لن يكون إلا عصر العلم والفكر، وهذه الدول تولي اهتمامًا متواصلا للفئة الواعية الذكية، كما تصرف ميزانيات هائلة على البحوث العلمية، وبالتالي تجد من الجامعات مراكزًا للإبداع وإحياء العلوم، وتجعل من الطلبة أطرًا قادرة على السير قدمًا في المراتب الأولى في التقدم والرقي، أما الحديث عن جامعاتنا وطلبتنا فلا مجال للمقارنة، كيف يعقل أن الجامعة باعتبارها المتنفس الوحيد للإبداع والتحصيل العلمي تتحول في آخر المطاف إلى ثكنات عسكرية لتدريب كل أصناف قوات الأمن.
وبما أننا نعيش في عصر تغيرت فيه المعاني ولم تعد الأشياء تسمى بمسمياتها، فقد تغير مفهوم الإبداع عند البعض حتى ألبسوه معاني قدحية هزيلة، إن ما تبثه وسائل الإعلام السمعية البصرية من برامج تسميها زورًا و بهتانًا برامج الإبداع، يعتبر في حد ذاته تشويها لهذا المفهوم، هذا من جانب، أما من جانب آخر فالقنوات الفضائية في الأصل لا تؤمن بالإبداع وذلك لتفريغ كل أوقاتها في برامج الهزل واللغو والعار، لنتخيل أنفسنا في سفينة يقودها رجال عقولهم متطفلة، لا يملكون خبرة ولا إبداع؛ هل سندرك في ذلك الحين أين نحن قادمون؟
إن المناصب والكراسي ببلادنا لا يتسللها إلا من يملك أكبر حظ من الثروة تخول له تسيير شأن ما أو شؤون، ومن المعلوم أن القيادة في الحقيقة تستمد سحرًا من الإبداع والديناميكية والقدر الكافي من الثقة، وقادتنا لا تثق حتى في نفسها فما بالكم بالثقة في الآخرين.
أين مفكرينا؟ إن جيلنا لا يعرف أسماء مفكرينا سواء الذين ماتوا وتركوا مؤلفاتهم وأفكارهم حية، أو الأحياء منهم المهجورين، أما ما يعانيه هؤلاء من اضطهاد وقمع ومنع، جعلهم ينتشرون في كل بقاع العالم باحثين عن الظروف المناسبة لإبراز أفكارهم وتطوير إبداعاتهم، فلطالما سمعنا المفكر الفلاني منع من ندوة أو مناظرة، والشيخ الفلاني منع من خطبة أو محاضرة وهلم جرا من الأمثلة، وللتفصيل أكثر في السياق ذاته ارتأيت أن أختار (المهدي المنجرة) رحمه الله (عالم المستقبلات الغواص لأغوار العلاقات الدولية) كاسم كبير ونموذج لهؤلاء المفكرين الذي طالما منع من القيام بمحاضرات وندوات داخل وطنه إلى أن مات ولم تعترف به وسائل الإعلام ولا الطبقة المثقفة المرتزقة، فللدكتور تجارب ممتازة على الصعيد العالمي حيث لا زالت نظرياته تدرس بأكبر الجامعات العالمية، كما أعطى تنبؤات حول مستقبل البشرية، وفي المغرب تحارب أفكاره ونظراته بالنار والحديد.
وأخيًرا، يبقى مفهوم الإبداع محاصرًا من جميع الواجهات في ظل وجود نظام لا يؤمن بمعنى الإبداع، ويتبنى التقدم والنمو جاهلا إياه إلا أن النهضة كي تتحقق يشترط أن تكون إنتاجًا محليًا خالصًا ينطلق من ذوات المبدعين وأفكارهم.
مراد الهاني
- التصنيف: