هل هذا ظلم؟!
إنَّ (التفكير)، و(التسليم) هما ركنان من أركان الإيمان مرتبطان ارتباطَ وَجْهَي العملة المعدنية، فكيف يصل إلى الإيمان من لا يفكر، ولا يتفكر
هل هذا ظلم؟!
هناك فرق كبير بين أمرٍ يعجز عن إدراكه العقل، وبين أمرٍ يرفضه العقل:
فكثير من العقول المتخصّصة في الرياضيات تعجز عن إدراك النظرية النسبية التي غيّر بها أينشتاين العالَم، وكثير من عقول لاعبي الشطرنج تعجز عن إدراك سرّ بعض نقلات بوريس سباسكي وبوبي فيشر في مبارياتهما العالمية، وقُلْ مثلَ ذلك عن مجالاتِ الحاسب الآلي، والفيزياء المعقّدة، وهندسة الصواريخ.. وإلى ما ذلك.
أما ما يرفضه العقل، فمثاله: أن يكون الولدُ أكبرَ سنًِا من أبيه الذي وُجد قبله، وأن يكون نصفُ الرغيف أكبرَ من كامل الرغيف.
الإنسان العاقل يعلم: أنه عاجزٌ عن الإحاطة بكل شيء:
- عقلُه عاجز عن حلِّ كثير من المسائل البسيطة التي تحلّها آلة (كاسيو) الحاسبة التي لا يزيد ثمنها على عشرين ريالاً!
- يعلم أنّ حاسة شمِّ النملة للسكّر أقوى من حاسّة شمّه، فهو لا يجد للسكّر رائحة بينما تسرع إليه جماعات النمل إسراعًا.
- يعلم أنه لو وضع (1) مللجرام من مادةٍ ما على يده لما أحسّ بثقلها، وأنّ هذا الجزء الواحد من ألف جزء من الغرام هو الموجود في حبّة دواٍءٍ منوّم، لو بلعه لنام ساعات متتاليات!
- يعلم نقص علمه بدليل أنه يتعلم كلَّ يوم ما كان يجهله بالأمس، ولو كان (عالمًا) لما ازداد علمًا، لأنّ قابلية الزيادة أكبر دليل على النقص!
ولن أذهبَ أستقصي هذا لأنه لا يُستقصى!
أتساءلُ الآن: إن الإنسان يُدرك: بعقله، وعاطفته، ووعيه، وبكينونته البشرية أنّ (الله) سبحانه وتعالى موجود. ويدرك أنه عاجز عن إدراك ذاته العلية، وصفاته السّنية، وعجزُه عن إدراك ذاته العلية، لا يقبل أن ينفي وجودها، وعجزُه عن الإحاطة بـ(عدله)، (وحكمته)، و(رحمته)، لا يسمح له أن يصفه بالظلم، حتى وإن (خُدع) هذا (العقل) أحيانًا، كما يُخدع (البصر)؛ فيرى قلمَ الرصاص المغموسَ نصفُه في الماء مكسوراً، فيُصحِّح العقلُ للبصر خطأه، بحكم التجربة السّابقة، ويفسّر له قانون الانكسار الناجمَ عن اختلاف كثافة الماء السائل عن كثافة الهواء.
التساؤل: هل من (الظلم) أنْ يولَد طفلٌ مشوّهًا؟ وأنْ يعانيَ بريءٌ من تعذيبٍ؟ وأن تستعمر أمةٌ أمةً أخرى وتصبَّ عليها ألوان العَسْف؟ والله سبحانه الرحيم القدير لا يمنع حدوث هذا؟
الجواب: لو كان (العقل) البشري القاصر مقياسًا (لحكمة) الله، وقادرًا على الإحاطة بها، لربما قال قائل: نعم، ولكنْ (العقل) الذي أدرك ضآلة حجمه المتناهية، يحترم نفسه، ويعرف قدره، ويحجم عن تجاوزِ حدِّه، ويلجأ إلى التسليم القائم، على (إعمال) العقل، لا على (إهمال) العقل، إن صحَّ التعبير.
وإذا قبل (زيدٌ) و(عمروٌ) أن يسلِّما لجرّاح القلب الشهير قلبَيهما ليجريَ عليهما العملية، ولمهندس السيارات القدير الخبير سيارتهما ليصلحها، فلماذا لا يسلّمانِ لله العليم، الحكيم، الرحيم أمرهما؟!
إنَّ (التفكير)، و(التسليم) هما ركنان من أركان الإيمان مرتبطان ارتباطَ وَجْهَي العملة المعدنية، فكيف يصل إلى الإيمان من لا يفكر، ولا يتفكر:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190،191].
إن الذي (يتفكّر) في خلق السماوات والأرض، وما بثَّ الله فيهما مِن دابة، ويقرأ ما توصل إليه العلماء المختّصون من كشوف يُصاب بالدهشة. ولا يملك إلا الإيمان بوجود خالق متّصف بصفاتٍ من الكمال (يعجز) العقل البشري عن إدراكها. هنا يأتي دور (التسليم) القائم على إعمال العقل الذي يدرك قصورَ نفسه، ومحدوديتَه، وجهلَه، فيقول لما لا يعلمه، وما لا يدركه: لا أعلم، ولا أدرك، ولا يقول: هذا خطأ، وهذا ظلم!
يقول الإمام أبو الفرج بن الجوزي المتوفى عام (597هـ) رحمه الله في كتابه القيّم صيد الخاطر ما معناه:
"تأملتُ حالاً عجيبةً، وهي أنّ الله سبحانه وتعالى قد بنى هذه الأجسامَ في منتهى الحكمة، فدلّ بذلك المصنوعِ على كمال قدرته، ولطيف حكمته (أي: إن التأمل في هذا الجسم المعجز وصفاته المدهشة يدل على صفات صانعه، سبحانه وتعالى). ثم عاد فنقض هذه الأجسام (بالموت)، فتحيّرت العقول بعد إذعانها وتسليمها له بالحكمة في سرّ ذلك الفعل، فأُعلمتْ أن هذه الأجساد ستُعاد يوم القيامة، وأنها لم تُخلق إلا لتجوز في مجاز المعرفة، وتتّجرَ في موسم المعاملة، فاطمأنت العقول لذلك.
ثم رأتْ أشياء من هذا الجنس أعجبَ منه مثل:
1- اخترام شاب في ريعان شبابه ما بلغ المقصودَ من بنيانه.
2- وأخذ طفلٍ من أكفّ أبويه، وهما يتململان لفراقه، ولا يعلمان سرّ سلبه.
3- وإبقاء شيخ هرمٍ لا يدري معنى البقاء، وليس له فيه إلا مجردَ أذى.
4- وتقتير الرزق على المؤمن الحكيم، وتوسعته على الكافر الأحمق، ومثل ما ذكر أمورٌ كثيرة يتحيّر العقل في تعليلها، فيبقى مبهوتًا!".
يقول رحمه الله:
"فلم أزلْ أتلمَّحُ جُملة التكاليف، فإذا عجزتْ قُوى العقل عن الاطلاع على حكمة ذلك، وقد ثبت لها حكمة الفاعل، علمت قصورها عن إدراك جميع المطلوب، فأذعنت مُقرّةً بالعجز. فلو قيل للعقل: قد ثبت عندك حكمة الخالق بما بنى، أفيجوز أن يقدح في حكمته أنه نقض؟ لقال: إني عرفتُ بالبرهان أنه حكيم، وأنا أعجز عن إدراكِ عِلل حكمته، فأُسلّم مُقرّاً بعجزي".
قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مُعلّقاً على هذا الكلام: "هذا هو الحق، وقد أخذه الفيلسوف الألمانيُ الأشْهَرُ (كانْتْ) فقاله بعد قرون طوال".
والله تعالى أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: