من صفات جيل النهضة التمكن من الحق والاستعلاء به
إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير، وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم؛ لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم، ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين! ثم هي الثقة بغلبة دين اللّه على دين الهوى، وبغلبة قوة اللّه الباقية على تلك القوى الفانية.
إن القرآن الكريم يُربي حملته -حملة الحق- الناهضون به، على التمكن من الحق والاستعلاء به، دون الاستعلاء للنفس.
إنما هي العزة للعقيدة، والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة أعداء الله، فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم، ولا يهجس (يخطر) في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها، إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور باللّه، ومنهجه في الحياة.
إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير، وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم؛ لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم، ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين! ثم هي الثقة بغلبة دين اللّه على دين الهوى، وبغلبة قوة اللّه الباقية على تلك القوى الفانية.
أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حساباً، ولا يبغون فيها كذلك فساداً، أولئك هم الذين جعل اللّه لهم الدار الآخرة.
خطاب الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وأتباعه من بعده
لقد خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى {إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل من الآية:79]، ولشم يخاطب الله تعالى أحداً من رسله بمثله، فكان ذلك شهادة لرسوله بالعظمة الكاملة المنزهة عن كل نقص؛ لما دلَّ عليه حرف (عَلَى) من التمكن، وما دلَّ عليه اسم (الْحَقِّ) من معنى جامع لحقائق الأشياء.
وما دلَّ عليه وصف (مبين) من الوضوح والنهوض، وفي الآية إشارة إلى أن الذي يعلم أن الحق في جانبه حقيق بأن يثق بأن الله مُظْهر حقه، ولو بعد حين (التحرير والتنوير: [19/305]).
وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، والصراط المستقيم: هو العمل بالذي أوحي إليه، فكأنه قيل: إنه صراط مستقيم، ولكن عدل عن ذلك إلى {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ليفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم راسخ في الاهتداء إلى مراد الله تعالى كما يتمكن السائر من طريق مستقيم لا يشوبه في سيره تردد في سلوكه ولا خشية الضلال في بنياته.
وهذا تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم وثناء عليه بأنه ما زاغ قيد أنملة عمَّا بعثه الله به، كقوله تعالى {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79] ويتبعه تثبيت المؤمنين على إيمانهم (التحرير والتنوير: [25/260]).
وقال تعالى {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} [الحج من الآية:67]، أمره بالتوكل على اللّه وقلة المبالاة بأعداء الدين، وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج الذي لا يتعلق به الشكّ والظنّ، وفيه بيان أنّ صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع اللّه وبنصرته، وأن مثله لا يُخذل (الكشاف: [3/383]).
فإن قلت: فما الفائدة في ذكر (عَلَى) وكيف يكون المؤمن مستعلياً على الحق وعلى الهدى؟
قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى مع ثباته عليه واستقامته إليه، فكان في الإتيان بأداة (عَلَى) ما يدل على علوه وثبوته واستقامته.
وهذا بخلاف الضلال والريب فإنه يؤتى فيه بأداة (في) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه كقوله تعالى {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة من الآية:45]، وقوله تعالى {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ}[الأنعام من الآية:39]، وقوله تعالى {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:54]، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود من الآية:110]، وتأمل قوله تعالى {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ من الآية:24].
فإن طريق الحق تأخذ علواً صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلاً هاوية بسالكها في أسفل سافلين (التفسير القيم لابن القيم: [1/14])، فصاحب الهدى مستعل بالهدى، مرتفع به، وصاحب الضلال منغمس فيه محتَقر.
فإن قلت: إن ما سبق ذكره من آيات وردت في حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهذا لا خلاف من تمكنه من الهدى، لكن أين المؤمنون من التمكن من الهدى؟
قلت: ورد هذا المعنى في حق المؤمنين في قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}[البقرة:5]، وَقَوْلُهُ {عَلَى هُدًى} تَعْبِيرٌ يُفِيدُ التَّمَكُّنَ مِنَ الشَّيْءِ كَتَمَكُّنِ الْمُسْتَقِرِّ عَلَيْهِ (المنار: [1/115]).
والإتيان بحرف الاستعلاء تمثيل لحالهم بأن شبهت هيئة تمكنهم من الهدى وثباتهم عليه ومحاولتهم الزيادة به والسير في طريق الخيرات بهيئة الراكب في الاعتلاء على المركوب والتمكن من تصريفه والقدرة على إراضته (التحرير والتنوير: [1/239]).
هذا وصف القرآن الكريم للفئة المؤمنة الناهضة بتكاليف الإيمان، فأين نحن من التمكن من الحق، ورفعه، والارتفاع به، والاستعلاء على جميع المناهج الأرضية به؟
توفيق زيادي