بشّروا ولا تنفّروا

منذ 2015-03-28

تأمل عزيزي القارئ في قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3]. ثلاث ترغيباتٍ وترهيبٌ واحد: مغفرة الذنب، قبول التوبة، الطَّول: أي المنُّ والعطاء، وبينهم شديد العقاب.

تسمو النفس البشرية بأخلاقها وحسن سريرتها وتهافت الناس عليها من خلال الكلمة الطيبة والقول اللين الذي يقرب قلوب المؤمنين، فالمتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة، اتباعاً لسنن الله في الكون واقتداء بهدي رسول الله  صلى الله عليه وسلم  تتيسر له الأمور وتذلل الصعاب، لاسيما إذا كان ممن يتصدى لدعوة الناس إلى الحق فإنه مضطر إلى استشعار اللين والرفق كما قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فُصِّلت: 34].

ولقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشيراً لأتباعه، نذيراً لأعدائه، بل كانت مهمة الرسل لا تعدو هذين الوصفين: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الأنعام: 48]، وقد أمر الله في كتابه بتبشير المؤمنين والصابرين والمحسنين والمخبتين في آيات كثيرة.

وأمر سيد الدعاة عليه الصلاة والسلام بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن يقول ربّ العزة سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].

فقد بينت الآية لرسول الله  صلى الله عليه وسلم  ولمن بعده من المؤمنين أن منهج الدعوة إلى الإسلام قائم على هذه الأُسس الثلاثة: الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.

أورد ابن قتيبة في عيون الأخبار قال دخل أحد الناس على هارون الرشيد فقال: يا هارون الرشيد ائذن لي أن أقول لك كلاماً؟ قال: قل. فرفع صوته وأغضبه، وقال: إنك ظلمت وجرت، وفعلت وفعلت، فغضب هارون الرشيد حتى احمر وجه، ثم قال: يا هذا أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].

الإسلام، معناه التبشير بالدِّين والتّيسير على الناس وعدم تنفيرهم بالغلظة والفظاظة، بل دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة وتذكيرهم برحمة أرحم الراحمين، إن العلماء والدعاة ومحبي الخير هم رسل سلام ورحمة في الحقيقة، فإذا خالف أحدهم هذا المنهج وأصبح ينفِّر الناس بشدّته وقسوته ويقنّطهم من رحمة الله فإنما لخلل في نفسه هو، وإلا فإن رسالة الإسلام رسالة حب وسلام ورحمة وهداية، يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].

من أحب الخير والدعوة له وجب عليه أن يعرف مداخل القلوب، وألا يكون عنيفاً في أسلوبه، مجرّحاً للشعور، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.

والبعض يتكلم للناس بمثالية وتعالٍ، وكأنه في برج عالٍ أو من فصيلة أخرى لا يذنب ولا يخطئ، والله يقول: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21]، لماذا لا نعترف بإنسانيتنا وقصورنا وعجزنا؟ ولا نزكي أنفسنا، ولماذا لا نخاطب الناس على أننا مثلهم وهم مثلنا كلّنا بشرٌ نصيب ونخطئ، نذنب ونستغفر، ننجح ونخفق، لا أحد منّا يملك الوصاية المطلقة على الإسلام، ولا أحد منّا هو الناطق الرسمي الوحيد باسم بالدِّين، فليس عندنا في الإسلام "بابا" كلّنا أهل رسالة ربّانّية عالمية هي رسالة سلام وإخاء وبشرى وهداية ورحمة، لا أحد أذكى ولا أطهر ولا أنبل ولا أكرم من محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، ولهذا ذكّره ربه بالأسلوب الجميل في الدعوة فقال تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].

ومن حكمته  صلى الله عليه وسلم  أنه استعمل أساليب التبشير في إيقاظ الهمم في الدعوة والتنشيط للطاعة، ومن ذلك قوله: «بشّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» (رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني).

وصلى العشاء مرة بأصحابه، وقبل أن ينصرفوا قال لهم: «على رسلكم. أبشروا. إن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم» (رواه البخاري)، قال أبو موسى الأشعري: "فرجعنا ففرحنا بما سمعنا من رسول صلى الله عليه وسلم ".

وعن أبي هريرة  رضي الله عنه  أن أعرابيّاً بالَ في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وأهريقوا على بوله ذَنوبًا من ماء، أو سجلاً من ماء، فإنَّما بُعِثتم ميسِّرين ولم تُبعَثوا معسِّرين» (متفق عليه).

وقال  صلى الله عليه وسلم: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا» (رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي).

وقال الإمام البخاريُّ بعد ذكر الحديث: "وكان يحب التخفيف واليسر على الناس".

أورد الإمام المناوي في شرح الحديث: "أي خذوا بما فيه التيسير على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة في جميع الأيام لئلا يثقل عليهم فينفروا وذلك لأن التيسير في التعليم يور? قبول الطاعة ويرغب في العبادة ويسهل به العلم والعمل".

بَعَثَ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم  أَبا مُوسى وَمُعاذاً، إِلى الْيَمَنِ فَقالَ: «يَسِّرا وَلاتُعْسِّرا، وَبَشِّرا وَلا تُنَفِّرا، وَتَطاوَعا» (رواه مسلم).

وكان من سنة النبي الكريم  صلى الله عليه وسلم  إذا أمّر أميراً على جيش أو ولى شخصاً ولاية أوصاه بتقوى الله والرفق والتيسير (صحيح مسلم) والقيام بما يجب عليهم في حق الله وتجاه المدعوين وخير شاهد على ذلك وصيته لأبي موسى ومعاذ  رضي الله عنهما  السالفة الذكر لما بعثهما إلى اليمن، قال الإمام النووي رحمه الله: "وفيه وصية الإمام الولاة وإن كانوا أهل فضل وصلاح كمعاذ وأبي موسى  رضي الله عنهما  فإن الذكرى تنفع المؤمنين" (شرح النَّووي لصحيح مسلم).

أيها القراء الأعزاء إن الكتاب والسنة بشَّرا بالتوبة واللطف من الله والرحمة الواسعة والبعد عن القنوط قال  تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمر: 53].

إن مفاتيح الجنّة بيد الله وحده جل في علاه، ولاشك أن منهج القران يأمر بالتوازن ويغلِّب التبشير على التنفير.

تأمل عزيزي القارئ في قوله  تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3]. ثلاث ترغيباتٍ وترهيبٌ واحد: مغفرة الذنب، قبول التوبة، الطَّول: أي المنُّ والعطاء، وبينهم شديد العقاب.

وفي الحديث الصحيح أن رجلاً عابداً نصح أحد العصاة فلم يستجب له العاصي، فقال العابد للعاصي: والله لا يغفر الله لك، فقال الله  تعالى: «من الذي يتألَّى عليَّ؟ أشهدكم أني غفرت لهذا العاصي وأحبطتُ عمل هذا العابد».

إذاً أيها الإخوة الفضلاء دعونا نقدِّم بشرى للناس لهذا الدِّين الخاتم ونجعله حلاًّ لمآسيهم ومشكلاتهم؛ لأن رسوله الكريم جاء كما وصفه ربُّه تبارك وتعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 15].

فمهمَّته إزالة العُسر والمشقة والعنت وإدخال السرور والأمن والرضا والسكينة.
 

عبد الله بن سليمان الرثيع

  • 30
  • 1
  • 98,703

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً