عائشة الحميراء .. قدوة النساء

منذ 2015-02-16

وأكتفي بهذا وأسال الله - عز وجل - أن يكون في عائشة - رضي الله عنها - وغيرها من أزواج رسول الله ونساء الصحابة قدوة لنسائنا وأن نكون أيضاً نحن عاملين على تنشئة أزواجنا وبناتنا وأخواتنا على هذا النهج، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المقدمة

الحمد لله هو لكل خير يرتجى، وإليه من كل شر الملتجى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى، وإن هدى الله هو الهدى، من تمسك به اهتدى، ومن حاد عنه ظل وغوى.

أما بعد:

قد سلف لنا أحاديث عديدة حول ما يتعلق بالمرأة المسلمة، وبعض الموضوعات المتعلقة بها، واليوم حديثنا عن " عائشة - رضي الله عنها - " يخدم هذا الجانب على وجه الخصوص، وإن كان في موضوع سيرتها ما هو نافع ومفيد للمجتمع المسلم كله رجالاً ونساءً؛ لأن في مواقفها وتعاملها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ما مر بها من الأحداث والوقائع مع الصحابة رضوان الله عليهم فيه كثير من الدروس والعبر.

والحديث الذي يجري في هذا الصدد أيضاً؛ لأن الحديث عن القدوات في صفوف الرجال يكثر، فقدوات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الأئمة العلماء وعن سلف هذه الأمة، ونذكر الإمام أحمد والشافعي وأبو حنيفة والإمام مالك وغيرهم من هؤلاء، ويقلّ ذكر قدوات النساء فلعل ذكر عائشة - رضي الله عنها - يعتبر مثالاً يحتذى؛ لما لها من عظيم الفضائل وكثير الخصائص - رضي الله عنها - وأرضاها.

فعائشة - رضي الله عنها - كما قال الذهبي: " بنت الإمام الصديق الأكبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر عبد الله بن أبي قحافه عثمان بن عامر "، القرشية التميمية المكية النبوية أم المؤمنين - رضي الله عنها -، قد حازت الفضل من كل جوانبه ونالت الشرف من سائر وجهه وهي التي ولدت في ظلال الإسلام كما قالت: " لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين "، فقد ولدت في الإسلام وفي بيئة إسلامية.

وحتى ندرك بإيجاز أول ما يتعلق بسيرة عائشة - رضي الله عنها -، نقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي ابنة ست سنين، ودخل بها وهي ابنة تسع سنوات، وتوفي عنها صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ثماني عشر سنة، فتأمل هذه السيرة التي أهلّتها بعد ذلك إلى أن تكون قدوة من القدوات، وعلماً من أعلام الأمة الإسلامية كلها مع هذه الفترة الوجيزة.

لكنها كانت فترة عظيمة؛ لالتصاقها برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أهل السير في وصفها أموراً وأوصافاً كثيرة، كما أفاض ذلك ابن كثير في البداية والنهاية، عندما ترجم لها في سنة وفاتها، قال: " أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أزواجه إليه، المبرأة من فوق سبع سموات - رضي الله عنها - وعن أبيها، وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، وكانت عائشة - رضي الله عنها - تكنى بأم عبد الله، وإن لم يكن لها ولد ولم تلد مطلقاً، لكنها ربت ابن أختها أسماء - وهو عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - فكانت تكنى به - رضي الله عنها -.

من خصائص عائشة التي ذكرها ابن كثير

وقد أوجز ابن كثير في هذه الترجمة ما سأذكره بإيجاز ثم يأتي تفصيل بعضه، ذكر جملة وافرة من خصائص عائشة - رضي الله عنها -:

1- لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكر سواها.

2- لم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها.

3- لم يكن في أزواجه أحب إليه منها.

4- قد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حرير مرتين أو ثلاثاً يقول له هذه زوجتك، فتزوج منها بأمر الله ووحي الله - سبحانه وتعالى -.

5- أنها كان لها في القسم يومان يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

6- أنه مات في يومها وفي بيتها، وبين سحرها ونحرها صلى الله عليه وسلم، وجمع إليه بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعات الدنيا له - عليه الصلاة والسلام - وأول ساعة من ساعات الآخرة ثم دفن في بيتها.

7- أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أعلم نساء الأمة على الإطلاق بلا نزاع في ذلك بين أهل العلم، وقد قال أهل العلم في وصف علمها شيئاً كثيراً يأتي ذكره لاحقاً.

عائشة الفاضلة

الميزة الأولى: في سرقة من حرير

فهذه عائشة - رضي الله عنها - ربما ذكر في وصفها على سبيل الإجمال و فضائلها كثيرة مشهورة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد جاء ونزل في حقها آيات تتلى من كتاب الله - عز وجل - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، في الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أريتكِ في المنام ثلاث ليال جاء بكِ الملك في سرقة من حرير - يعني مغطاة بقطعة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت فيه، فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه) وقد أمضاه الله - سبحانه وتعالى -.

الميزة الثانية: القرب من الوحي

وفي فضيلة قربها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستيلائها على عظيم محبته، ورد الحديث الصحيح عن عمر بن العاص وهو ممن أسلم في السنة الثامنة للهجرة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها.

فكانت هي حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك قال الذهبي بعد إيراده هذا الحديث تعليق عليه: " وهذا خبر ثابت صحيح رغم أنوف الروافض، وما كان - عليه السلام - يحب إلا طيباً، وقد قال: (لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل) فأحبَّ أفضل رجلٍ من أمته، وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو حريٌ أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله ".

لأن الرافضة قالت في عائشة - رضي الله عنها - أقوالاً مرفوضة مرذولة قبيحة، حتى أن بعضهم قد غالى في ذلك قولاً يكفر به صاحبه إن اعتقده؛ حيث أنهم فسروا قول الله - عز وجل -: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، قال بعض الغلاة ممن كانوا على هذه النحلة والملة: " هي عائشة "، - تعالى -الله عما يقولون في كتابه علواً كبيراً.

وهذا أيضاً حديث عن هشام بن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة - من معرفة الصحابة لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة أنهم كانوا يهدون إليه في اليوم الذي يكون عندها، حتى يكون ذلك اليوم أكثر سعداً وفرحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم -قالت: فاجتمعن صواحبي إلى أم سلمة - وكانت من كبار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سناً، وسيأتي تفسير الحزبين الذين كانا في أزواج النبي - عليه الصلاة والسلام - بحكم طبيعة المرأة وغيرتها - فقلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فقولي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر الناس أن يهدوا له أينما كان، فذكرت أم سلمه ذلك له، فسكت فلم يرد عليها، فعادت الثانية فلم يرد عليها، فلما كانت الثالثة قال: (يا أم سلمه لا تؤذينني في عائشة؛ فإن الوحي لم يأتيني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة).

وهذه فضيلة لها عن باقي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بيان طبيعة فطرة المرأة مع العصمة بالشرع والبعد عن مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

الميزة الثالثة: أنها ابنة أبي بكر

كان نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر أزواجه، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة، فإذا كانت عند أحد هم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله فأخرّها حتى إذا كان في بيت عائشة بعث بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتكلّم حزب أم سلمة مع أم سلمة؛ لتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها ذلك القول، فقالت أم سلمة في هذه الرواية: أتوب إلى الله من أذاك يا رسول الله.

ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر فكلمته، فقال: يا بنية ألا تحبين ما أحب؟! قالت: بلى! فرجعت إليهن فأخبرتهن، فقيل لها: ارجعي إليه، فأبت أن ترجع، فأرسلوا بعد ذلك زينب بنت جحش رضي الله عنهن جميعاً، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأغلظت له في القول وقالت: إن نساءك ينشدنك الله العدل في ابنة أبي قحافة فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة - أي ببعض القول - وعائشة قاعدة فسبتها - أي ذكرت لها كلاماً شديداً وقاسياً - حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينظر إلى عائشة هل تتكلم. قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها - أي ذكرت لها من القول ما ألجمها وأسكتها - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنها ابنة أبي بكر).

فشهد لها هذا الموقف بفضلها على أزواج رسول الله صلى الله علي وسلم.

الميزة الرابعة: أفضل من خديجة

وبالجملة فهناك خلاف بين أهل العلم في التفضيل بينها وبين خديجة رضي الله عنهن أجمعين، وقد مال الذهبي إلى تفضيل عائشة - رضي الله عنها -.

الميزة الخامسة: الثريد على سائر الطعام

ولذلك ورد عن أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).

وهذا تفضيل لها على سائر نساء أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لما كان لها من علم وسبق وفضل كما سيأتي ذكره.

الميزة السادسة: زوجة في الجنة

وفي مستدرك الحاكم عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله مَن مِن أزواجك في الجنة؟ قال أما إنك منهن، قالت: فخيِّل إلي أن ذاك لأنه لم يتزوج بكراً غيري.

وهذا السؤال في حد ذاته ليس مجرد سؤال عابر، بل هو يدل على فطنة عائشة - رضي الله عنها - وحرصها على الفضل والخير؛ فإنها كانت ترى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشأنه معهن في هذه الحياة الدنيا وإنه كان يقسم لهن، فأرادت أن ترى ما يكون في الآخرة وما تستشرف لها نفسها من أن تكون في الجنة وأن تكون رفيقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن حسن أدب المصطفى - عليه الصلاة والسلام - وكمال هديه ولطفه وبره؛ فإنه أخبر عائشة أنها منهن ولم يفردها بذلك ولم يعرض بغيرها من النساء بل بشرها بذلك، وانقضى ما يدل عليه هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفة أزواجه أنهن معه في الجنة بإذن الله - عز وجل -، ولكن في هذا الحديث بشارة واضحة لعائشة - رضي الله عنها - على وجه الخصوص.

الميزة السابعة: قرب حتى آخر لحظة

ومن الفضائل التي كانت لها أيضاً أنه كما ورد عنها قالت: " توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وفي يومي وليلتي، وبين سحري ونحري، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك رطب فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى ظننت أنه يريده فأخذته - أي أخذت السواك - فمضغته ونفضته وطيبته، ثم دفعته إليه فاستن به كأحسن ما رأيته مستناً قط، ثم ذهب يرفعه اليّ فسقطت يده - صلى الله عليه وسلم -، فأخذت أدعوا له بدعاء كان يدعوا له به جبريل صلى الله علي وسلم وكان هو يدعوا به إذا مرض يدعوا به في مرضه ذاك، فرفع - عليه الصلاة والسلام - بصره إلى السماء وقال: الرفيق الأعلى، وفاضت نفسه، فالحمد لله الذي جمع بين ريقي وريقه في آخر يوم من أيام الدنيا ".

ومن فطنة وحكمة وعدالة زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنهن رأين تعلق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بعائشة في وقت مرضه، وكان يسأل وهو يمرض عند نسائه عن يوم عائشة، فلما رأين ذلك أجمعن أمرهن على أن يجعلن تمريض النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت مرضه إلى عائشة في بيتها في كل الأيام والليالي، وهذا يدل على أهمية الحكمة والعصمة بالشرع في أن تكون أسمى وأرفع من طبيعة الغيرة الموجودة لدى النساء.

عائشة الفقيهة العالمة

هذا الجانب يكاد يكون في غاية الضعف عند نسائنا في هذه الأيام؛ فإننا إذا تحدثنا عن طلب العلم والحرص على دروس العلم ونحو ذلك فكان الغالب في أذهاننا أن ذلك الحديث مخصوص بالشباب ومن الشابات وبالرجال دون النساء، وكذلك نجد أنه البيئة التي نعيش فيها تظهر فيها نماذج من طلبة العلم والحريصين عليه حفظاً لكتاب الله - عز وجل -، وحفظا لسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واطلاعاً على أقوال أهل العلم وكتب الفقهاء، وغير ذلك نجد ذلك في صفوف الرجال والشباب أكثر منه في صفوف النساء، حتى توهم الناس أنه لا يكون للمرأة قدرة على أن يكون حظها من العلم مثل حظ غيرها من الرجال، بل قد سرى إلى بعض الرجال أن المرأة زوجة كانت لهم أو بنتاً أو أختاً أنها دون أن تكون لها صلة بالعلم والاستنباط والفهم والفقه مع أن هذا غير صحيح ونشأ عن هذا فقر مهم وفي نفس الوقت خطير؛ لأن النساء لهن حاجات ومسائل قد يمنعهن الحياء أن يسألن عنها الرجال وخاصة في أمور المعاشرة مع الأزواج وفي أمور الطهارة الخاصة بالنساء.

فلما قل الفقه في النساء أصبح وقوع الخلل منهن لعدم سؤالهن للرجال حياء أو تحرجا أو نحو ذلك أصبح هذا ظاهراً بشكل كبير، وهذا أيضاً مدخل خطير؛ لأن عدم تهيئ المرأة واستعدادها وميلها وعلمها بإمكانية طلبها للعلم ونبوغها فيه وأجرها في ذلك ونفعها لبنات جنسها، جعلها أكثر مناسبة أو تهيئه لأن يصطادها أعداء الله - عز وجل - وأن يشغلوها بأفكار ومطالعات وقرارات بعيدة عما ينفعها في دينها ودنياها وفي آخرتها بإذن الله - عز وجل -.

وكذلك في الحقيقة أرى أن جانب العلم سيما في الأمور التي تخص المرأة من المهم جداً أن تندب لها النساء الصالحات القانتات العابدات، وأن يحث الرجل من له عليه ولاية من النساء على أن تأخذ حظها من العلم وافراً لتنفع نفسها وتنفع بنات جنسها، وأن حديث الرجال إلى النساء قاصر في تأثيره وفي لمسه لحاجتهن ومعرفته بأحوالهن، ولذا يكون لسان المرأة إلى المرأة أبلغ وتعليم المرأة للمرأة أقوى؛ ولأن قدرتها أو لأن الحوائل الشرعية من الحجاب وغير ذلك تمنع أن يكون التواصل العلمي والتربوي كاملا؛ فإنه لا يغني ذلك من جانب الرجال الغناء الكامل، بل لا بد أن يكون في صفوف النساء المسلمات عالمات ومربيات وداعيات؛ لأن علمهن بأحوال النساء وقربهن منهن وقدرتهن على معاشرتهن ومواجهتهن ومكاشفتهن ومصارحتهن تؤدي دوراً أكبر ولذلك أسوق هذه القدوة في العلم للنساء وللرجال كذلك، فان عائشة - رضي الله عنها - قد كان الرجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أشكل عليهم الأمر وأعجزتهم المسألة رجعوا إلى عائشة - رضي الله عنها - فأخبرتهم حكم وخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فلذلك قال الذهبي رحمة الله عليه: " أفقه نساء الأمة على الإطلاق ".

وذكر أن مسند عائشة من الأحاديث يبلغ ألفين ومئتين وعشرة أحاديث اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين حديثاً، ولا يوجد في النساء من هي أكثر رواية لحديث رسول الله من عائشة، لم يكن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدد الكثير من النساء عبثاً، وإنما كان ليطلعن على ما لا يطلع عليه المرأة من زوجها في شأن الأمور الدقيقة، فينقلن هذا العلم والأحكام الشرعية المتعلقة بأخص خصائص ما بين الرجل وزوجته لنساء الأمة ورجالها على حد سواء.

ولذلك قال الذهبي: " لا أعلم في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها ".

وقال الزهري: " لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل".

وقال عطاء بن أبي رباح: " كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة ".

وتأمل هذه الجملة الأخيرة، بل تأمل هذا النص كله، كانت أفقه الناس وأعلم الناس بالفقه غير العلم فالعلم حفظ والفقه استنباط فقد جمعت بين الأمرين معاً، وأحسن الناس رأياً في العامة أي أنها تعرف أمور الناس ومجريات الحياة ما ينبغي أن يكون من التوجيه وكيف تكون هذه الأساليب، وقد ورد في مسند الإمام أحمد في سند صحيح: أن عائشة - رضي الله عنها - استدعت قاص أهل مكة الذي كان يقص لهم القصص، ويعظهم بالمواعظ، وقالت له: لَتعاهدنيّ أو لأقاطعنك - أو معنى كلامها - فقال: علام يا أم المؤمنين أو يا زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قالت: أن لا تمل الناس وأن لا تنقطهم، وإذا حدثهم فحدثهم يعني يوماً ويوماً.

أي لا تملهم بالحديث فقالت له: لا تملهم بطول حديثك وتكراره، ولا تقنطهم بتأييسهم من رحمة الله - عز وجل -، وإكثار الخوف عليهم دون أن تفتح لهم باب الرجاء، وهذا يدلنا على تلك العبارة أنها كان أحسن الناس رأياً في العامة، وقال عروة: " ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة - رضي الله عنها - ".

وهذه الرواية عن عروة تُروى بوجه آخر مفصل يبين لنا أن عائشة كانت على ذكاء وافر وفطنة عجيبة يقول عروة وهو ابن أختها: " صحبت عائشة - رضي الله عنها - فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآيه أنزلت، ولا بفريضة ولا بسنة ولا بشعر ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب ولا بكذا ولا بكذا ولا بقضاء ولا بطب منها ".

فانظر فقد كانت تعرف الأنساب، ولا غرو في ذلك فهي ابنة نسابة قريش أبي بكر - رضي الله عنها -، وكونها تعلم علم القرآن والسنة والفقه لاغرو في ذلك لذلك هو يقول: قلت لها: يا خالة الطب من أين عُلّمته؟ - عرفنا أنك علمت الفقه والأحكام من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والنسب من أبي بكر والشعر من حفظ لكن الطب من أين لك هذا الطب؟ - فقالت: " كنت أمرض فيُنعت لي الشيء، ويمرض المريض فينعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فاحفظه ".

فكانت - رضي الله عنها - طبيبة قلوب، وطبيبة أبدان، فهذا يدل على الفطنة، ويدل على أن عائشة لم تكن اهتماماتها اهتمامات سطحية كحال نساءنا اليوم؛ فإن بعض النساء عندها فطنة، وعندها ذكاء، وعندها سرعة حافظه، لكنها موجهة توجيهاً غير سليم؛ فان عندها فطنة بأن تمزج الموديلات في الملابس فتخلط بين هذا وهذا، وتحفظ هذا وذاك، والأول والثاني، وتعرف أن هذا طراز قديم وهذا طراز حديث! بينما عائشة - رضي الله عنها - كانت لها أذن واعية، وقلب مستقبل لكل ما فيه منفعة في هذه الدنيا والدين على وجه الخصوص، لذلك قال عروة: " فلقد ذهب عامة علمها لم أسأل عنه ".

عروة هو ابن أختها - والذي كان ملازماً لها - والذي روى كثيراً من علمها، يقول: لكثرة علمها وتشعبه أنها ماتت وتوفيت وذهب عامة علمها ولم يستطع أن يسألها عنه لكثرته ومضى الزمان وانتهى عمرها قبل أن يأخذ علمها الغزير، وكانت تحفظ الشعر وترويه كأحسن ما يروي الناس الشعر، ولا تنسوا أن هذا كله والنبي - صلى الله عليه وسلم - توفي عنها وهي ابنة الثامنة عشر عاماً.

ضبطها هذا العمر الذي اليوم ربما ابنة الثامنة عشرة لا همّ لها إلا أن تحسن وجهها، وتنعّم صوتها، وتميل وجهها، وتتكسر في مشيتها، لا تعرف اهتماما عن أمور الدنيا ولا من أمور الدين، ولا تفكر في آخرة، ولا تحوز علماً، ولا تتأهل إلى تربية، ولا تتصدى لفتيا ولا شيئاً من ذلك مطلقاً.

وهذا يدلنا على البون الشاسع بينما كانت عليه أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساء المؤمنين، وبين ما آل إليه الحال - إلا من رحم الله - في عصرنا هذا، ولذلك ينبغي للمرأة أن تفطن إلى ما يتعلق بتحصيل العلم، فقد كانت عائشة - رضي الله عنها - على هذا النحو الواسع من العلم، ولذلك قال الشعبي: " أن عائشة - رضي الله عنها - قالت رويت للبيد نحواً من ألف بيت ".

وكان الشعبي يذكرها - يعني عائشة - فيتعجب من فقهها وعلمها ويقول: " فما ظنكم بأدب النبوة إذا كان هذا العلم الذي تحفظه! "، أي فما ظنكم بالتربية العملية التي تلقتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا لجأ إليها الصحابة رضوان الله عليهم ونهلوا من علمها، وأخذوا من فقهها كثيراً، كما قال ابن سعد في الطبقات: " كانت عائشة - رضي الله عنها - أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "

وكما قال أيضاً: " ما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكون في شيء الا سألوا عنه عائشة فيجدون عندها من ذلك علماً ".

بل قد صنف الزركشي كتاباً كاملاً سماه [الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة] أي فيما استدركت عليهم من الأخطاء التي وقعوا فيها أو الأقوال التي خالفتهم فيها بحجة ودليل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك ما ورد في الصحيح: لما قال عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: رحم الله ابن الخطاب ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإنما قال: (إن الكافر ليعذب بكاء أهله عليه)، وكانت تستدرك وتقول: حسبكم كتاب الله (لا تزر وازره وزر أخرى).

فكان عندها فقه عجيب، وبصر نافذ، وإحاطة شاملة بكثير مما أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك كما قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: "ما رأيت أحداً أعلم بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أفقه في رأي إذا احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية نزلت ولا فريضة من عائشة - رضي الله عنها - ".

والمسائل في هذا الباب كثيرة، فلذلك ينبغي للمرأة المسلمة أن تعرف أنها على قدم سواء مع الرجل في التكليف، وفي الفضائل المتعلقة بتحصيل الثواب من كثرة العبادات ومن تحصيل العلم وطلبه؛ فإن في ذلك خيراً عظيماً لها ولمن وراءها من النساء، وأؤكد على هذه النقطة كثيراً للرجال والنساء؛ لأننا في الحقيقة مقصرون في تمكين المرأة من أن تحوز العلم ومن أن تحصل ما يحتاج إليه وتنتفع به؛ وكما أشرت فإن الأب قد يحرص على ابنه أن يدفعه إلى من يحفظه القرآن ويعلمه بينما لا يلتفت إلى ابنته، مع أن الأمر لو قيل بالمفاضلة لكانت البنت أولى لأنها أكثر تعرضاً للفتنة وبحكم عاطفتها أكثر تعرضاً للإغواء والإغراء بينما ليس كذلك الفتى. وإن كان المسلم مطالب بأن يعتني بتربية أبناءه ذكوراً وإناثاً وتعليمهم على نفس المستوى قدر المستطاع.

عائشة - رضي الله عنها - الزوجة والابنة

وانتقل إلى جانب مهمّ يهمّ الرجال والنساء معاً، ذلكم هو جانب المعاملة الزوجية التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق أجمعين - وبين عائشة - رضي الله عنها -، وهي مَن علمنا فضلها وخصائصها، جملة من الروايات والقصص في معاملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة تكشف لنا عما ينبغي أن يكون عليه الرجل مع زوجته، وما ينبغي أن تكون الزوجة عليه مع زوجها.

الموقف الأول: حسن التودد

فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مظهراً لكل جوانب الرقة والحنان والمحبة والتودد لعائشة، ويشهد لذلك ما ورد في الصحيح عن عائشة تقول: " لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، وإنه ليسترني بردائه؛ لكي أنظر الى لعبهم، يقف من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو ".

فهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو مَن هو في عظمته - يتودد إلى عائشة، ويمكّنها من أن ترى بعض ما يدخل السرور لنفسها ويقف لأجلها، حتى يكون رداء وساتراً لها، ولا يتحرك حتى تنتهي من فرجتها ومطالعتها، ومن متعتها وسرورها تلطفاً منه - عليه الصلاة والسلام -، ومراعاة لها ولسنها، فما بال الرجال يأنفون عن أقل من هذا بكثير! بل يستكثرون به على أزواجهم، ويظنون أن في ذلك إذهاباً لهيبتهم، وأنه لا بد أن يكون الواحد منهم متجهم الوجه، مقطب الجبين، ينظر بعينه شزرا، وتتقد عينه جمراً وإن لم يكن كذلك فلا يكون رجلاً.

هذا لا شك أنه من فرط الجهل في أصول المعاشرة؛ فإن الإنسان قد يتوقى ويتحرز من الناس البعيدين أو الأغراب أما من تكثر الخلطة معهم فلا بد أن تكون معه على لين وتودد وتلطف وعلى ترسل في المعاملة من غير تكلف وعلى إبداء ما عندك دون حرج؛ لأنك ستلقاه كل يوم فلو تحفظت وتحرجت وتهيبت؛ فإنك لا تستطيع أن تستمر على ذلك، قد ترى الإنسان الآن عندما تتعرف عليه أول أمره لا يتكلم معك في خاص أموره، ولا فيما يتعلق ببعض ما يحترز منه من الدعابة والمزاح وكذا، لكن إذا كثرت خلطته وعثرته بدا لك منه كل شيء، فكيف يكون الرجل مع زوجته وهي أقرب الناس إليه وأكثرهم عشرة له، ثم لا يتلطف ولا يتودد ولا يكون في سيرته معها على ما هو طبعه وسجيته دون أن يكون متكلفاً ولا متجهماً.

الموقف الثاني: حسن الهجر

وكذلك من لطائف هذه المعاملة الزوجية ما ورد في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى!.

أي أعرف الوقت الذي تكونين فيه غاضبة أو عاتبة علي، فأولاً ليس هناك من غضاضة ولا جرم ولا كبيرة من الكبائر أن تغضب المرأة على زوجها، لما قد يقع من أسباب الاختلاف المعتادة في حياة الناس، ولكن انظروا إلى أدب عائشة وإلى فطنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

فقالت له: كيف ذلك يا رسول الله؟ أي كيف تعرف رضاي من غضبي، فقال: (إذا كنت راضية عني قلت: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم)، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: أجل والله ما أهجر يا رسول الله إلا اسمك.

فهنا يدل على أنه قد يقع ما يوجب الخلاف والنزاع، ولكن لا بد أن يكون له حده فلا تتجرأ المرأة على زوجها وتشتمه ولا تنتقصه ولا تذكره بما يسؤوه، ولا تنعته بما لا يحب ولا تصفه بما يكره، ولا تنبزه بما هو عيب وإن كان فيه، لئلا توغل صدره وتجعل كما نقول: " من الحبة قبة " ولئلا تنفخ في نار هذه الشحناء البسيطة والمخالفة اليسيرة، فإذا بها تغدوا مشكلة كبيرة وصراعاً عنيفاً لا يحل بسهولة.

ثم انظر إلى أدب عائشة - رضي الله عنها - وحسن تقديرها وتعظيمها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع إشعارها بمرادها، أليس المراد أن تشعره بأنها غضبى حتى يتلطف معها؛ فإنها تشعره بأقل القليل الذي يغني عن غيره، فكانت تقول إذا كانت غضبى: " لا ورب إبراهيم " وإذا كانت راضية تقول: " لا ورب محمد "، وما أخطأت في القولين كليهما، وإنما أحسنت في الأدب، وانظروا الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما قال لها: إني أعرف أنك غاضبة؛ ليقابل غضبها بغضب، وإنما ليستل هذا الغضب ويدخل هذا المدخل اللطيف الودود المحب، ويقول لها مداعباً وملاطفاً: أني أعرف هذه الحالة وهذه الحالة وبيّن لها أنه قد بلغته رسالتها، وعرف مقصدها، وأراد أن يمحو ما كان من سبب هذا الغضب.

الموقف الثالث: قبول الاسترضاء

ومن ذلك أيضاً ما ورد في حديث النعمان بن بشير قال: " استأذن أبو بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا عائشة ترفع صوتها عليه، فقال: يا ابنة فلانة - وهذه أساليب للعرف عجيبة في تعاملهم هي ابنته لكن في هذا الفعل لم يكن راضياً عنها فلم يرد أن ينسبها إليه وهي تفعل فعلاً لا يحبه، فقال: يا ابنة فلانة نسبها إلى أمها - ثم قال: ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! فحال النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبينها، فقد أراد أبو بكر أن يتوجه لعائشة ليضربها ويعنفها ".

وقد استنبط بعض أهل العلم أنه يجوز لأبي البنت أن يربيها وأن يزجرها بحضرة زوجها، لكن انظر " فحال النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبينها "، مع إن النبي - صلى الله عليه وسلم -، هو - إذا صح التعبير - المعتدى عليه، وهي التي رفعت عليه صوتها، ومع ذلك حال بينها وبينه.

" ثم خرج أبو بكر - رضي الله عنه - فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يترضاها أي يترضى عائشة ويتلطف معها - ويقول: ألم تريني حلت بين الرجل وبينك - يستشفع بالموقف الدفاعي الذي وقفه - صلى الله عليه وسلم - ثم استأذن أبو بكر مرة أخرى فسمع تضاحكهما - النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشة - رضي الله عنها - ـ قد أزال النبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن معاملته هذا الأمر الذي كان سبب هذا الغضب ـ فقال أبو بكر: أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما ".

ما أجمل هذا الموقف! وما أرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! وما أحسن تأتي عائشة - صلى الله عليه وسلم - ولينها وانكسارها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ومعلوم أن الحياة الزوجية لا تخلو من المكدرات، ولكن هذه المعاملة هي التي تزيل أسباب الكدر، وإذا كانت هناك مكدرات؛ فإن هناك مهدئات ومسكنات من هذه المعاملة اللطيفة، فقد رفعت المرأة صوتها على زوجها - ولم يكن زوجها أي أحد بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبل منها مراعاة لطبيعتها وغضاًَ للطرف عما سبب لها ذلك الغضب، ثم بعد ذلك حال بينها وبين أبيها، ثم جعل يترضّاها ويستشفع لها بما كان منه من موقف تجاهها ثم تضاحك الزوجان مرة أخرى وعاد الوئام في لحظات.

وإلا فإنه من الممكن أن يطول الأمر والخلاف؛ فإن الكلمة تجر أختها وأحيانا الحركة تجد غيرها وتزداد الشقة والخلاف والنزاع.

الموقف الرابع: سابقني فسابقته

ومن لطيف أيضاً حسن معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحديث هنا لعله يكون أكثر توجيهاً للأزواج والرجال أكثر منه للنساء كل هذه المواقف تربيه في سيرة عائشة والنبي - صلى الله عليه وسلم - لكل الجنسين، ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سابقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فسبقته ما شاء - يعني أكثر من مرة - حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: (يا عائشة هذه بتلك).

موقف جميل جداً لعل الواحد منا يستكثر ما هو أقل منه! ويرى أن ذلك خرماً لمروءته، وجرحاً في عدالته، وإنزالاً من منزلته، فإذا ظن ذلك فليستغفر؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك، ولنا فيه قدوة وأسوة حسنة؛ فإنه كان يتطلف بهذا.

وهذا يدلنا أيضاً على عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه آخر؛ فإنه كان يجيّش الجيوش، ويدرّس الدروس، ويربي الأجيال، ولم يشغله كل ذلك وغيره عن أن يكون مؤدياً الحق لأهله، ومراعياً لزوجته حتى في تفرقه لمسابقتها ومداعبتها وملاعبتها وغير ذلك من الأمور التي ينشغل عنها الناس اليوم، ولا يفطنون لها، ولا يتوددن بها إلى أزواجهم، فتبقى الحياة كاحتكاك الحديد بالحديد ليس هناك بينهم التآلف الذي هو من حسن التودد والتلطف، والذي يزيل هذا الاحتكاك، ويجعل المسائل على أحسن وجه؛ مما يجعل الحياة الزوجية هانئة سعيدة.

الموقف الخامس: يضع فاه على موضع فمها

ومن لطفه - صلى الله عليه وسلم - وعظيم محبته لعائشة - رضي الله عنها -، وهذا حبٌّ فريد منه فهنا يعلمنا ان الحب في ظل الشرع أمر لا حرج فيه؛ فإنه قد قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العظم فأتعرقه - أي تأكل عروق العظم ما بقي من اللحم - ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي). تحبباً وتلطفاً معها وإشعاراً لمنزلتها عنه.

الموقف السادس: يا رب سلط عليّ حية

هنا أيضاً حادثة لطيفة فيما يتعلق فيما بين الزوجات مع أزواجهن.. الرواية عن القاسم عن عائشة - رضي الله عنها -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج أقرع بين نسائه فطارت القرعة لعائشة وحفصة معاً وكان إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر أي نتبادل تجربين هذا البعير وأنا أجرب فقالت: بلى فركبت، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جمل عائشة و عليه حفصة فسلم عليها ثم سار حتى نزلوا وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: يا رب، سلّط عليّ عقرباً أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً! ".

يعني تبدي ما كان من ندمها في هذا الشأن، فهذه مواقف يسيرة من معامله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -، وحسن أدب عائشة مع المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كله يدلنا على ما ينبغي أن يكون بين الرجل وزوجته، ومن ما يتعلق ببعض الاستنباطات الفقهية من عائشة - رضي الله عنها - ودقة علمها وهذا نوع من المواجه؛ حتى ننتقل من مرحله إلى أخرى لأن هناك مواقف أخرى سيأتي ذكرها لاحقا.

الموقف السابع: يا بنية إنك لمباركة

في مسند الإمام أحمد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بتربان بلد بينها وبين المدينة بريد وأميال وهو بلد لا ماء به، وذلك من السحر انسلت قلادة من عنقي فوقعت، فحبس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتمسها حتى طلع الفجر، وليس مع القوم ماء فلقيت من أبي ما لله به عليم من التعنيف والتأفيف - سقط عقدها فانتظر الرسول يبحث عنه حتى طلع الفجر ولم يتحرك القوم وليس عندهم ماء -، فأنزل الله الرخصة في التيمم، فتيمم القوم وصلّوا، قالت: يقول أبي حين جاء من الله الرخصة للمسمين: والله ما علمت يا بنيه إنك المباركة! لما جعل الله للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر.

فهذا مما كان في نزول حكم التيمم ولم يكن فرض قبل ذلك، وهذا كان ببركة وبسبب ما حدث لعائشة - رضي الله عنها -.

الموقف الثامن: يُقبّل وهو صائم

ومن ذلك أيضاً فيما يتعلق بالأحكام الفقهية المنقولة والملتصقة بسيرة عائشة، عن أبي قيس مولى عمر قال: بعثني عبد الله بن عمر إلى أم سلمة وقال: سلها أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّل وهو صائم؟ فإن قالت لا! فقل: إن عائشة تخبر الناس أنه كان يُقبّل وهو صائـم! فقالت له أم سلمة لا! فقال لها ذلك، فقالت له: لعله أنه لم يكن يتمالك عنها حباً أما إياي فلا! لأنها كانت - رضي الله عنها - كبيرة في السن، وهذا حكم أيضاً فقهي فيما يتعلق بهذا.

الموقف التاسع: تنزعي مقلتيك

ومن ذلك أيضاً ما روته بكرة بنت عقبة: أنها دخلت على عائشة وهي جالسة في معصفرة - أي لباس مزين أو فيه صفرة - فسألتها عن الحناء؟ فقالت: شجرة طيبة وماء طهور، وسألتها عن الحفاء فقالت لها: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتضعيها له أحسن مما هما فافعلي.

وهذا من أعظم فقه عائشة بالنسبة للنساء تقول إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك أي عينيك فتصنعينها أحسن مما هما عليه فافعلي، وذلك لكي تكون أقرب وأحب إلى زوجها.

حادثة الإفك

هذا موقف في الحقيقة جديرٌ بأن يكون درساً مستقلاً، ولكني أدرجه في هذا الدرس؛ لأن الحديث عن عائشة يستلزم ذكره وهو ما يتعلق بحادثة الإفك وهي حادثه طويلة، ذكرها الله - تعالى -في كتابه وبرأ فيها عائشة هذه الحادثة نوجزها:

أن عائشة كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في بعض غزواته فلما أرادوا أن ينصرفوا كانت ذهبت لقضاء حاجتها، فجاء القوم ليحملوا هودجها على البعير، وحملوه ولم يشعروا بأنها ليست فيها؛ لأنها كانت خفيفة الوزن في ذلك الوقت، ومضوا فلما رجعت إلى مكانها وإذا القوم قد غادروا فظلت في مكانها لم تتحرك؛ لأنهم سيشعرون بها ويرجعون ليأخذوها، وإذا بصفوان بن معطل كان في آخر الجيش، وبعد مضي الجيش بقليل مرّ، فإذا به يرى سواداً فاقترب فإذا هو يرى عائشة - رضي الله عنها -، قالت: وكان قد رآني قبل أن ينزل الحجاب فاسترجع - أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون - قالت فاستيقظت على استرجاعه فأناخ جمله، قالت: والله ما كلمني حتى بلغنا القوم، فلما بلغت عائشة - رضي الله عنها - القوم تكلم المنافقون ورأسهم عبد الله بن أبي بن سلول.

وخاضوا في وصم عائشة - رضي الله عنها - بالفاحشة مع صفوان بن معطل وكانت عائشة - رضي الله عنها - سليمة القلب سليمة النية، لم تسمع بذلك ولم تشعر به، ثم لما قدمت المدينة وقدم القوم المدينة خاض الناس في ذلك وأشاعوا الكلام، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثر فيه هذا القول وقال: من يعذرني في رجل يتكلم في أهلي؟!

وكان هناك خلاف بين الأوس والخزرج في هذا الشأن؛ لأن عبد الله بن أُبي كان من أحد الفريقين، وكانت مسألة ومحنة عظيمة، ثم إن عائشة - رضي الله عنها - لم تكن قد شعرت بشيء حتى كانت في يوم من الأيام خرجت لتقضي حاجتها مع أم مسطح بن أثاثه - وكان أحد المهاجرين الذين خاضوا في هذا القول وقالوا بهذه الفرية - فلما رجعت عائشة - رضي الله عنها - وأم مسطح عثرت أم مسطح في حجرة، فلما عثرت قالت: تعس مسطح، فقالت عائشة - رضي الله عنها - بسلامة فطرتها وحسن إسلامها -: بئس ما قلت في رجل من المهاجرين ممن شهد بدراً، تدافع عن مسطح، فقالت لها: إنك لا تعلمين ما قال فيك وعلمت بالخبر بعد ذلك.

ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لها: إن كنت ألممت بشيء فاستغفري الله وتوبي فسكتت عائشة - رضي الله عنها - ولم ترد على رسول الله استعظاما لما قال لها، وظلت - كما تقول عائشة - رضي الله عنها - في وصف هذا - شهراً كاملا لا يرقأ لها دمع، تبكي وهي حزينة على هذا الأمر حتى أنزل الله - سبحانه وتعالى - براءتها من فوق سبع سموات، واستأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك واستشار بعض أصحابه فأما بريرة فاثنت وقالت خيراً، وأما أسامه فقال كذلك، وأما علي - رضي الله عنه - فقال: سل الجارية فإن تسألها تصدقك الخبر، وكانت أزمة شديدة تتعلق بعرض رسول الله، ومن حكمة الله - عز وجل - أنه لم ينزل الوحي في ذلك سريعاً بل أبطأ شهراً كاملاً حتى أظهر الله المنافقين وبين مواقف المؤمنين.

وكان درساً عظيماً ذكره الله في سورة النور فيما يتعلق بوجوب التثبت في الأخبار، وفي حسن الظن بالمسلمين، وفي مقارنة المسلم نفسه بأخيه هل يتوقع ذلك من نفسه؟ هل يرضى ذلك لنفسه؟ فإن كان الجواب بالنفي؛ فإنه ينفي ذلك عن أخيه المسلم أيضاً.

وفي ذلك أيضاً تعظيم لحرمة المسلم وعدم الإجراء عليه في عرضه أو في ماله أو في نفسه، وكان هذا الدرس العظيم مدرسة كاملة متعددة الجوانب، حتى الإمام ابن حجر رحمة الله عليه لما ذكر هذا الحديث ذكر فيه من الفوائد أكثر من ثلاثين فائدة كل فائدة من هذه الفوائد تحتاج إلى درس طويل.

شاهد هذا الأمر هو أن عائشة - رضي الله عنها - قد كانت قوية الشخصية؛ فإن بعض النساء من رقتهن وعاطفتهن الغالبة إذا ووجهت بأمر لم تفعله، ثم كثر الكلام ربما غلب على ظنها أن تعترف بهذا الذي لم تفعله وتستغفر منه وتتبرأ منه بعد ذلك؛ لأنها لن تستطيع أن تواجه الضغوط من أقوال الناس والشائعات وغير ذلك، ولكن عائشة - رضي الله عنها - لعلمها بطهارتها وبراءتها وقفت هذه الوقفة القوية بل إنها كانت لها وقفة مع رسول الله بل لما نزلت براءتها قال لها أبو بكر - رضي الله عنه -: قومي إلى رسول الله أي لتستسمحي وتنهي الأمر، فقالت: والله لا أقوم إليه أبداً فإن الله هو الذي أنزل براءتي، ثبات على الموقف وبيان لما كانت عليه من معرفة نفسها وطهارتها وفي ذات الوقت كان درساً للمسلمين عظيماً جداً يقع الناس فيه كثيراً كما قال الله - عز وجل -: (إذ تلقونه بألسنتكم).

وهذا التلقي بالألسنة التلقي يكون بالأذن ولكن قال بعض المفسرين: "إن هؤلاء الذين لا يتثبتون وصف الله تلقيهم بالألسنة؛ لأنهم من الآذان مباشرة يجرونه على الألسنة لا يمرونه على أقوالهم، ولا يمرونه على الواقع، ولا يتأتون فيه، ولا يستثبتون منه و لا شيئاًَ من ذلك بل ينشرونه مباشرة ".

ولذلك بيّن الله - عز وجل - أن هذا من أعظم الفرية ومن أعظم البهتان الذي ينبغي أن يتوقى عنه المسلم، سيما إذا كان يتعرض بعرض أخيه المسلم الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شدة وعظمة حرمته بأنه أعظم من حرمة الكعبة نفسها.

وإن حرمه المسلم عند الله - عز وجل - لها أبلغ وأعلى المراتب، ولذلك كان في وصف هذه الحادثة على لسان عائشة - رضي الله عنها - ما يصور الحالة النفسية التي مرت بها وقوة شخصيتها حتى تجاوزتها وطهارتها عما وصفت به - رضي الله عنها - وأرضاها.

وكما قلت عن الحديث عن حادثة الإفك فيه طول لا يتسع له هذا المقام، ولكن أذكر بعض ما كان من وصف عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحادث لما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما بعد؛ فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا؛ فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، قالت: فلما قضى مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال! والله ما أدري ما أقول لرسول الله قالت: وأنا يومئذ حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في رؤوسكم من كثره ما قيل وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بـريـئـة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أن بريئة لتصدقوني.

نعم كان هذا هو الحال لو اعترفت لكان ذلك أقرب إلى تصديق جميع الناس، ولو أعلنت براءتها لكان أبعد عن التصديق؛ لأنه قد كثر القول وانتشر وشاع، وهذه سمة الشائعة سمة الشائعات إنها تشيع وتنتشر وتكثر حتى يسمعها الإنسان من أكثر من مصدر، فإذا سئل عنها جزم بها قيل له: أمتحقق قال: نعم متحقق، فإذا سألته عن النسبة للخبر ولمن ينسب ومصدره أو أنه قام بالبحث والتأكد من الخبر وجدته صفر اليدين، إذا سألته ممن سمعت الخبر قال: سمعت كذا وكذا أهو الذي سمع ورأى بنفسه كلا هل سمع ممن وقعت له الحادثة كلا! فيبقى الأمر في آخر الأمر كما يقولون كما على وكالة يقولون: (ألا أنهم من إفكهم ليقولون ولد الله).

هذه كلمة يقولون وتناقل الأخبار من غير تثبت من أفتك الأسباب بالمجتمعات وإشاعة الشحناء والبغضاء والاختلافات والنزاعات بين الناس، ولذلك قالت عائشة - رضي الله عنها - بعد أن عجز أبو بكر وعجزت أمها عن أن ترد على رسول الله قالت هذه المقالة قالت: والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف - نسيت اسم يعقوب من شدة حزنها وما وقع لها من البلاء -: (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون).

ثم تقول عائشة: تحولت فاضطجعت إلى فراشي ما تكلمت في هذا القول.

وهنا يدل على قوة شخصيتها - رضي الله عنها - وأرضاها، وكان ممن حُد في ذلك حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة أما غير أولئك فكانوا من المنافقين، وقد كفر أولئك عن ذنبهم بالحد الذي أخذوه ثم بالتوبة الصادقة وقال حسان في مدح عائشة - رضي الله عنها -:

رأيتـك وليغفر الله لك حــرة **** مـن المحصنات غير ذات غوائـل

حصـان رزان ما تزال بريبــة **** وتصبح غرثى من لحـوم الغوافـل

وإن الـذي قـد قيل ليس بلائق **** بك الدهـر بل قيل إمرؤ متماحل

و كيف وودي ما حييت ونصرتي **** لآل رسول الله زيــن المـحافل

وإن لهـم عـزاً يرى الناس دونه **** قصاراً وطـال الـعـز الـتطاول

عـقـيلة حي من لؤي بن غالب **** كـرام المـساعي مجدهم غير زائل

مـهـذبـة قد طيب الله خيمها **** وطـهَّـرها من كل سـوء وباطل

فهذه الحادثة كانت من أعظم الحوادث في سيرة عائشة - رضي الله عنها - وأرضاها.

من صفات عائشة

الزاهدة المنفقة في سبيل الله - عز وجل -:

وهذا أمر مهم بينما عائشة - رضي الله عنها - تضرب المثل في ذلك في أبلغ صورة حتى أنه يهدى إليها الشيء وتهدى إليها الأموال الكثيرة الوفيرة ثم تنفق منها كما ورد: أنها جاءها مال فأنفقت منه، ثم لما جاء المغرب قالت لمولاتها: ائتي لنا بطعام الفطور - تفطر من صومها قالت: لو أبقيت لنا شيئاً حتى نشتري طعاماً، قالت: لولا ذكرتني قد نسيت.

لما كان منها من أمر الإنفاق وحب الإنفاق في سبيل الله - عز وجل -، ولذلك كانت رضي الله عنها على هذا النحو من الإنفاق في سبيل الله - تعالى -، وذكر في ذلك كثير من الأحاديث التي تبين أيضاً مشاركة المرأة لزوجها فيما يتعلق بشظف العيش وما يكون من الشدة التي تمر به أحياناً فقد قالت عائشة - رضي الله عنها - أنه: (ما كان يوقد في بيت رسول الله نار الهلال والهلالان والثلاثة).

وكما قالت - رضي الله عنها -: كان طعامهم الأسودان: التمر والماء.

بل كانت هي أول من خيرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حادثة التخيير المشهورة أن يعطيهن من النعيم والمتاع وكذا أو يكون لهن اتباع رسول الله فآثرن رسول الله، وقد كان الصحابة يؤثرونها بالعطايا في ما بعد وفاة رسول الله، ومن ذلك أن معاوية - رضي الله عنه - بعث لها ثياباً رقاقاً فبكت - رضي الله عنها - وقالت: ما كان هذا على عهد رسول الله! ثم تصدقت به.

وهذا يدلنا على طبيعتها التي تريد للمرأة المسلمة اليوم أن لا تغرها الأموال، وأن لا تغرها لين الثياب، بل تكون أسمى من ذلك وأرقى، خاصة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أكثر أهل النار من النساء، وكذلك ينبهن دوماً إلى التصدق فكانت عائشة - رضي الله عنها - مثالاً راقياً وعالياً في هذا الأمر الذي يتعلق بشأن الإنفاق في سبيل الله - عز وجل - وأيضاً وصفت بأنها: " كانت للدنيا قالية وعن سرورها لاهية ".

وقد أوصاها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن الترمذي: بأن يكون زادها في هذه الحياة الدنيا كزاد الراكب.

ولذلك كانت على هذا النحو من التخفف من الدنيا والإنفاق في سبيل الله - عز وجل -، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يتعهدها بالعطايا، وقد ورد في حديث مرسل: أنه جاء له درج في بعض المعارك - درج في بعض الجواهر واللالئ - واختلف الصحابة في تقسيمه فقال: ما قولكم أن يكون لعائشة - رضي الله عنها -؛ فإنها كانت حبيبة رسول الله! قالوا: الأمر كذلك فعُهد به إلى عائشة - رضي الله عنها - فبكت وقالت لعله ألا يصلي عطاؤه من قابل.

أي أرادت أن لا يكون الأمر كذلك، ولكنها عائشة - رضي الله عنها - وأرضاها فهذا ما كان مروياً أو بعض ما كان مروياً من زهدها - رضي الله عنها - وإنفاقها في سبيل الله - عز وجل -، وعن عروة بن الزبير أنه قال في وصفها: " رأيتها تقسم سبعين ألفاً وهي ترقع درعها ".

العابدة القانتة:

كانت عابدة لأنها عاشت في بيت النبوة ورأت رسول الله يقوم الليل فقالت لعبد الله بن قيس وهذا من وصاياها: " لا تدع قيام الليل؛ فإن رسول الله كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً ".

وعند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن أبي موسى قال: أرسلني مدرك لعائشة - رضي الله عنها - لأسألها، فجئت وهي تصلي فقلت أقعد حتى تفرغ، ثم قلت: هيهات أي متى ستفرغ من صلاتها! أي من شدة طولها.

وكانت - رضي الله عنها - ربما تقرأ الآية فتكررها، كما أثر عنها أنها كانت تقرأ قول الله - عز وجل - في صلاتها (فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم)، فتكررها وتبكي وتقول: " اللهم منّ عليّ وقني عذاب السموم ".

المشاركة في الجهاد

وهذا يدلنا على أن المرأة المسلمة لها دور بارز في جوانب شتى من الحياة، فقد ورد أنها كانت مع نساء المسلمين في يوم أحد في إغاثة المسلمين ومعاونة جرحاهم وسقيا الماء، كما ورد في حديث أنس: رأيت عائشة - رضي الله عنها - وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما - خدم واحدة الخلخال - تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواههم - يعني في أفواه الرجال من الجرحى - ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان تفرغانه في أفواه القوم.

وقد ورد لها موقف فريد أيضاً في وقعة الخندق فقد كانت من النساء اللاتي كن في المدينة وقد كن يحصن في البيوت، وكانت فيها جرأة - رضي الله عنها - فخرجت في أثناء غزوة الخندق تتبع بعض آثار القوم تؤمن؟ بعض الأماكن وجاء في إثرها بعض الصحابة فمروا بها فابتعدت عنهم قليلاً، ثم دخلت على حديقة ومعها عصا أو وتد، فلقيت عمر - رضي الله عنه - أمامها فقال لها:

ما جاء بك لعمر الله؟ لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز - أي تحيز إلى فئة يفر الناس وكذا- تقول عائشة: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذٍ ثم كان في القوم طلحة فرد على عمر وخفف عنها.

زواج عائشة رضي الله عنها

أختم بمسألة مهمة آثرت إرجاءها وهي ما يتعلق بزواج عائشة - رضي الله عنها -، قد خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ابنة ست سنين، وبنى بها ودخل عليها وهي ابنة تسع سنين، وكان ذلك في العام الثاني للهجرة بعد عودته من غزوة بدر وكما قال بعض الكتاب:

"لما انتصر رسول الله وأعز الله الإسلام والمسلمين وخرج الرسول بذلك واطمأنت أقدامه في المدينة كان الوقت مناسباً أن يبني بعائشة - رضي الله عنها -، وفي وصف تلك الحالة تذكر عائشة - رضي الله عنها - ما كان من شأن تغير الجو على المسلمين المهاجرين من مكة لما جاءوا إلى المدينة استوخوموا هواءها وأصابتهم حماها، حتى إن عائشة - رضي الله عنها - تدخل على أبو بكر وبلال - رضي الله عنهما -، وبلال يقول من شدة شوقه إلى مكة ومن شدة معاناته لهذا المرض كان يقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة **** بوادي المحول أذخر وجليل

و هل أردن يوما مياه مجنـة **** وهل يبدون لي شامه وطفيل

شامة وطفيل جبال من جبال مكة.

وأبو بكر كانت تدخل عليه وهو من شده الحمى يقول:

كل امرئ مصبَّح في أهله **** والموت أدنى من شراك نعله

وقد أصاب عائشة - رضي الله عنها - مرض حتى تساقط شعرها وكانت جميعة شعرها قليل الشعر المجموع يعني القليل، وعن ذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا فيها وفي صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها إلى الجحفة).

تقول عائشة - رضي الله عنها -: فلما شفيت كانت أمي تهيئني للزواج وكانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تسمنها بعد أن ضعفت بسبب هذه الحمى قبل أن تدخلني على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة ثم قالت: فجاءتني مرة وأنا العب مع صويحباتي فقالت: هات هات - تعني تعالي - فجئت حتى حسنتني ثم حتى أخذت نفسي ثم جاءت بي رسول الله، وقالت: أهلك يا رسول الله.

وذكرت عائشة - رضي الله عنها - في ما كان في وليمة عرسها ومهرها وما كان من بساطة ذلك قالت: " والله ما ذبح جزور ولا شاة وإنما كان طعام يتهادى به سعد بن عبادة رسول الله، فلما جاء به دعا رسول الله إلى القوم ".

ومن لطائف ما ورد وإن كان فيه انقطاع وبعضه، وهذه الرواية ترد بحديث قد يجبر هذا الضعف:

أن بعض نساء الأنصار كنّ يزينّ عائشة - رضي الله عنها -، وكان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - لبن وأراد أن يعطيهن، فقلن لا نريد فقال: لا تجمعن جوعاً وكذبا، فقد كن يحببن ذلك اللبن ولكنهن يمتنعن حياءً من الرسول.

هنا الأمر متعلق بالزواج المبكر الذي يحتقره بعض الناس ويذكرونه ذكراً فيه ازدراء وانتقاد، وما يعلمون أن في هذا الانتقاد انتقاد لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقول أن الزواج المبكر خير كثير.

من فوائد التبكير في الزواج

1- عصمة ووقاية من الانحراف والمعاصي

سواء للرجل والمرأة وبالنسبة للمرأة حتى لا يكون هناك مجال للتعرض للفتنة أو الاعتداء عليها أو نحو ذلك.

2- مصلحة الاستقرار النفسي المبكر

بدلاً من أن يبقى الحال كما هو حال الناس اليوم تبلغ الفتاة وهي ابن عشر وتتزوج وهي ابنة ثلاثين وتبلغ سن اليأس وهي ابنة أربعين فيكون ما مضى من عمر في الحرمان أكثر مما مضى في نعمة الزواج والمعاشرة، وهذه الفطرة البشرية لا تكون مستقرة إلا بما يحقق غايتها ورغبتها وفق شرع الله - عز وجل -، ولذلك نجد اليوم جنوحاً في الأفكار وشطحاً في العواطف واختلالاً في التفكير واضطرابا في المعاملة كله ناشئ على أن النفس لم تجد بغيتها وحاجتها الغريزية الفطرية في الوقت المناسب وفي الهيئة المناسبة التي شرعها الله - عز وجل -.

3- تكثير النسل والتقارب ما بين الأب وأبنائه

فتكثير النسل لأن هذا يمتد مداه طويلاً فكما قال الشافعي: "رأيت جدة ولها إحدى وعشرين سنة "، جدّة وعمرها واحد وعشرين سنة؟ الآن عمرها واحد وعشرين سنة ولم تتزوج بعد! كيف هذا قد سبق أن ذكرت ذلك مرة تزوجت وعمرها تسع سنوات وولدت بعد سنة فكان عمرها عشر سنوات ثم بعد تسع سنوات تزوجت ابنتها، وبعد سنة أخرى ولدت فكان عمر الأم انتهى إلى الواحد والعشرين وصارت جدة بذلك، فهذا تكثير للنسل.

4- أنه يكون قرب بين الأب والأم وبين الأبناء

ومن حيث السن لا يكون الفارق كبيراً فإن الفارق الكبير في بعض الأحيان كما نرى أن الرجل الكبير يتزوج وهو متأخر يأتي أبناؤه صغاراً فيكون عنده العاطفة والشفقة الشيء الكثير فيغلب جانب حبهم والعطف عليهم دون أن يكون موجهاً أو مربياً لهم ويكون فارق التفكير والاهتمامات بين الأب وابنه كبيراً بينما في غير هذه الصورة في الزواج المبكر يكون على غير هذا النحو والنهج.

ثم هذا كله يدلنا على ما كان من التيسير في الأمور دون التعقيد فيها، فهذه جملة من المواقف التي تتعلق بسيرة عائشة - رضي الله عنها -، وما طويت ذكره أكثر مما ذكرته وأذكر هنا لا يتسنى لنا وقت للإجابة على الأسئلة، ولكن أعلق على ما طلب من ذكر الكتب والأشرطة عن حياة عائشة - رضي الله عنها -.

______________

للاستزادة من خبر عائشة رضي الله عنها

1- سير أعلام النبلاء للذهبي.

2- البداية والنهاية لابن كثير.

3- فصل في فضائل عائشة - رضي الله عنها - من كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد رحمة الله عليه.

4-"عائشة - رضي الله عنها - أم المؤمنين" ضمن سلسلة أعلام المسلمين.

5- "الإجابة فيما استدركته عائشة رضي الله عنها على الصحابة" للزركشي.

7- رسالة في مسألة الزواج المبكر والرد على من نفوه وبيان فوائده وجوازه ومشروعيته، للدكتور ملا خير خاطب.

وأكتفي بهذا وأسال الله - عز وجل - أن يكون في عائشة - رضي الله عنها - وغيرها من أزواج رسول الله ونساء الصحابة قدوة لنسائنا وأن نكون أيضاً نحن عاملين على تنشئة أزواجنا وبناتنا وأخواتنا على هذا النهج، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

علي بن عمر بادحدح

أستاذ بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية

  • 7
  • 2
  • 39,724
  • نور الهدى

      منذ
    مع خالص الإحترام و الحب للسيدة عائشة رضي الله عنها و لكن أن تقول أنها أفضل من خديجة فهي مسألة خلافية لا يجب تثبيتها و قد ذكر الذهبي رحمه الله عن عائشة لا شك أنها أفضل نسائه إلا أن للصديقة خديجة شأو لا يلحق فقد إستثنى خديجة منهن و هذا الصواب و قد جاء في حديث متفق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم خير نسائها مريم بنت عمران و خير نسائها خديجة بنت خويلد فهذا الحديث صريح لا يقبل التأويل بأن خديجة خير نساء أمة محمد مطلقا بلا إستثناء و جمعت مع أفضل إمرأة من حواء إلى قيام الساعة" مريم بنت عمران" عليها السلام

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً