ثقافة التلبيس - مصطلح (الآخر)!!

منذ 2015-01-20

الأمثلة كثيرة في كتابات المعاصرين ممن يخوضون بجهل وهزيمة نفسية في هذا الموضوع؛ حيث التلبيس المتعمد وتتبع الشبهات والمتشابهات لكي يساووا شر البرية من أصحاب الجحيم بأهل الإيمان والإسلام!

(مع الحملة العسكرية المتصاعدة التي ابتدأتها راعية الصليب في العصر الحاضر على بعض الدول الإسلامية، والتي يُنتظر -حسب ما يخطط له الصليبيون والصهيونيون- أن تعم دول العالم الإسلامي عربًا وعجمًا بدأ يكثر الكلام وترتفع الأصوات في وسائل النشر المتعددة بالحديث عن (الآخر)، حتى أصبح هذا اللفظ بمثابة مصطلح يتداول بين الكتاب، وفي المناقشات والحوارات، وبدأت تغزو أسماعنا مقولات: "ما الموقف من الآخر" و"العلاقة بالآخر" و"ينبغي أن لا تنفي الآخر" و"ينبغي التسامح مع الآخر"، "التعاون مع الآخر" ولا بد أن يكون هناك "موقف حضاري وتعددي من الآخر" ومطلوب "القبول بالتعددية والاعتراف بالآخر" و"الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده، وأفكاره بعيدًا عن ضغوط الإكراه وموجات النفي والإلغاء" و"إعادة الاعتبار إلى الآخر وجودًا ورأيًا ومشاعر" و"اكتشاف العناصر والمفردات الداخلية والخارجية التي تضيق الهوة مع الآخر".

تلك عينة من العينات التي باتت تتردد على ألسنة الكثير من الكتاب والكاتبات. والمقصود بالآخر في هذا الكلام (غير المسلم) أي الكافر، وهذا الكلام موجه للمسلمين، ومن يطالعه يخيل إليه من النظرة الأولى أن المسلمين جماعة من المتخلفين المتوحشين الذين يعيشون حياة بعيدة عن معاني الرقي والتمدن والحضارة!! وأنهم لا ينظرون إلا لأنفسهم إما جهلاً وانغلاقًا، وإما تجبرًا وكبرًا، ثم يدلي كلٌ من هؤلاء الكتاب والمتحدثين برأيه في تعليم المسلمين كيف يكونون متحضرين متقدمين في تعاملهم مع (الآخر) وفي النظرة إلى (الآخرة) وموقفهم من (أفكار الآخر)! وسأحاول بعون الله أن ألقي الضوء على هذه القضية على النحو التالي:

 

 من (الآخر)؟!

كثير من المواطن المطروحة للنقاش في هذا الموضوع تذكر كلمة (الآخر) دون بيان المراد منها، وفي بعضها يبين أن المراد هو (غير الإسلامي)، ولفظ (الآخر) لغةً لا يحمل قيمة دلالية تتعدى أو تتجاوز معنى لفظ (غير) دون أن يكون في ذلك دلالة على المخالفة أو الموافقة؛ فالآخر قد يكون منا، وقد يكون من غيرنا؛ قال الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] قال ابن جرير: "عني بذلك كل لاحق لحق بالذين كانوا صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم في إسلامهم من أي الأجناس؛ لأن الله عز وجل عمَّ بقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}"؛ فهنا وصف (الآخر) بأنه منهم، مما يعني أن (الآخر) قد يراد به المخالف، كما يراد به الموافق، وعلى ذلك فإن هذا اللفظ واسع المعنى يشتمل على أنواع متعددة من الموافقة والمخالفة على تعدد درجاتها، وحينئذ لا ينبغي أن يساق الحديث عن (الآخر) مساقًا واحدًا؛ بحيث يعم الجميع بحكم واحد أو موقف واحد. وقد ظهرت مواقف كثيرة قدمت فيها أوراق وبحوث أغلبها ينطلق من الحديث عن (الآخر) بغير تفريق بين أنواعه، والسلوك الذي يوصف بأنه علمي يستوجب التفصيل حتى لا يكون هناك تجاوز في الأحكام والمواقف.

 

 أنواع (الآخر):

(الآخر) قد يكون كافرًا، وقد يكون مسلمًا، والكافر أنواع: فمنه الكافر الحربي، والكافر الذمي، والكافر المعاهد.

والمسلم أنواع: فمنه المسلم الذي هو من أهل السنة والجماعة، ومنه من هو من أهل البدعة والضلالة. والبدع منها الغليظة المكفِّرة ومنها دون ذلك؛ وإزاء هذا التباين الشديد؛ فإن سَوْق الكلام عن (الآخر) سوقًا واحدًا فيه ظلم كبير، وتجاوز للصواب بيقين، وهو مُوقع في أحد الأطراف: إما الإفراط، وإما التفريط، وقديمًا قالوا: كلا طرفي قصد الأمور ذميم) (ا.هـ من مقال الأستاذ محمد شاكر الشريف بمجلة البيان، العدد 206 بتصرف يسير).

 

قلتُ: ولكل ممن ذكره الأستاذ وفقه الله أحكامه التي تخصه؛ فالتعامل مع الكافر الحربي يختلف عن التعامل مع الكافر الذمي أو المعاهد، والتعامل مع المسلم يختلف عن التعامل مع الكافر، والتعامل مع السني يختلف عن التعامل مع المبتدع.. وهكذا؛ فمن الخطأ والانحراف المساواة بينهم جميعًا في أحكام واحدة.

وقد بين العلماء رعاهم الله هذه الأحكام المتعلقة بكل صنف ممن سبق؛ فألفوا في (أحكام أهل الذمة)، وكتبوا في (أحكام أهل البدعة).. إلخ.

 

أنموذج لمن يحاول مساواة الكافر بالمسلم عند الحديث عن الآخر:

الأمثلة كثيرة في كتابات المعاصرين ممن يخوضون بجهل وهزيمة نفسية في هذا الموضوع؛ حيث التلبيس المتعمد وتتبع الشبهات والمتشابهات لكي يساووا شر البرية من أصحاب الجحيم بأهل الإيمان والإسلام! ويتعجب المسلم لهذا الجلد والحماس في سبيل الهدف السيء السابق؟ هل هو لأجل إرضاء اليهود والنصارى، والظهور أمامهم بمظهر المتمدن المتحضر؟! فالله يقول: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فأربعوا على أنفسكم ياقوم؛ فإننا لم نر من الكفار وأهل الصليب خاصة -رغم مداهناتكم وتزلفكم لهم- سوى المزيد من الاستكبار والتسلط على المسلمين (فكريًا وعسكريًا). فلا للأعداء أرضيتم، ولا لدينكم أبقيتم.

والمثال الذي أورده هنا هو كتيب لأحد مثقفي أهل اليمن (أحمد الدغشي)؛ عنوانه (صورة الآخر في فلسفة التربية الإسلامية) قامت (مجلة المعرفة) عندنا بطباعته وتوزيعه مجانًا! لعله يساهم في تحسين صورة المسلمين أمام أعدائهم بعد أحداث 11سبتمبر (زعموا)! فعالجوا التطرف بـ(تطرف آخر) وتمييع لأحكام الإسلام إرضاء لخصومه؛ وهيهات أن يرضوا كما أخبر تعالى. ولو أنهم وُفقوا لما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ ولبادروا بتبيين أحكام الإسلام العادلة التي تأمر بالبر والقسط مع الكافر (غير الحربي) مع البراءة من كفره، وتنهى وتُشدد في أمر التعدي عليه؛ دون أن ترفعه فوق مكانه الذي أراده الله له بسبب كفره. فكان بإمكانهم الرجوع إلى فتاوى كبار العلماء لدينا المتعلقة بهذا الموضوع؛ أو الرجوع إلى كتابات الدعاة وأهل التربية من أهل العقيدة الصحيحة؛ بدلا من الاقتيات من موائد العصرانيين والمداهنين.

 

مجمل كتيب الأستاذ اليمني يقوم على عبارة شهيرة يرددها بعض المفكرين عند حديثهم عن أحكام الكفار؛ وهي: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)! يزعمون من خلالها أن أحكام الكفار كأحكام المسلمين سواء بسواء!

وهذه العبارة باطلة لا أصل لها كما بين العلماء؛ وعلى رأسهم العلامة المُحدّث الألباني رحمه الله الذي بين تهافتها في مواضع كثيرة من السلسلة الصحيحة والضعيفة، وأنها مخالفة للنصوص الشرعية الصحيحة المفرقة بين المسلم والكافر في الأحكام وفي الحال والمآل (انظر مثلا: الضعيفة 5/195-197).

وقد رد الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف على كتيب الدغشي السابق بمقال نُشر في مجلة (المعرفة- عدد شوال 1425)؛ سأعرضه لاحقًا إن شاء الله.

 

يقول الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:

"الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمّد وآله وصحبه.. وبعد: فقد كثر على ألسنة بعض الكتاب أنه لا تجوز تخطئة المخالف، وأنه يجب احترام الرأي الآخر، وأنه لا يجوز الجزم بأن الصواب مع أحد المختلفين دون الآخر. وهذا القول ليس على إطلاقه؛ لأنه يلزم عليه أن جميع المخالفين لأهل السنة والجماعة على صواب ولا تجوز تخطئتهم، وهذا تضليل؛ لأنه يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة». قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: «هم مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي».

ويلزم على هذا القول أيضًا أن المخالف للدليل في مسائل الاجتهاد لا يقال له مخطئ، ولا يردّ عليه، وهذا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد» فدل على أن أحد المجتهدين المختلفين مخطئ، لكن له أجر على اجتهاده ولا يتابع عليه؛ لأن اجتهاده خالف الدليل، وإنما يصحّ اعتبار هذا القول، وهو عدم الجزم بتخطئة المخالف، في المسائل الاجتهادية التي لم يتبين فيها الدليل مع أحد المختلفين، وهو ما يعبر عنه بقولهم: "لا إنكار في مسائل الاجتهاد"، و"الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد".

وهذا من اختصاص أهل العلم وليس من حق المثقفين والمفكرين الذين ليس عندهم تخصص في معرفة مواضع الاجتهاد وقواعد الاستدلال أن يتكلموا ويكتبوا فيه.

ولو كان لا يخطئ أحد من أصحاب الأقوال والمذاهب لكانت كتب الردود والمعارضات التي ردّ بها العلماء على المخالفين كلها مرفوضة، ولما كان لقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فائدة ولا مدلول؛ لأنه لا تجوز تخطئة المخالف، وهذا لازم باطل؛ فالملزوم باطل.

وما نقرؤه وما نسمعه من اتهام للعلماء الذين يردّون على المخالفين بأنهم يحتكرون الصواب لهم، ويخطؤون مَن خالفهم، وأنهم يصادرون الآراء والأفكار.. إلى آخر ما يقال؛ فهو اتهام باطل؛ فإن العلماء المعتبرين لا يحتكرون الصواب في أقوالهم، وإنما يخطئون مَن خالف الدليل، وأراد قلب الحقائق؛ فيردّون على مَن هذه صفته عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على أهل الضلال في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وشرع لنا الردّ عليهم؛ إحقاقًا للحق، وإزهاقًا للباطل. ولولا ذلك لشاع الضلال في الأرض، وخفي الحق، وصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، بل شرع الله لنا ما هو أعظم من ذلك، وهو جهاد أهل الباطل بالسيف والسنان، وبالحجة والبيان؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73].

وإذا كان حصل من بعض المتعالمين سوء أدب مع المخالفين، وتجاوز للحدود المشروعة في الردّ فهذا لا ينسب إلى العلماء، ولا يتخذ حجّة في السكوت عن بيان الحق، والردّ على المخالف. هذا ما أحببت التنبيه عليه {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه" صالح بن فوزان الفوزان- عضو هيئة كبار العلماء جريدة الجزيرة- عدد 11672/الأحد 27 رجب 1425.

  • -3
  • 0
  • 5,275
المقال السابق
قولهم بـ(نسبية الحقيقة)!
المقال التالي
قولهم: لا بد من فتح المجال لجميع المذاهب في السعودية!!

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً