دلائل النبوة - (3) تكثير الطعام والشراب ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم

منذ 2015-01-22

فقال أبو طلحة: "يا أم سليم قد جاء رسُول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ بالناس وليس عندنا ما نُطعمهم!"، فقالت: "الله ورسوله أعلم"، فانطلق أبو طلحة حَتَّى لقي رسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فأقبلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم وأبو طلحة معه، فقال رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «هلمي يا أُمَّ سليم، ما عندك؟»، فأتت بذلك الخبز فأمر به رسُول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فَفُتَّ وعصرت أم سليم عُكَّة فأدمته، ثم قالَ رسُول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فيه ما شاء أنْ يقولَ، ثم قال: «ائذن لعشرة»، فأذن لهم فأكلوا حَتَّى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: «ائذن لعشرة»، فأذِنَ لهم فأكلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثم خرجوا، ثم قال: «ائذن لعشرة»، فأذن لهم فأكلُوا حَتَّى شبعوا ثم خرجُوا، ثم قال: «ائذن لعشرة»، فأكل القومُ كُلُّهم حَتَّى شَبِعُوا، والقومُ سبعون أو ثمانون رَجُلاً!".

إن من المعجزات الخالدة التي سطرتها السيرة النبوية، والدلائل النبوية التي ذاع صيتها واشتهر أمرها، وانتشرت في أرجاء الأرض بحرها وجوها وبرها، ما أظهر الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم من العلامات الواضحة على صدق نبوته، وعظيم منزلته، ورفعة رسالته، والتي نقلها عنه العدو والصديق والقريب والبعيد، ومن ذلك: بركة الطعام والشراب بين يديه صلى الله عليه وسلم.

وسننقل من النصوص والأحداث والوقائع ما يظهر تلك العظمة وتلك المنزلة الرفيعة التي أوتيها رسول الإسلام بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم:

عن جابررَضيَ اللهُ عَنْهُ قال: "تُوفِّيَ عبد الله بن عمرو بن حرام وعليه دين، فاستعنت النَّبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلم على غُرمائِهِ أنْ يضعُوا مِنْ دَيْنِهِ، فطلب صلى اللهُ عليهِ وسلم  فلم يفعلوا، فقال النَّبيُّ  صلى اللهُ عليهِ وسلم: «اذهب فصنف تمرك أصنافاً، العجوة على حدة، وعذق بن زيد على حدة، ثم أرسل إليَّ»، ففعلت ثم أرسلت إلى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فجاء فجلس أعلى أعلاه، أو في وسطِهِ، ثم قال: «كِلْ للقومِ»،  فكلتهم حَتَّى أوفيت الذي لهم،  وبقي تمري كأنه لم ينقصْ منه شيءٌ"[1]. 

وعن عبد الرحمن بن أبي بكرٍرَضيَ اللهُ عَنْهُما، قال: "كنا مع النَّبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم ثلاثين ومائة، فقال النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم: «هل مع أحد منكم طعام؟»، فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها، فقالَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم: «بيعاً أم عطية؟»، أو قال أم هبة قال: بل بيع، فاشترى منه شاة فصنعت، وأمر النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم بسواد البطن أن يشوى، وأيم الله ما في الثلاثين والمائة إلا وقد حز النَّبيّ صلى اللهُ عليهِ وسلم له حزة من سواد بطنها، إنْ كان شاهِداً أعطاه إيَّاها، وإن كان غائباً خبأ له، فجعل منها قصعتين فأكلوا أجمعون وشبعنا، ففضلت القصعتان، فحملناه على البعير" أو كما قال[2].

وعن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه،  يقول: "قال أبو طلحة لأُمِّ سليم: "لقد سمعت صوت رسُول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك شيء؟"، قالت: "نعم". فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي ولاثتني (أي: لفَّتني) ببعضه، ثم أرسلت إلى رسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، قال: فذهبت به فوجدت رسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم في المسجد ومعه الناسُ فقمت عليهم. فقال لي رسُول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «أرسلك أبو طلحة؟»، فقلت: "نعم"، قال: «بطعام؟»، قلت: "نعم"، فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ لمن معه: «قوموا»، فانطلق وانطلقت بين أيديهم حَتَّى جئت أبا طلحة فأخبرته. فقال أبو طلحة: "يا أم سليم قد جاء رسُول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ  بالناس وليس عندنا ما نُطعمهم!"، فقالت: "الله ورسوله أعلم"، فانطلق أبو طلحة حَتَّى لقي رسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فأقبلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم وأبو طلحة معه، فقال رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «هلمي يا أُمَّ سليم، ما عندك؟»، فأتت بذلك الخبز فأمر به رسُول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم  فَفُتَّ وعصرت أم سليم عُكَّة فأدمته، ثم قالَ رسُول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم  فيه ما شاء أنْ يقولَ، ثم قال: «ائذن لعشرة»، فأذن لهم فأكلوا حَتَّى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: «ائذن لعشرة»، فأذِنَ لهم فأكلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثم خرجوا، ثم قال: «ائذن لعشرة»، فأذن لهم فأكلُوا حَتَّى شبعوا ثم خرجُوا، ثم قال: «ائذن لعشرة»، فأكل القومُ كُلُّهم حَتَّى شَبِعُوا، والقومُ سبعون أو ثمانون رَجُلاً!"[3].

وعن عبد الواحدِ بن أيمن عن أبيهِ،  قَالَ: "أتيتُ جَابِراًرَضيَ اللهُ عَنْهُ،  فقال: "إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدية شديدة، فجاؤا النَّبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فقالُوا: "هذه كُدية عَرَضتْ في الخندقِ"، فقال: «أنا نَازِلٌ»، ثم قام وبطنُهُ معصوبٌ بِحَجَرٍ! ولبثنا ثلاثةَ أيَّامٍ لا نذوقُ ذُواقاً، فأخذ النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم المِعْولَ فضربَ في الكُدية، فعادَ كَثِيباً أهيل أو أهيم، فقلتُ: يا رسُولَ اللهِ، ائذنْ لي إلى البيتِ، فقلتُ لامرأتي: رأيت بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبرٌ، فعندكِ شيءٌ؟ فقالتْ: "عندي شعيرٌ وعَنَاقٌ"، فذبحتِ العَنَاقَ، وطحنتِ الشَّعيرَ حَتَّى جعلنا اللَّحمَ بالبُرمةِ، ثم جئتُ النَّبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلم، والعجين قد انكسر، والبُرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج،  فقلتُ: "طعيم لي، فقم أنتَ يا رسُولَ اللهِ ورجلٌ أو رجلانِ"، قال: «كم هو؟»، فذكرتُ له، فَقَالَ: «كثيرٌ طَيِّبٌ»،  قَالَ: «قُلْ لها لا تنزع البُرمةَ ولا الخبز من التنور حَتَّى آتي»، فقال: «قُومُوا»، فقام المهاجرون والأنصار فلما دخل على امرأته قال: "ويحك، جاء النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم"، قالت: "هل سألك؟"، قلت: نعم. فقال: «ادخلوا ولا تضاغطوا»، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويُخمِّرُ البُرمةَ والتَّنورَ إذا أخذ منه ويقرب أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حَتَّى شبعوا وبقي بقية قال: «كلي هذا أو اهدي،  فإن النَّاسَ أصابتهم مجاعةٌ»[4].

وعن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، حَدَّثني أبي، قَالَ: "كنا مع رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم في غزوةٍ، فأصاب النَّاسَ مخمصةٌ، فاستأذن النَّاسُ رَسُولَ اللهِ في نحرِ بعضِ ظُهُورِهِم، وقالُوا: يبلغنا الله به. فما رأى عمر أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم قد هَمَّ أنْ يأذنَ لهم في نحرِ بعضِ ظُهُورِهِم، قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ،  كيف بنا إذا نحن لقينا القومَ غداً جياعاً أو رجالاً؟ ولكن إنْ رأيتَ يا رَسُولَ اللهِ أنْ تدعوَ لنا ببقايا أزوادِهم فنجمعُها، ثم تدعو الله فيها بالبركة فإن الله تبارك وتعالى سيبلغنا بدعوتك، أو قال: سيُبارك لنا في دعوتك. فدعا النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم ببقايا أزوادِهم، فجعل النَّاسُ يجيئون بالحثيةِ من الطَّعامِ وفوق ذلك، وكان أعلاهم مَنْ جاء بصاعٍ من تمرٍ، فجمعها رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم ثُمَّ قَامَ، فَدَعَا ما شاء اللهُ أنْ يدعوَ، ثم دعا الجيشَ بأوعيتِهم فأمرهم أنْ يحتثوا فما بقي في الجيش وعاء إلا ملأه، فضحكَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم حَتَّى بدتْ نَوَاجِذُهُ، فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رَسُولُ اللهِ لا يلقى الله عبدٌ مؤمنٌ بهما إلا حُجبتْ عنه النَّارُ يومَ القيامةِ»"[5].

وعن دكين بن سعيد الخثعمي قال: "أتينا رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، ونحن أربعون وأربعمائة نسألُهُ الطَّعامَ. فَقَالَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم لعُمَرَ: «قُمْ فأعطهم»، قَالَ: يا رسُولَ اللهِ، ما عندي إلا ما يقيظني والصبية! (قال وكيع: القيظ: في كلام العرب أربعة أشهر) قال: «قُمْ فأعطهم»، قال عمر: يا رسُولَ اللهِ، سَمْعَاً وطَاعةً، قال: فقام عمر وقمنا معه فصعد بنا إلى غُرْفةٍ له، فأخرج المفتاحَ من حِجْزتِهِ، ففتحَ البابَ. قال دُكينٌ: فإذا بالغرفة شبيه بالفصيل الرابض، قال: شأنكم، قال: فأخذ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا حاجتَهُ ما شاء. قال: ثم التفتُّ، وإني لمن آخرِهم، وكأنا لم نُرزأ منه تمرة!"[6]. 

عن مجاهد رحمه الله أن أبا هُرَيْرةَ رضي الله عنه كان يقول: "واللهِ الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدُّ الحجرَ على بطني من الجوعِ، ولقد قعدتُ يوماً على طريقِهم الذي يخرجُون منه، فمرَّ أبو بكرٍ فسألتُهُ عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرَّ فلم يفعل، ثم مَرَّ أبو القاسم صلى اللهُ عليهِ وسلم فتبسَّمَ حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: «يا أبا هِرٍّ»،  قلتُ: لبيك يا رَسُولَ اللهِ. قال: «الحقْ»، ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قَدَحٍ فقال: «من أين هذا اللبن؟»، قالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانةٌ، قال: «أبا هِر!»، قلت: لبيك يا رسُولَ اللهِ، قال: «الحقْ إلى أهل الصُّفَّةِ، فادعُهم لي»، قال: وأهل الصُّفَّةِ أضيافُ الإسلامِ لا يأوون على أهل ولا مال، ولا على أحد إذا أتته (صدقة) أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصُّفَّةِ؟! كنتُ أحقَّ أنْ أُصيبَ مِنْ هذا اللَّبنِ شَرْبةً أتقوَّى بها. فإذا جاءوا أمرني فكنت أُعطيهم، وما عسى أنْ يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعةِ اللهِ وطاعةِ رسولهِ بُدٌّ، فأتيتُهم، فدعوتُهم، فأقبلُوا فاستأذنُوا فأذنَ لهم، وأخذُوا مجالسَهُم من البيتِ. قال: «يا أبا هِر»، قلت: لبيك يا رسُولَ اللهِ. قال: «خُذْ فأعطيهم»، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حَتَّى يروى، ثم يرد عليَّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حَتَّى يروى، ثم يرد القدح، حَتَّى انتهيت إلى النَّبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم، وقد رَوَى القومُ كُلُّهم، فأخذ القدح ثم وضعه على يدِهِ، فنظر إليَّ فتبسم. فقال: «أبا هر!»، قلت: لبيك يا رسُولَ اللهِ. قال: «بقيت أنا وأنت»، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقْعُدْ فاشرب»، فقعدتُ فشربتُ، فقال: «اشربْ»، فشربتُ، فما زال يقول: «اشربْ» حَتَّى قلتُ: لا والذي بعثَكَ بالحقِّ ما أجدُ له مَسْلَكَاً، قال: «فأرني»، فأعطيته القدحَ، فحمد الله،  وسَمَّى، وشَرِبَ الفضلةَ!"[7].

وعن عبيد الله بن إياد بن لقيط بن قيس بن النعمان، قالَ: "لمَّا انطلقَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم وأبو بكر مُستخفينَ مَرَّا (بعبد) يرعى غَنَماً فاستسقياه من اللَّبنِ، فَقَالَ: ما عندي شاةٌ تحلبُ، غير أن هاهنا عَنَاقَاً حملت أول الشتاء، وقد (أخرجت) وما بقي لها لبنٌ، فقال: «ادعُ بها»، فدعا بها فاعتقلها النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم ومَسَحَ ضَرْعَها، ودعا حَتَّى أنزلت، قال: وجاء أبو بكررَضيَ اللهُ عَنْهُ بمحجن فحلب، فسقى أبا بكر، ثم حَلَبَ فسقى الرَّاعي، ثم حلب فشرب، فقال الرَّاعي: بالله من أنت! فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال: «أو تراك تكتم عليَّ حَتَّى أخبرك؟»، قال: نعم، قال: «فإني مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ»، فَقَالَ: أنت الذي تزعمُ قُريشٌ أنَّهُ صابئٌ؟ قال: «إنهم ليقولون ذلك»، قال: فأشهد أنك نبيٌّ، وأشهد أنَّ ما جئتَ به حقٌّ، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبيٌّ، وأنا متبعك. قال: «إنك لا تستطيعُ ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا»"[8].

وعن أبي هُرَيْرةَرَضيَ اللهُ عَنْهُ، قال: "أتيتُ النَّبيَّ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ يوماً بتمرات، فقلت: ادعُ الله لي فيهن بالبركة. قال: «فصفهن بين يديه»، قال: ثم دعا فقال لي: «اجعلهن في مزود وأدخل يدك ولا تنثره»، قال: فحملت منه كذا وكذا وسقاً في سبيل الله، ونأكل ونطعم، وكان لا يفارق حقوي، فلما قُتِلَ عثمانُ رَضيَ اللهُ عَنْهُ انقطعَ عن حقوي فسقط"[9].

ومن دلائل النُّبوُّة: البركةُ في الماءِ القليلِ:

عن أنس بن مالك رَضيَ اللهُ عَنْهُ، قال: "خرج النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم في بعض مخارجِهِ، ومعه ناس من أصحابه، فانطلقوا يسيرون،  فحضرتِ الصَّلاةُ فلم يجدُوا ماءً يتوضأون، فانطلق رجلٌ من القوم، فجاء بِقَدَحٍ من ماءٍ يسيرٍ، فأخذه النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم فتوضَّأَ، ثم مَدَّ أصابعَهُ الأربعَ على القَدَحِ، ثم قال: «قُومُوا فتوضَّأوا»، فتوضَّأ القومُ حَتَّى بلغُوا فيما يُريدون من الوضوءِ، وكانُوا سبعينَ أو نحوه"[10].

وعن أبي رجاء عن عمران،  قال: "كنا في سَفَرٍ مع النَّبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم، وإنا أسرينا حَتَّى إذا كنا في آخرِ اللَّيلِ، وقعنا وقعةً ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حَرُّ الشَّمسِ، وكان أول مَنِ استيقظَ فُلانٌ، ثم فُلانٌ، ثم فُلانٌ، يُسمِّيهم رجاء، فنسي عوف ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ إذا نامَ لم يُوقظْ حَتَّى يكون هو يستيقظُ؛ لأَنَّا لا ندري ما يحدثُ له في نومِهِ. فلمَّا استيقظَ عُمَرَ ورأى ما أصابَ النَّاسَ، وكانَ رَجُلاً جَلِيداً، فكبَّر ورفع صوتَهُ بالتَّكبيرِ، فما زالَ يُكبِّرُ ويرفع صوتَهُ بالتَّكبيرِ، حَتَّى استيقظَ بصوتِهِ النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فلمَّا استيقظَ شكوا إليه الذي أصابَهم، قَالَ: «لا ضَيْرَ» أو " «لا يَضِيرُ»، «ارتحلوا»، فارتحل فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونُودي بالصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال: «ما منعك يا فلان أن تصليَ مع القوم؟»، قال: أصابتني جنابةٌ ولا ماء، قال: «عليكَ بالصَّعيد فإنه يكفيك»، ثم سار النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم فاشتكى إليهِ النَّاسُ مِنَ العطشِ، فنزل فدعا فلاناً كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف، ودعا علياً، فقال: «اذهبا فابتغيا الماء»، فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعيرٍ لها. فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوفاً، قالا لها: انطلقي إذاً، قالت: إلى أين؟، قالا: إلى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، قالت: الذي يُقال له الصَّابئ؟ قالا: هو الذي تعنين فانطلقي، فجاءا بها إلى النَّبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم (وحدثنا الحديث). قال: فاستنزلوها عن بعيرها ودعا النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، وأوكأ أفواههما، وأطلق العزالي ونُودي في الناس اسقُوا واستقوا، فسقي مَن شَاءَ واستقى مَنْ شَاءَ، وكان آخر ذاك أنْ أعطي الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال: «اذهب فأفرغه عليك»، وهي قائمة تنظر إلى ما يُفعل بمائها. وأيم الله لقد أقلعَ عنها، وإنه ليُخيَّلُ إلينا أنَّها أشد ملاءة منها حين ابتدأ فيها، فقال النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم: «اجمعُوا لها من بين عجوة، ودقيقة، وسويقة»، حَتَّى جمعُوا لها طعاماً، فجعلوها في ثوبٍ، وحملوها على بعيرِها، ووضعُوا الثَّوبَ بين يديها. قال لها: «تعلمين ما رزئنا من مائك شيئاً، ولكن الله هو الذي أسقانا»، فأتت أهلَها وقد احتبستْ عنهم، قالوا: ما حبسكِ يا فلانة؟ قالت: العجب لقيني رجلانِ،  فذهبا بي إلى هذا الذي يُقال له الصابئ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحرُ الناس من بين هذه وهذه، وقالت: بإصبعيها الوسطى والسبابة، فرفعتهما إلى السَّماءِ، تعني السماء والأرض، أو إنه لرسُولُ اللهِ حَقَّاً. فكان المسلمون بعد ذلك يُغيرون على مَن حولها من المشركين ولا يُصيبون الصرم الذي هي منه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أنَّ هؤلاء القوم يدعونكم عَمْداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعُوا فدخلوا في الإسلام"[11]. 

وعن علقمة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: "كنا نعدُّ الآيات بركةً، وأنتم تعدُّونها تَخِويفاً، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم في سَفَرٍ فقلَّ الماءُ، فقالُوا: اطلبوا فَضْلةً من ماء فجاءوا بإناءٍ فيه ماءٌ قليلٌ، فأدخل يدَهُ في الإناء،  ثم قال: «حي على الطهور المبارك، والبركة من الله»، فلقد رأيت الماء ينبعُ من بين أصابعِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، ولقد كُنَّا نسمعُ تسبيحَ الطَّعامِ، وهُو يُؤكَلُ"[12].

هذه القصص المذكورة والأحاديث المنشورة تبين لنا عظمة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول رب العالمين حقاً، فتلك الأمور لا يمكن لغيره أن يفعلها، ولم ينقل عن أحد من غير الأنبياء فعل ذلك. وتلك الأحداث والمواقف تزيد المرء إيماناً إلى إيمانه، وحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديراً له وقوة في التمسك بشرعه.

نسأل الله أن يهدينا إلى الحق وأن يثبتنا عليه ويميتنا عليه، ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
---------------

1. (البخاري- الفتح [4/403] رقم [1217] كتاب البيوع- باب الكيل على البائع والمعطي).

2. (البخاري [5/272] رقم [2618]- كتاب الهبة باب قبول الهدية من المشركين).

3. (البخاري- مع الفتح [6/678] رقم [3578]- كتاب المناقب- باب علامات النُّبوُّة في الإسلام).

4. (البخاري- الفتح [7/456] رقم [4101]- كتاب المغازي- غزوة الخندق وهي الأحزاب).

5. (حديث صحيح ورجاله ثقات، مُسند أحمدَ ج [3] ص [417]- كتاب مسند المكيين باب حديث أبي عمرة الأنصاري، وأصل الحديث في صحيح مسلم برقم [27]).

6. (مُسند أحمدَ ج [4] ص [174]- كتاب الشاميين باب حديث دكين بن سعيد الخثعمي عن النَّبيِّ).

7. (البخاري- الفتح [11/286] رقم [6452]- كتاب الرقاق باب كيف كان عيشُ النَّبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم وأصحابه وتخلِّيهم من الدُّنيا).

8. (أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم [874]، والحاكم في المستدرك برقم [4273]، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح).

9. (رواه الإمام أحمد في مسنده برقم [8613]، واللفظ له، ورواه الترمذي في سننه برقم [3839]، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي برقم [3015]).

10. (البخاري الفتح [6/672] رقم [3574]- كتاب المناقب- باب علامات النُّبوُّة في الإسلام).

11. (البخاري- الفتح [1/533] رقم [344]- كتاب التيمم- باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء).

12. (البخاري- الفتح [6/679] رقم [3579]- كتاب المناقب باب علامات النُّبوُّة في الإسلام). 

  • 6
  • 0
  • 15,971
المقال السابق
(2) إخباره صلى الله عليه وسلم بتطاول الفقراء في البنيان، خروج الخوارج، وذكر بعضاً من معجزاته عليه الصلاة والسلام
المقال التالي
(4) شفاء المرضى، الإخبار بالغيب، الإجابات المفحمة من دلائل النبوة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً