اللياقات الست - (4) اللياقة العقلية - وسائل تحسين التفكير
كما أن الإنسانَ يستطيع بالرياضة أن يحسِّن من لياقته البدنية، فهو يستطيع كذلك أن يحسِّنَ من تفكيره بطرق عدة.
وسائل تحسين التَّفكير:
كما أن الإنسانَ يستطيع بالرياضة أن يحسِّن من لياقته البدنية، فهو يستطيع كذلك أن يحسِّنَ من تفكيره بطرق عدة، من أهمها: التخلُّق ببعض الأخلاق العليا، الحوار، القراءة، الكتابة، تجنُّب أخطاء التَّفكير.
[1]- التخلُّق ببعض الأخلاق العليا، وما يناسب هذا المقام منها اثنان:
[أ]- قول: لا أدري.
[ب]- الإخلاص في طلَبِ الحق.
• لا يستطيع إنسان أن يحيطَ بكل العلوم، فإذا سُئِل عما لا يعلَمُ أجاب: (لا أدري)؛ حتى يتجنَّب الكلامَ فيما لا يُحسِن، ويسلَمَ من الخطأ، قال الشاعر:
ومَن كان يَهوَى أن يُرى متصدِّرًا *** ويكرَهُ: (لا أدري)، أُصيبَتْ مَقاتِلُه
• الإخلاص في طلبِ الحقيقة والصواب؛ قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ما ناظرتُ أحدًا إلا أحببتُ أن يوفَّق، أو يسدَّد، أو يُعانَ، ويكون له رعاية من الله وحفظ، وما ناظرتُ أحدًا إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحقَّ على لساني أو لسانه، وما ناظرتُ أحدًا فأحببتُ أن يخطئَ، وما ناظرتُ أحدًا على الغَلَبة، إنما على النصيحةِ".
[2]- الحوار: (خاصةً مع المخالِف؛ لنستفيدَ من الصواب الذي عنده):
الحوارُ هو نافذة فِكرية وشعورية بين الفرد وبين الآخرين، والذي يستغني عن الحوارِ يعيش منغلِقًا على ذاتِه، لا يرى الأمورَ إلا من زاويتِه الشخصية، فيكون أكثرَ تعرُّضًا للخطأ، وإن زعَم أو ظن أنه أقربُ إلى الصواب من سواه؛ فالصواب ليس حِكرًا على أحدٍ دون أحد، وما زال أهلُ الحكمة يستشيرون من سواهم في صغير الأمور وكبيرِها؛ لأن الشُّورى كالحوارِ طلبُ التعرُّف على الرأيِ الآخر، وأغلبُ الذين يرفضون الحوارَ يرفضونه بدافعِ الخوف منه: إما لعجزِهم عنه، وإما لضعفِ أدلتِهم وقلة ثقتِهم بما يؤمِنون به من الأفكار، وإما بدافعِ الجمود والتعصُّب، وإما خشيةً من تغييرِ موروثاتٍ عاشت معهم وعاشوا معها، واكتسَبَتْ عندهم القداسةَ والإجلال.
إن كثيرًا من الناس يكوِّنونَ لأنفسهم عالَمًا خاصًّا يظنون أنه العالَم كله، ويُنضِجون في عالَمهم ذاك الكثيرَ من المعايير الخاصة المتولِّدة من بيئة نفسية وفكرية ذاتِ نمط واحد، وهذا الصِّنفُ من الناس يقعُ ضحية للتحيُّر، والتعميم، والتسرُّع في الأحكام، وعدم القدرة على رؤية متوازية، وتكون قدراتُهم على التكيُّف -في العادة - محدودةً، ما يجعل حياتَهم عبارةً عن صراع مستمرٍّ مع ما حولَهم!
"إن المطلوبَ من الحوار لا يُشترط أن يكونَ توحيدَ الرأي دائمًا، وإنما المطلوب هو شرحُ وجهة نظر الأطراف المختلفة، بعضها لبعض؛ أي: أن يُريَ كلُّ طرفٍ الطرفَ الآخَرَ ما لا يراه، وإذا أدَّى الحوارُ إلى تضييق شقَّة الخلاف، فإنه يكون قد أدى كثيرًا مما نطلب منه، ثم إن وَحدة الرأي في كل صغيرةٍ وكبيرة -لا سيما فيما هو محلُّ للاجتهاد - ليست ظاهرةً صحية دائمًا؛ فالتنوُّع المؤطَّر مطلوبٌ كالوحدة" [1].
[3]- القراءة:
إن أولَ كلمة من الوحيِ الذي نزَل على الرسول الخاتَم عليه أفضل صلاة وتسليمٍ هي كلمة {اقْرَأْ} [العلق:1]؛ ولهذا الأمرِ دلالةٌ هائلة على أهميةِ القراءة في الإسلام خاصة، وفي حياةِ الإنسان عامَّة [2].
ولا حاجةَ بنا إلى إثباتِ أهمية القراءة، إلا أن الذي نُريد الإشارةَ إليه في هذا المقام أن القارئَ الواعيَ يضيف إلى خبرته خبراتِ الآخرين، فيعيش حياتَه بشكلٍ أعمقَ وأغنى؛ قال الشاعرُ الحكيم:
ومَن وعى التَّاريخَ في صدرِه *** أضاف أعمارًا إلى عُمرِه
وكذلك الذي يَعِي أفكارَ الآخرين يُضيف أفكارًا إلى فِكره، وعندما سُئِل عبقريُّ الفيزياء الأشهر نيوتن عن سرِّ إنجازاته وتفوُّقِه أجاب: لقد وقفتُ على أكتافِ العمالقة الذين جاؤوا قبلي [3]؛ أي: إنه قرَأ ما كتَبوا، وفهِمه، واستفاد منه، وأضاف إليه.
قال العقَّاد [4] رحمه الله في مقالٍ له بعنوان: (لماذا هَوِيْتُ القراءةَ): "أهوَى القراءةَ لأن عندي حياةً واحدة في هذه الدنيا، وحياةٌ واحدة لا تكفيني, والقراءة دونَ غيرها هي التي تُعطيني أكثرَ من حياةٍ واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تَزيدُ هذه الحياةَ من ناحيةِ العُمق، وإن كانت لا تُطيلُها بمقاديرِ الحساب".
وعند الحديثِ عن القراءة يثُورُ سؤالانِ مهمَّان: ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟
وللإجابة عن السؤال الأول نقول: "إننا حين نقرأُ نستثمر العقل والوقت في القراءة، ولا بد أن يكونَ هذا الاستثمار مربِحًا بقدر المستطاع" [5]؛ فالعالم مملوءٌ بالكتب التي يزيد غثُّها على سَمِينها، فكيف نختارُ منها الأحسَنَ والأجودَ؟
إن في كلِّ عِلم من العلوم أو فنٍّ من الفنون أعلامًا نابِهين مشهورين، أسهَموا فيه وأغنَوْه، وإذا مثَّلْنا لذلك بما يعرفُه الناس، وأخذنا علم التفسير مثلًا، وجدنا مِن أعظم مَن كتب فيه الطبريَّ وابنَ كثير، وإذا أخذنا علم الحديث، فمَن منَّا لا يعرف صحيحيِ البخاري ومسلم؟ وإذا أخذنا المعاجم، فهل ينسى أيُّ دارس للغة العربية معجمي: لسان العرب والقاموس المحيط؟ وإذا ذُكر الشُّعراء، فهل يفوتُ أحدًا دواوينُ المتنبي، وأبي تمَّام، والبُحتري، وأبي العلاء المعرِّي؟ وهكذا.. فمن الأنفعِ إذًا أن نقرَأ للروَّاد في كل علمٍ أو فنٍّ نُريدُ دراستَه، أو الاطلاعَ عليه، وليس عسيرًا معرفةُ هؤلاء؛ فالمتخصِّصون في كل علمٍ يعرفون عظماءَ مَن كتبوا فيه.
وللإجابة عن السؤال الثاني: كيف نقرأ؟ نقول: القراءة أنواع، أهمها: القراءةُ الجادة الواعية للكتب الأساسية، وهذه تحتاجُ إلى جُهدٍ، وتركيز، وتكرار، وغالبًا ما يكون القارئُ ممسكًا بالقلم ليضع خطًّا تحت المهمِّ من الأفكار، وللتعليق، والتلخيص، والإضافة، والاستفسار، وهذه القراءةُ هي التي تكوِّنُ العِلم، وأوضحُ أمثلتِها الكتبُ المقرَّرة على الطلاب في المدارس والجامعات.
وتأتي بعد ذلك المطالَعة التي يقلُّ فيها نصيبُ الجُهد، ويرتفع نصيب الاستمتاع، وتكون فيما سوى ذلك من الكتبِ، وأوضحُ أمثلتِها قراءةُ الصحف والمجلات، وهكذا نجد مِن الكتب ما تستغرق قراءتُه الأيامَ الطوال والليالي، ولا بد من العودةِ إليه مرة إثر أخرى، ومنها ما نصحبُه سويعةً نقرأ فيها مقدمتَه، ونطَّلع على فِهرسه وخاتمته، ونقلِّبُ صفحتَه لنقرأ فيها ما يثير اهتمامنا، أو نحتاج إليه، ونكونُ بذلك قد تعرَّفْنا على الكتابِ، فإما نتركه إلى غيرِ رَجْعة، وإما نرجع إليه إذا دعَتْنا الحاجةُ إليه.
وهكذا نجد أن القراءةَ تُمدنا بموادِّ المعرفة والتَّفكير، ولكنها وحدها لا تصنَعُ منَّا مفكرين؛ لأن التَّفكيرَ كما قال جون لوك: "هو الذي يجعَلُ ما نقرؤُه مِلكًا لنا" [6].
"ومن هنا، فإن بعضَ المفكِّرين كان يتجه إلى تغليب التَّفكير على القراءة، وبعضهم يتَّجِه إلى تغليب القراءة على التَّفكير، ولكن مِن المتفق عليه أنه لا بد من تخصيصِ وقت للقراءة، ووقت للتفكير، ويمكن أن نغلِّبَ القراءةَ في البداية حتى نهيئَ لعقولنا مادة التَّفكير؛ فالطاحون لا تصنع شيئًا دون وجودِ شيء تطحنه".
[4]- الكتابة:
"ومما يساعدُ على التَّفكير المركَّز أن ندوِّن الأفكارَ التي نحتاج إليها، أو تخطر لنا فيما يتعلق بموضوعِ تفكيرنا، ومن الضروريِّ مراجعةُ تلكم الأفكار، حتى نُبقيَ على مسارات تفكيرنا الأصلي، فلا نبدأ باتجاه، وننتهي إلى اتجاه آخر" [7].
ويقول هنري هنري هازليت [8]: "إن الكتابةَ ترتبط ارتباطًا متينًا بالتَّفكير، وهي عاملٌ مساعِد على التركيز، وبطؤُها هو النقصُ الوحيد فيها، ولكن مزيتَها المهمة هي أنها تحفَظُ الفكر، والأفكارُ سريعة الهروب؛ لذا كانت الطريقةُ المثلى لاقتناصها تقييدَها بالكتابة عقبَ لَمَعانِها في الذِّهن؛ إذ يجوزُ أن تضيعَ إلى الأبد".
"ولتسهيل كتابةِ أفكارك وتأمُّلاتِك أقترح عليك الاحتفاظَ بدفتر صغير خاص بهذا الغرض، وأن تحملَ معك دائمًا قلمًا وورقًا [9] حتى تكونَ مستعدًّا دائمًا لتدوينِ ما يحتاج إلى التدوينِ بسرعة واختصار".
بعد هذا نأتي للحديثِ عن بعض أخطاء التَّفكير التي يساعدُنا اجتنابُها على الوصولِ إلى التَّفكير السديد.
_________________________
[1]- فصول في التفكير الموضوعي - د. عبدالكريم بكار: [ 275-277].
[2]- ولفظة (القرآن) ذاتها التي هي عَلَمٌ على خاتَم الكتب تعني - فيما تعنيه - القراءةَ؛ فهي مصدر (قرَأ) على وزنِ فُعلان؛ كغُفران وشُكران؛ انظر: المعجم الوسيط [2/729].
[3]- التفكير علم وفن - هنري هازليت: [271].
[4]- أنا: [85]، بتصرف.
[5]- فصول في التفكير الموضوعي، د/ عبدالكريم بكار: [30].
[6]- التفكير علم وفن، هنري هازليت: [133].
[7]- فصول في التفكير الموضوعي، د/ عبدالكريم بكار: [32-34] بتصرف.
[8]- التفكير علم وفن: [179-181 ] بتصرف.
[9]- قال الشاعر العربي: لا بد للطالبِ مِن كُناشِ *** يكتُبُ فيه قاعدًا أو ماشي
وجاء في المعجم الوسيط [2/807]: الكُنَاشة: الأوراق تُجعَل كالدفتر، تُقيَّد فيها الفوائدُ والشواردُ.
- التصنيف:
- المصدر: