طالبة تحتسب على مديرتها

منذ 2015-02-22

فكوني أيتها المرأة المسلمة المباركة كهذا النملة التي احتسبت على بنات جنسها، فأعلى الله من شأنها، وسطر قصتها في كتابه، وسمى في القرآن سورة كاملة باسمها، فكوني أنت أيتها الفتاة محتسبة أينما كنت، وحيثما حللت وارتحلت، وفقكِ الله إلى كل خير، وصرف عنكِ كل سوء ومكروه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

إن المؤمنين والمؤمنات كالغيث أينما حلّوا نفعوا، فتحت أيّ سماء، وفوق أيّ أرضٍ كانوا يدلّون على الخير، ويحثّون عليه، ويحذّرون من الشر، وينفرّون منه؛ فتجدُ الواحد منهم في مسجده، أو في بيته، أو في سوقه، أو في مدرسته، تجده يحث على الفضائل، ويحذّر من الرذائل، ويحتسب على المنكرات؛ ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعوا إلى الخير وينهى عن الشر...كل ذلك نصيحةً للأمة وتبرئةً للذمّة، وبين يدي الآن نموذج من تلك الطليعة المؤمنة شاهدٌ وعلامةٌ على ما نقول وباختصار: فهذه طالبة مؤمنة احتسبت في مدرستها على مخالفة وقعت فيها مديرتها، ففي يوم من أيام دراستها في المدرسة: "أهمّها أن ترى مديرة المدرسة لا تلبس الجوارب، صعدت إليها، وسلمت في أدب رفيع، وشكرت المديرة على جهدها، وقالت: نحن ندعو لك بظهر الغيب، وأنت القدوة والمربية والموجهة، ثم تبعت ذلك: لا أراك تلبسين الجوارب، وأنت تعلمين أن القدم عورة، وخروجك ودخولك مع البوابة الرسمية عبر أعين الرجال يا أستاذتي الفاضلة!.

طأطأت مديرة المدرسة رأسها، وهي تعلم صدق نصيحة الفتاة، فكان أن قبلت وشكرت، وقالت في نفسها: إن الكلمة الصادقة لها رنين ووقع في النفس.

فرحت الطالبة وهي ترى المديرة تستجيب لله ولرسوله، وتعود من قريب وحمدت الله على قبول النصيحة" [1].

بعض الفوائد المستفادة من هذه القصة:

نستخلص من هذه القصة الجميلة دروسا عدة، ودروسا عظيمة في حياتنا الاحتسابية، ومن هذه الدروس والفوائد ما يأتي:

أولا: أن للمرأة المسلمة مواقف عديدة، وإسهامات فريدة، وأدوار عظيمة -قديما وحديثا- في جانب الدعوة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثانيا: التثبت والتأكد من أن الشخص المراد الاحتساب عليه قد وقع منه الخطأ والزلل فعلاً، لا أن نأخذ الناس بالأوهام والظنون الكاذبة؛ قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات(12)].

ثالثا: ينبغي للمحتسبة أن تشعر النساء المحتسب عليهن بالمحبة لهن، والشفقة عليهن، فذلك هدي الأنبياء - عليهم السلام -، فقد كانوا يقولون لأقوامهم: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف(68)] وذلك بأن تقول المحتسبة للمحتسب عليهن كلمات جميلة، وعبارات جذابة، وألفاظ حسنة حتى تكسب ودهن، وتسلب قلوبهن؛ قال عبد العزيز أحمد: "ما أحوج الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إلى إحساس الناس بأنهم يعيشون هذا الجانب، فمتى شعر الإنسان المدعو أن هدفه من أمره ونهيه - وإنكاره- الخوف عليه من عذاب الله فسرعان ما يستجيب، وإن لم يستجب فإنه لا يحصل منه أذىً في الغالب" [2].

فعلى المحتسبة أن تسعى في تغير القلوب قبل أن تغير المنكرات، وأن تكون فطنة ذكية، فتثني على المحتسب عليها، وتذكر بعض فضائلها قبل الاحتساب عليها، وتبذل الابتسامة الصادقة، والكلمة الطيبة، كما فعلت هذه الطالبة المباركة مع مديرتها، فقد أتت إليها، وسلمت عليها، وشكرتها على جهدها، وقالت لها: "نحن ندعو لك بظهر الغيب، وأنت القدوة والمربية والموجهة... يا أستاذتي الفاضلة" إنها عبارات جميلة، كسبت بها قلب مديرتها..

رابعا: يجب على المحتسبة أن تبادر إلى إنكار المنكرات، وتسارع في تصحيح المخالفات، وأن تبذل وسعها وطاقتها في ذلك، فهذه الطالبة بادرت في الاحتساب على مديرتها، وصعدت إليها، ولم تحتسب عليها في ساحة المدرسة، أو في أي مكان لاقتها فيه، بل ذهبت إليها، وقصدتها.

خامسا: ينبغي للمحتسبة أن تنزل الناس منازلهم، وأن تتخذ مع النساء المحتسب عليهن الأسلوب المناسب لمقامهن ومكانتهن؛ فالنساء لسنَ على درجة واحدة، بل هن متفاوتات، فيُتَخذ مع كل واحدة منهن أسلوبا يناسبها، فالعالمة يتخذ معها أسلوبا يناسبها، والأم يتخذ معهما أسلوبا يناسبهما، ويليق بها، والمديرة يتخذ معها أسلوبا يناسب مقامها، ومكانتها، والزميلة يتخد معها أسلوبا يناسبها، وهكذا..

سادسا: يجب على المحتسبة أن تبين الحكم الشرعي في الأمر المحتسب عليه، ويفضل أن تضيف إلى ذلك ذكر مفاسد ذلك المنكر المحتسب عليه، حتى تكرهه القلوب، وتنفر منه النفوس، وإذا كانت المسألة المحتسب عليها معروفا ترك النساء فعله، فتذكر حكمه، وتعدد بعض فضائله؛ حتى تحبه القلوب، وتشتاق إلى فعله النفوس؛ فهذه الطالبة المباركة ذكرت لمديرتها أن القدم عورة، ثم عددت لها بعض مفاسد كشفها لذلك، فقالت لها: "لا أراك تلبسين الجوارب، وأنت تعلمين أن القدم عورة، وخروجك ودخولك مع البوابة الرسمية عبر أعين الرجال! ".. وهذا يتطلب من المرأة المحتسبة أن تكون متسلحة بالعلم الشرعي، وكذلك العلم بالواقع.

سابعا: ينبغي للمحتسبة أن تكون ذات مصداقية في الحسبة، وأن تخلص فيها، فذلك ادعى لقبولها، وسماع كلامها، فهذه الطالبة كانت صادقة في احتسابها مما جعل مديرتها تستجيب لها، وتذعن لقولها، بل إنها طأطأت رأسها، وشكرت لها موقفها.

ثامنا: يجب على المحتسبة أن تتحلي بخلق الرفق واللين، فـ(ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) [3] فهذه الطالبة كانت لينة في احتسابها على مديرتها، ولم تغلظ لها في القول، بل كانت في غاية من اللين؛ فقد أتت إليها، وأثنت عليها، وقالت لها عبارات جميلة رقيقة؛ كقولها لها: "نحن ندعو لك بظهر الغيب، وأنت القدوة، والمربية والموجهة... يا أستاذتي الفاضلة! ".

فعلى المحتسبة أن تكون لينة؛ وأن تبتعد عن الفظاظة والشدة، فقد نفى الله -تبارك وتعالى- ذلك عن إمام المحتسبين، فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران(159)].

وقال عبد العزيز بن أبي رواد: "كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئاً يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه، ويهتك ستره" [4].

وإليك أيتها المحتسبة المباركة أسوق هذه القصة الرائعة في رفق إمام المحتسبين - عليه الصلاة والسلام -؛ فعن أبي أمامة - رضي الله عنه -: "أن غلاماً شاباً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله تأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قرِّبوه، أُدنُ) فدنا حتى جلس بين يديه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتحبه لأمك؟!)) فقال: لا، جعلني الله فداك. قال: (كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟) قال: لا، جعلني الله فداك، قال: (كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟) قال: لا، جعلني الله فداك، قال: (كذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم) فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره، وقال: (اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فرجه) فلم يكن شيء أبغض إليه منه" [5].

وهذا خليل الله إبراهيم - عليه السلام - يحتسب على أبيه، ويحاوره، ويتطلف معه في الخطاب، فيقول له: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) [مريم(43)]. قال ابن سعدي - رحمه الله -: "وفي هذا الخِطاب مِن اللطف واللين، ما لا يخفَى، فإنَّه لم يقل: "يا أبت أنا عالِم، وأنت جاهِل"، أو "ليس عندك مِن العلم شيء"، وإنما صاغ الخِطاب، بأنا عندي وأنت عندَك عِلم، ولكن الذي وَصَلني لم يصلْك، فينبغي أن تتَّبع الحُجَّة" [6].

فكوني أيتها المحتسبة مقتدية بهؤلاء الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-.

تاسعا: ينبغي للمحتسبة أن تكون قدوة حسنة، وذلك بأن تكون عاملة بما تأمر به، وتاركة لما تنهى عنه، فهذه الطالبة لاشك أنها كانت قدوة حسنة، فإنها لما احتسبت على مديرتها كانت متحجبة؛ وساترة لقدميها، ولابسة للجوارب، مما جعل مديرتها تستجيب لها؛ لأنها رأت فيها القدوة الحسنة، قال أبو بكر الآجري - رحمه الله -: "ولا يكون ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم إلا من بدأ بالنصيحة لنفسه" [7].

فكوني أيتها المحتسبة قدوة حسنة حتى ينفع الله بك، وعليك أن تحذري من مخالفة قولك فعلك، فإن الله- تبارك وتعالى -قد وبخ بني إسرائيل على تناقض أقوالهم مع أفعالهم، فقال: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)[البقرة(44)]، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا عذب عذابا أليما بسبب تناقضه أقواله مع أفعاله، فقال: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه))[8].

قال الشاعر:

يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** كيما يصح به وأنت سقيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى *** بالقول منك ويقبل التعليم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم [9]

عاشرا: ينبغي للمرأة المحتسبة أن تحتسب على أصحاب الوجاهات، وأصحاب الرأي والقرار في المجتمع؛ وأن تهتم بذلك، فإنهن إذا صلحن صلح بصلاحهن خلق كثير، وإذا فسدن فسد بفسادهن خلق كثير، فهذه الطالبة احتسب على مديرتها صاحبة الوجاهة والقرار والرأي في المدرسة، وإذا صلحت المديرة فسيصلح الطلبات بإذن الله.

وهذا لا يعني بحال من الأحوال أنكِ لا تحتسبين عمن دون ذلك، بل عليك بالحسبة على جميع النساء بالحكمة والموعظة الحسنة.

حادي عشر: أن من حق رجال الحسبة علينا -وكذلك نساء الحسبة- أن نشكرهم، وأن نثنى عليهم، وأن نشيد بجهودهم؛ وأن ندافع عنهم، لا أن نتصيد أخطاءهم، ونشكك في مقاصدهم ونياتهم؛ فهذه المديرة المباركة قبلت النصيحة من طالبتها، وشكرت لها صنيعها، بل إنها اعترفت بخطئها، وهذه سمة من سمات أصحاب المعالي.

وقد جاءت نصوص كثيرة ببيان أن من حق المحتسبين على الأمة أن يشكروهم، وأن يثنوا عليهم؛ ومن هذه النصوص ما جاء في حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَسُبُّوا الدّيكَ، فإنَّهُ يُوقِظُ لِلصَّلاةِ))[10].

ففي هذا الحديث نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سب الديك؛ لأنه يوقظ الناس للصلاة، فإذا كان النهي عن سب الديك لهذه العلة؛ فالذين يوقظون الناس من غفلتهم، ويحثونهم على الفضائل، ويحذرونهم من الرذائل، ويعلمون جاهلهم، ويذكرون ناسيهم، ويقبضون على أيدي المفسدين، ويوفقون المجرمين عند حدهم؛ يحرم سبهم من باب أولى، قال المناوي - رحمه الله -: "ومن أعان على طاعة يستحق المدح لا الذم... قال الحليمي: فيه دليل على أن كل من استفيد منه خير لا ينبغي أن يسب ولا يستهان به، بل حقه الإكرام والشكر ويتلقى بالإحسان"[11].

وقال ابن عثيمين - رحمه الله -: "فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبه لهذه المزية التي تميز بها، كما نهي عن قتل النملة؛ لأنها كانت دلت أخواتها على النجاة من سليمان -عليه الصلاة السلام-"[12] فهذه النملة قامت بالحسبة على بقية النمل، وسعت في نجاتهن، فقالت لهن: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل(18)].

فكوني أيتها المرأة المسلمة المباركة كهذا النملة التي احتسبت على بنات جنسها، فأعلى الله من شأنها، وسطر قصتها في كتابه، وسمى في القرآن سورة كاملة باسمها، فكوني أنت أيتها الفتاة محتسبة أينما كنت، وحيثما حللت وارتحلت، وفقكِ الله إلى كل خير، وصرف عنكِ كل سوء ومكروه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.   

[1] ينظر: غراس السنابل، ص(10- 11) لعبد الملك القاسم.

[2] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرها في حفظ الأمة، ص(374) عبد العزيز أحمد المسعود.

[3] رواه مسلم(2594) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

[4] جامع العلوم والحكم (1/236) ط: دار السلام.

[5] رواه أحمد(21708) وصححه الألباني في الصحيحة رقم(370).

[6] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص(444).

[7] شرح البخاري(1/130) لابن بطال.

[8] روه مسلم(2989).

[9] أدب الدنيا والدين، ص(34) للماوردي.

[10] رواه أبو داود(5101)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(2797).

[11] فيض القدير(6/399).

[12] شرح رياض الصالحين(6/472).


عبده قايد الذريبي

  • 0
  • 0
  • 3,164

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً